يعقوب المحرقي - كتابي حين تعانقنا

الى عمر
من وضع كفي قسما على الكتاب
إلى سعود وشلة طفولة الماء


"الصداقة هي تجانس الأرواح"
( الكوين )
" ليكبر الطفل تلزم قرية بكاملها "
( مثل افريقي )
"كتاب جيد هو صديق جيد "
(جاك هنري برناردن دو سان بيير)


البحر ازرق
كتمرد زمرد زمن طفولي
عصي على التصنيف
حصيف الطوية جلي المعاني
في سندسه تلعب غزلان الماء
ويسرح الثعبان
له رموز الخلق وتقلبات النجوى
وله طلوع الشمس ومغربها
وله غربة من سافروا
ولم تعرف ارجلهم مسارات العودة
نقرا من رسائل زبده الابيض
ونتوسد نجومه الطرية الوثيرة
كريش الإله في رغده وطراوة لسانه
ينط ويتقافز فيه السمك الشوكي والفضي وذي الزعانف الرهيفة والعظام اللينة الطرية من الأحمر
الى المنقط بالأصفر والأحمر الوردي الى الهلامي الشفيف
الذي كاد يخصينا كما اعتقدنا حينها بحدسنا الطفولي المقيت
فلذنا بنعيم احضان الأمهات
كن في نبع الماء يحنين فتيات الربيع لعرس وشيك وفرحة ستغمر القرية بالحلوى الملونة واكياس (الملبس)
و(شعر البنات والعنبري والكليجه)
وفي الليل لنا السمر عوض الدوخي والحانه الحزينة في خمارة الخيال ولنا عود فريد الاطرش الرنان
كنا لا نهاب الحرائق التي تشعل ذاتها منتحرة اوتلك التي يشعلونها لاجلاء الفقراء من اكواخهم وسلبهم الأرض التي حرم الناس سبيها
في الأشهر الحرم
كانت غزالات الماء تاتينا الى قريب الدار لري عطشها وانعاش ظمأها بشروى نقير ونقطة
من رحيق العسل
على شفاه قمر خجول
يطل على الحصوات
بين انحسار البحر فيلمع الحصى كذهب يخرج عاريا من البحر
ليغتسل عند ارجلنا.
حفاة نذهب بين الماء والماء
لنقطف صغار السمك
واطفال السلطعون
بما يشبه المباخر المحناة بعجينة الخبز وقليلا من طحين الذاكرة وهلوسات الوقت الضائع
في قيلولة الأزرق
تنام النوارس
على الأشرعة المطوية
في قوارب الصيادين
ويغفوا الصيادون
في بيوت من سعف النخيل
اما الغاق السوقطري ( اللوهة)
مع صغيره عنيبر البحر
فينامان بعيدا عن الشاطيء لحمايةمؤخراتهم من غدر البنادق وكانت قليلة ولكنها كشر مستطار
الطفولة ملاعب ومطاردات وكون يدور بعلب فارغة في تراب القرية
(السللنغو ) و ( الخشيشه ) (والقلينه ) (والمطواع )
كن المفضلات قبل اكتشاف القرطاس ورهبة الكتاب وقصص الخرافة وتوهج الحروف وتدفق الكلمات
الى الأذان نسكر
على اسطح ألوهم في الأعياد ونركض خلف سيدة الشرق
في قواربها المثقلة بالحنان
و المحبة والهجران وعذابات الحب
اكبر من عقولنا الصغيرة
المولعة بزرقة الماء
ومن قلوبنا المرتبكة المتيمة
باوهام فتيات صغيرات كالربيع
لا نراهن سوى في الخيال
في زمن كان الرغيف الساخن
يفتت مع السكر الشهي والزيت ليصبح كحلوى العيد لذيذا
فشكرا لأم عمر الرحيمة
التي حولت الطحينة
إلى خبز والأخرى التي نقلته
الى معدة الجوع الطفولي
بمعية رفقة الماء.
كم سبحنا وسبحنا بحاني القلب
على سجادة النشوى
وفي امل يكاد يكون فاكهة مشتهاة
القواقع كانت تنادينا بصفيرها الخفي وترسم في شفق ذاهب
الى مواعيده السرية على ورق اللوز وسعف النخيل وبتلات قلوبنا عالمنا الازرق الموشى بحاني الغناء
وتراتيل النجوم
لم تكن قرية خرجت من البحر
كوعد لقاء مع نيازك الشوق
كانت حصاة مصقولة برائحة الريحان ولون الزعفران
كانت المدرسة التي حضنتنا
في عش الطفولة
واهدتنا أولى اللقيمات
من منقارها الذهب
كانت القلب الراجف بحبنا
والدرب الذي انار دواخلنا
كانت النغمة والنعمة
واللؤلؤة التي غرق الأسلاف
في صيدها
كانت الدانة التي قالتها الاسطورة ورددتها الرمال البيضاء الناعمة تسف الماء نجوما في ليالينا المتخيلة
كانت الوسادة
التي آوت احلامنا الطفولية
ولحنت لنا اجمل الأغاني
لنومنا الشهي
كانت الروح
التي رفعت عاليا سماء قمرنا
هذه الأم والأب والإله
ومسجده الأبيض على البحر ودبته التي نرتقيها لنراقب النيازك والشهب المتساقطة كانت ولعنا اليومي
باللعب وعب الماء القراح
