خالد جهاد - وطن وريش وشعر أبيض

نص بعنوان (وطن وريش وشعر أبيض) ينشره موقع (الأنطولوجيا)..

كتب.. صور.. صناديق مبعثرة.. وحقائب مفتوحة على سراديبٍ سرية للماضي فيما تبيع الغد سلفاً لمن يقدر على ثمنه ويرغب في ابتياع الوهم، تطاردني الأعين وأنا أحزم أمتعتي من زمنٍ لآخر فيما الكلمات عالقةٌ في النفوس كمصعدٍ متعطل، وصمت طويلٌ لا يشقه سوى صدىً من هنا أو هناك، أسئلةٌ مبتورة ينقصها الجرأة تنبعث بين الفينة والأخرى.. إلى أين؟ لماذا ؟ ماذا حدث ؟ كيف ؟

بعض الدموع تشوش عدسة الروح فتمحوها اليد مسرعةً.. نقراتٌ صغيرة على النافذة تشي بوصول الضيوف.. عناقٌ جماعي.. أجنحةٌ ترفرف بصوتٍ موسيقي.. قبلاتٌ كثيرة تكفي الجميع وحوارٌ خافت تليه ضحكاتٌ مجلجلة.. وردة.. أسمهان.. صباح.. طروب حولي للمرة الأخيرة، يأكلن من يدي، امسح على ريشهن فينظرن إليّ بطيبةٍ وحنان وسعادةٍ لا ينغصها سوى عقارب الساعة التي تقترب من موعد الرحيل الذي أخفيته عنهن..

غارت منهن فجاءت معاتبةً.. ألست على الأرض؟ ألا تعيش بيننا ؟ حمامات وروايات وكاتبات ولوحات وذكريات ومذكرات وكاميرات والكثير من (تاء التأنيث) و (نون النسوة) و(جمع المؤنث السالم) اللواتي سيرحلن معك ولكنهن لن يعشن سوى في مخيلتك، تلك المخيلة التي لا تتسع لواقعٍ لا يعرف المحبة التي أنثتها في عقلك..

فقلت لها وأنا أغلق حقيبتي.. أنسيتي الخيبة؟
ردت.. عن أي خيبةٍ تتحدث؟
فأومأت لها وقلت.. الخيبة أنثى.. تماماً كما المحبة والذاكرة والمخيلة، ومن البديهي أن يرادفها ذكورٌ يسمون بالوجع والألم والوداع والرحيل.. فالخيبة لا تقترن بالعاطفة قدر ارتباطها بالإيمان.. الإيمان بشخص، بفكرة، بإحساس، بمكان، بحالة، بقضية، بوطن، وفقدان الإيمان بأحدهم هو جزءٌ من فقدان الذات والهوية، تساقط للذكريات وأيام العمر، خسارةٌ لما تبقى لنا، عريٌ في زمن البرد والوحدة، وانهيارٌ لآخر الحصون التي كنا نختبأ بداخلها كلما غرز الحزن أنيابه في جلدنا، أتعين معنى تحول كل ما أحببته إلى سرابٍ لا وجود له، أتعين معنى ضياع طفولتكِ وشبابكِ بين أوهامٍ آمنتي بها بعنف، أتعين معنى تحطم سفينتكِ الوحيدة ونجاتكِ دون أحدٍ من الذين سهرتي الليل وأنتي تفكرين بهم..

لتضيق بكِ الأرض.. الأنثى الأولى والأخيرة في حياة كل إنسان.. حيث لا يصبح لشيءٍ معنىً أو قيمة، حيث لا فرق بين حبٍ أو كره وإخلاصٍ وجحود، عندما ترين كل شيء قابلاً للبيع والشراء وعندما لا يظل لديكِ من ذكرياتٍ تعينكِ على الصبر وتعين أنكِ وهم وكل ما عشته وتعيشينه وستعيشينه هو وهمٌ أيضاً لا تملكين تغييره أو فك سحره لأنه من صنع البشر، من تخافين الإعتراف بحبكِ لهم ومن لا تشعرين بالأمان بينهم، من تخشين احتضانهم وطعناتهم، من ترفضين البكاء أمامهم، ومن تكرهين أن تعيشي بصحبتهم، ومن تهابين فراقهم كي لا تعيشي انكسار الروح ساعة تعري الشعور والوهم الذي لا يداويه سوى الرحيل، وكلما ضاقت بي قلوبٌ وأوطان.. سأذكر أنني حملت وطني في قلبي وحلقت به، ولم أخجل من الحديث عنه، فهو وحده الحقيقة التي ظلت مع ريش صديقاتي الرمادي وبقايا شعرٍ أبيض..

ملاحظة: تركت منزلي الذي عشت فيه طيلة حياتي وبعد عدة أشهر زرته ليلاً قبل إزالته، ووجدت الطيور لا زالت تنتظر عودتنا وتذكرت حينها مشاعر من عاشوا النكبة الفلسطينية وظنوا أنهم سيعودون إلى بيوتهم بعد ساعات أو بضعة أيام، وتذكرت أيضاً استحالة أن ينتظرنا انسان كما انتظرتنا هذه الطيور دون أمل ودون ملل..

خالد جهاد..

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى