يقف الشبان كل مساء بجانب مقهى الحي، ينتظرون غروب الشمس. كل يوم في فصل الصيف يمر أحرّ من سابقه. لا حديث لمن لا عمل، ولا بحر له الا عن ارتفاع درجات الحرارة. الجو حامض، والعطالة قاتلة. الأيام تمر قاسية وبطيئة مثل الآلة التي تضغط على الزفت، وتسويه مع الأرض. البعض يجلس، ويُسند ظهره على الحائط، ويتابع ما يشد انتباهه من فتيات ونساء يسرن في الزقاق، خاصة من يلبسن الجلباب والشبشب، ويتغنجن في مشيتهن مثل البط أو الحمام.
دخلت امرأة تجاوزت الأربعين دكان سليم مصلح أجهزة التلفاز، وبائع الأسطوانات.
سليم بنى سدة مفروشة يصعد إليها من أسفل عبر سُلّم من خشب. ما يستغرب له من يعرفه حق المعرفة، هو أن يستقبل نساء في دكانه لغرض لا علاقة له بمهنته. الرجل معروف عنه هوسه بالغلمان، أو أن أنفه أعوج بتعبير أهل المدينة القديمة.
وضع ميثاقا اعتباطيا مع أبناء الحي. يُسمعهم ما يطلبونه من أغاني بمكبر الصوت، مقابل احترام زبائنه من الغلمان.
قال علال لشبان يجلسون بجانبه:
ـ سبحان الله! هذه المرأة التي دخلت دكان سليم، جسدها جفّ من الماء، ويبست عيدانها، وسليم لا يحب النساء؟!
رد عليه ولد العطار:
ـ أعرف أمها. تزور دكان والدي من حين لآخر، تقتني الكثير من الأعشاب والبخور. تعتقد المسكينة بأن إحداهن سحرت لابنتها بدافع الحسد أو الانتقام، فتأخر عنها قطار الزواج. وهي تسكن في الحي المجاور، وتقول بأن ابنتها معلمة تشتغل بمنطقة تامصلوحت.
كل مساء تمر من الحي، وتدخل دكان سليم. الشيطان لا بد أنه فك عقدتها من غير بخور ولا حرز*. لم يكد ينتهي فصل الصيف حتى ذاع في الحي خبر زواجها من عليوة السياق*. عليوة المسكين يشتغل طيابا بالحمام طيلة السنة. ويعمل (رشايشي)* مع الطبالة في المواسم والأعراس.
الحمقاء أفتى عليها سليم والغلمان الذين يزورون دكانه بين الفينة والأخرى، أن تراسل النيابة الإقليمية، وتطلب الانتقال إلى مدينة مراكش قصد الالتحاق بزوجها. وهو ما فعلته.
لم ينجز عليوة شهادة العمل حتى رأى النجوم بالنهار. ولولا تدخل سليم وأصدقائه لما ظفر بها.
بعد أيام انتشر الخبر بين الموظفين في النيابة مثل النكتة، وهو ما جعلهم يتغامزون بتناقله بينهم حتى وصل إلى النائب الإقليمي. عندما اطلع النائب على الطلب استدعى المعلمة وزوجها في بداية الموسم الدراسي.
مكانة النائب في بداية الثمانينات من القرن الماضي لا تقل قيمة عن مكانة عامل الإقليم. وزيارة النيابة من طرف عليوة أو حتى زوجته المعلمة لم تكن بالأمر السهل في ذلك الوقت. أحسا برهبة وخوف من المقابلة. وكانا يطلبان من الله أن تمر بخير، ويجمع النائب شملهما.
انتظرا حوالي ساعة ونصف قبل أن يأمرهما الكاتب بالدخول. وجدا المكتب كبيرا وفارغا من سيده. وقفا متوجسين، وكأنهما ينتظران عبور الصراط المستقيم، والوقت ولد الحرام يمر مثل السلحفاة. فجأة خرج النائب من باب داخلي، وتقدم للجلوس في مكتبه. أخذ قلما، وشرع يلعب به بين أصابعه، ثم رفع بصره إليهما سائلا ماذا يريدان.
فتحت المعلمة حقيبتها، وأخرجت ورقة، وقدمتها له بيد ترتعش من شدة الخوف.
تفحّصها ثم سأل عليوة ماذا يعمل، فأجاب:
ـ طياب* نْعَماس*!
رد عليه النائب بقسوة:
ـ ألا توجد حمامات بقرية تمصلوحت؟
لاذ بالصمت، فأعاد عليه السؤال:
تلعثم عليوة، أجاب هذه المرة، وفرائصه ترتعد:
ـ موجودة (نْعَماس)*!؟
ثم نظر إلى المعلمة، وخاطبها بنفس القسوة:
ـ من يجب أن ينتقل عند الآخر؟ الخابية أم الغراف*؟!
بقيت صامتة للحظة، ثم أجابت بارتباك:
ـ الغراف أسيدي!
المعجم :
ـ الحرز: ورقة يكتب فيها المشعوذون بعض الطلاسم ويطوونها في كيس صغير من جلد أو نحاس، وتشد بخيط في العنف مثل العقد.
ـ رشايشي: يغني مع المجموعة، ويعزف مثلهم بضرب كفيه على بعض.
ـ السيّاق أو الطيّاب : عامل بالحمام يحك، ويغسل للزبائن مقابل أجر، يقل أو يكثر حسب وضع الزبون وكرمه.
ـ نعماس : نعم سيدي باللهجة المحلية.
ـ الغُرّاف: الكأس
حاميد اليوسفي
مراكش 02 يونيو 2023
دخلت امرأة تجاوزت الأربعين دكان سليم مصلح أجهزة التلفاز، وبائع الأسطوانات.
سليم بنى سدة مفروشة يصعد إليها من أسفل عبر سُلّم من خشب. ما يستغرب له من يعرفه حق المعرفة، هو أن يستقبل نساء في دكانه لغرض لا علاقة له بمهنته. الرجل معروف عنه هوسه بالغلمان، أو أن أنفه أعوج بتعبير أهل المدينة القديمة.
وضع ميثاقا اعتباطيا مع أبناء الحي. يُسمعهم ما يطلبونه من أغاني بمكبر الصوت، مقابل احترام زبائنه من الغلمان.
قال علال لشبان يجلسون بجانبه:
ـ سبحان الله! هذه المرأة التي دخلت دكان سليم، جسدها جفّ من الماء، ويبست عيدانها، وسليم لا يحب النساء؟!
رد عليه ولد العطار:
ـ أعرف أمها. تزور دكان والدي من حين لآخر، تقتني الكثير من الأعشاب والبخور. تعتقد المسكينة بأن إحداهن سحرت لابنتها بدافع الحسد أو الانتقام، فتأخر عنها قطار الزواج. وهي تسكن في الحي المجاور، وتقول بأن ابنتها معلمة تشتغل بمنطقة تامصلوحت.
كل مساء تمر من الحي، وتدخل دكان سليم. الشيطان لا بد أنه فك عقدتها من غير بخور ولا حرز*. لم يكد ينتهي فصل الصيف حتى ذاع في الحي خبر زواجها من عليوة السياق*. عليوة المسكين يشتغل طيابا بالحمام طيلة السنة. ويعمل (رشايشي)* مع الطبالة في المواسم والأعراس.
الحمقاء أفتى عليها سليم والغلمان الذين يزورون دكانه بين الفينة والأخرى، أن تراسل النيابة الإقليمية، وتطلب الانتقال إلى مدينة مراكش قصد الالتحاق بزوجها. وهو ما فعلته.
لم ينجز عليوة شهادة العمل حتى رأى النجوم بالنهار. ولولا تدخل سليم وأصدقائه لما ظفر بها.
بعد أيام انتشر الخبر بين الموظفين في النيابة مثل النكتة، وهو ما جعلهم يتغامزون بتناقله بينهم حتى وصل إلى النائب الإقليمي. عندما اطلع النائب على الطلب استدعى المعلمة وزوجها في بداية الموسم الدراسي.
مكانة النائب في بداية الثمانينات من القرن الماضي لا تقل قيمة عن مكانة عامل الإقليم. وزيارة النيابة من طرف عليوة أو حتى زوجته المعلمة لم تكن بالأمر السهل في ذلك الوقت. أحسا برهبة وخوف من المقابلة. وكانا يطلبان من الله أن تمر بخير، ويجمع النائب شملهما.
انتظرا حوالي ساعة ونصف قبل أن يأمرهما الكاتب بالدخول. وجدا المكتب كبيرا وفارغا من سيده. وقفا متوجسين، وكأنهما ينتظران عبور الصراط المستقيم، والوقت ولد الحرام يمر مثل السلحفاة. فجأة خرج النائب من باب داخلي، وتقدم للجلوس في مكتبه. أخذ قلما، وشرع يلعب به بين أصابعه، ثم رفع بصره إليهما سائلا ماذا يريدان.
فتحت المعلمة حقيبتها، وأخرجت ورقة، وقدمتها له بيد ترتعش من شدة الخوف.
تفحّصها ثم سأل عليوة ماذا يعمل، فأجاب:
ـ طياب* نْعَماس*!
رد عليه النائب بقسوة:
ـ ألا توجد حمامات بقرية تمصلوحت؟
لاذ بالصمت، فأعاد عليه السؤال:
تلعثم عليوة، أجاب هذه المرة، وفرائصه ترتعد:
ـ موجودة (نْعَماس)*!؟
ثم نظر إلى المعلمة، وخاطبها بنفس القسوة:
ـ من يجب أن ينتقل عند الآخر؟ الخابية أم الغراف*؟!
بقيت صامتة للحظة، ثم أجابت بارتباك:
ـ الغراف أسيدي!
المعجم :
ـ الحرز: ورقة يكتب فيها المشعوذون بعض الطلاسم ويطوونها في كيس صغير من جلد أو نحاس، وتشد بخيط في العنف مثل العقد.
ـ رشايشي: يغني مع المجموعة، ويعزف مثلهم بضرب كفيه على بعض.
ـ السيّاق أو الطيّاب : عامل بالحمام يحك، ويغسل للزبائن مقابل أجر، يقل أو يكثر حسب وضع الزبون وكرمه.
ـ نعماس : نعم سيدي باللهجة المحلية.
ـ الغُرّاف: الكأس
حاميد اليوسفي
مراكش 02 يونيو 2023