والركض خلف اوهام الطفولة
كانت مدارجنا المأمولة
نحو الرجوله والكهولة
كانت افقنا ووطننا
وبيت قصيدنا
الكتابة والقراءة
وقرآننا الذي خفنا على ورقه
من عث الزمان القادم
كانت تخرج الينا عارية من بحر أحلامنا الوردية فنلف جسدها الطري بمناشف الحب
ونعطرها بصلوات من فاكهة النور
كانت نورنا ونوار روحنا
هي تلك الفتاة التي اقترف بحقها الأقارب جريمة الواد
هي التي دفنت زاهية بتراب الجرافات العمياء المغرورة
تلك كانت ولم اعد اعرفها
يعيش على بقاياها اهلي واحبتي
وما تبقى من ذكرياتي
ويعيش طيف جميل اسمه عمر
علمنا كيف نختار الكتاب
ونقسم على قراءته حتى الختام
وثلة الاحبة في طفولة الماء
سعود على الرأس يتذكرون
بما تبقى من شيخوخة المساء
حلل الذهب وتراتيل القصب وسكرات الأسطح وليالي رمضان وملاعب الطفولة
بحنين وشغف الطيور
وهناك النوارس وطيور الغاق السوقطري وصغارها من العنيبر
هاجروا جميعآ حين وصلت الجرافات فقتلت البحر
وجرت الجثة لقبر في التراب
غاض الماء واختفى الرمل
وتراجعت الاسماك
ونام الصيادون في فراشهم الغريب وعاشت القرية غربة الماء
والرجال غربة الروح
كانت قرب البحر ساحرة الحسن
يمشط الرمل شعرها صباح مساء وغاصت في قلبي بين أوراق الذكريات المذهلة
اخرجتها للنجوى وتأمل الحنين ودفء القلب في ليالي الشتاء
لمن لم يسمع باسمها ويمتعه رونقها ويضمخه اريجها هي في القلب يحرسها بحر من احلام الطفولة مدجج بغناء النوارس ورطب الأيام القادمة في قوارب الصيادين
ينام فيها الأمل الذي لايخيب
ولا يخون ولاتجرفه الرمال
ويبني عليه الطامعون
علب الاسمنت البشعة
وغابات الحديد المحزنة
اسمها كان سري الكبير
خرج من بحر احلامي
فاتحا ذراعيه لمعانقة الحب
اسمها البهي الطلعة
صار تاريخا للأزرق
في فيضه وغيضه وحرقة اللقاء
اسمه الكتاب وسارق الأوهام
وحناء الحصى المغسول بالماء
هكذا عرفنا قريتنا وعرفتنا
على الرمل وفي احضان الماء
هكذا كانت وستبقى طافية
تحت اشرعة الذكريات
واجنحة النوارس البيضاء
هكذا كانت وستبقى مكحلة
بسرمد القمر وهوى الحياة
هي مالم يقله لنا الكتاب
عرفه عمر
بحدس العاشق وكاد ينتحر
ورقصت حول ناره ثلة الأصدقاء
هو ذات الاسم ياتيني كل فجر
ليلقي التحية ويذهب في غائر الذكريات
وغادر غدر الجرافات
انه شاسع وواسع كالكون
وزرقة السماء
انه ( ام الحصم ) التي لم تزف
إلى بحرها في ليلة العرس
لم يكن عمر معنا
كان الكتاب وثلة الأصدقاء
قرانا ماتيسر منه
على الماء ثم فرقنا الزمان
كون بحجم اكفنا
يدور بخذروف
كبندول الساعة العربية
معلقة تدق
في اذني الإمام الأصم الأعمى
تقوده فتاته الصغيرة إلى المحراب بعيدا عن الماء
وتضع يديه على صدر النور
فاذا ما عجز
قادته الى فم المايكروفون
ليؤجج المصليين
على شياطين العالم
السماء والأرض
كانتا كسياج وأحد
لقصر ملك لانراه
ولن نراه
فذهب بنا الخيال
إلى قيعان تترجرج فيها حصوات تلمع ويقطر عسلها بين اصابعها كخلية نحل في ريعان الربيع
جنون الكائنات في عاصف برد الشتاء
صدى الانات
على جدران الاسمنت
بعظام السمك الميت
وبقايا نوارس الماء
واسم يضيء ويخبو
في منفاه البحري البعيد :
( ام الحصم ) .


------
هامش لا مفر منه ويحوي الكلمات والاسماء العامية المنقرضة ؛

السللنغو :
علب معدنية فارغة تصف فوق بعضها كالبرج. من يسقطها كلها يفوز بجولة اخرى.وان خسر يخرج من اللعبة.
الخشيشه :
ولها في بعص البلدان العربية اسماء أخرى .وهي التخفي خلف جدار اوشجرة ومن يجد الشخص المتخفي يقود المجموعة.
القلينة والمطواع :
كورة ومضرب مرتجل من الجريد يحق فيها للفائز معاقبة الخسران.
العنبري ؛ مساطر من الحلويت المخططة بالألوان لاغراء الاطفال.
الكليجه : نوع من الكعك .
شعر البنات : غزل البنات في بعض البلدان العربية سكر على شكل خيوط رفيعة جدا حلوة المذاق.
اللوهة : الاسم الشعبي للقطرس.
الجن : الاسم الشعبي للنورس .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى