يحيى القيسي - كيفَ تُمسك أرنباً..؟ قصة قصيرة

*مهداة إلى الأديب التركي عزيز نسين

أيُّها الأصدقاء:
منذُ سنواتٍ عديدةٍ، وأنا أضطرُّ لممارسةِ عاداتي الرتيبةِ نفسها، وأوَّلها الاستيقاظ مع انبلاج الضوء، وصياح الديكة، ولوجه الحقيقة، وحتَّى لا تعدونني كاذباً فإنَّ آخر ديكٍ في قريتنا حضرت ذبْحَه قبل سنوات قليلة، وانتقمتُ من لسانهِ المَلائكي كما يليق بمفجوع..!
المقصودُ إذاً أنِّني أصحو على أصواتٍ مُبعثرةٍ ليس لها ضابطٌ، وعلى سبيل المِثال لا القَهْر:
نداءاتُ أمّي كي أوحّد الله، وألحقُ باصَ السَّاعة الخامسة الوحيد الذي يُغادر القرية.
آذان جارنا عَبْدهُ الحدَّاد، الذي أصبحَ شيْخاً في الوقتِ الضائع، والقادر بصوتِهِ على إقناع سامعه بأنَّ النَّومَ خيرٌ من الصَّلاة..!
رنينُ مُنبّه ساعتنا المَجْنونة حينما تنفلتُ من زُنبركاتها كاشطةً خلايا دماغي، وما تبقى من أحلامي..!
وثمَّة أصواتٌ أخرى متفرّقة مثل:
مواء قططٍ سائبةٍ لديها إحساس باستمرار شهر شباط طوال العام.
نُباح كلابٍ ضالّةٍ تبحث عن وليمةٍ ما في إحدى المزابل.
طرطرةُ تراكتورات وشاحناتٍ مُحمَّلة بالبطّيخ أو الأغنام أو أيّ بضائع أخرى.
هكذا إذاً تبدأ طقوس استقبالي للعالم كلّ فَجْرٍ، تتبعها حركاتي المُكررة رغم تبدّل الفصول.
كآباتٌ قاتلةٌ تحرق الأعصاب، وتقودني آخر النهار لأرتمي على سريري خاوياً بلا طاقة، ومُملَّحاً بالعرق والغُبار تماماً مثل قميصي المَشْلوح.
غير أنّ ما جرى هذا الصباح أيّها الأصدقاء سيدفعني لا بدَّ نحو الأمام، ويمنحُ سرواتي الكئيبة معناها العظيم، ومن المؤكَّد أنَّ الثلاثمائة كيلو متراً التي أقطعها كلَّ يومٍ جيئةً وذهاباً داخل حافلاتٍ مهترئة، وبرفقة مُدخّنين، وعجائز، وعَساكر، وعمالٍ، وصفوفٍ طويلةٍ من سِمانٍ، ومسلولين، وذوي روائح مُدوّخة، وعرقٍ راشحٍ، وأنفاسٍ عَطِنة، لن تكون قادرةً على هزِّ عزيمتي..!
وماذا أيضاً هناك؟
ثمَّة النشيد الصَّباحي المُكرّر، وأصوات الطلاب المَشروخةِ، وزعاقهم، وصفيرهم، ورائحة أقدامهم الخانقة، ورؤوس بعضِهم التي يُعشعِش فيها القَمْلُ والصِّيبان، وشكواهم لي كلَّ حين:
"أستاذ..فلان سرق مِمحاتي..مِبراتي..شقَّ دفتري..وضعَ قلمَهُ في بطني..إصبعهُ في مُؤخرتي..سبَّ أمي...حكى لي كلاماً سافلاً.........".
وكلُّ هذا عدا عن غُبار الطَّباشير الذي يُعمي الأبصار والصدور، والذي تهونُ قُدَّامهُ ثرثرات الزُملاء الجوفاء، وإصرار مُدير المَّدرسة الحازم على "تطبيق الدِّين في مالطا.."، لكنَّ ذلك كله وسخٌ ويذوب، تعبٌ ويزول، قلقٌ ويفرج، لأنَّ لحظةً حاسمةً أضاءت رأسي المُعتم هذا الصباح..!
أبداً ليس الأمرُ متعلقاً بِشُروحاتي الهائلة عن السَّراخسِ والفسائلِ والدَّرنات..، وكم يوماً تحضنُ الدَّجاجةُ بيضها ليفقس..، وما هي استعمالات الفأس والمجرفة في الحقل..، والطريقة المُثلى لصنع مُخلَّلات الخيارِ واللفت، وإذا أُصبتَ بالديزنطاريا أيُّها الطالب النجيب ماذا تفعل..، وأسلم طريقة لكنس غُرفة الصَّف من قِبل عشرين طالباً..، وإنجاز دقِّ مُسمارٍ في الجدار دون هرس الأصابع من قبل أربعين آخرين..!
كلّا ...كلُّ ما ذكرته لا يُساوي شيئاً أمام معارفي الجديدة التي تُهمُّ أطفال بلادي الجهابذة، وتزوّدني بعلمٍ خارق، فثمَّة سطور مُضيئة التمعت أمام ناظري فجأةً في ذلك الكتاب المدرسيّ حول الأرنب، نعم أيها الأحباء، الأرنب(Rabbit) وليس غيره، وإذا أردتم الحقيقة فإنّي أكرهُ الأرانب، ولا أستسيغُ لحمها. لقد طبخت لنا أميّ ذات مرة أرنباً لا أدري من أيّ جهنّم أحضرته، وفجأةً وبينما العائلة مُنهمكة في التهام أجزائِه المطّاطية، توقفتُ عن الأكل وقلت لهم كمن اكتشف شيئاً خطيراً:
- يا إلهي..لحمُ الأرانب يشبه لحم القِطَط.....إنَّكم تأكلونَ قططاَ.....يا للفظاعة..!
في تلك اللحظة خرجت العائلةُ عن طورها. من استطاعَ منهم أن يقيءَ فعل، ومن صمدَ أكمل. وعلى كلِّ حال هذه مسألة خِلافية، قابلة للتأويلات، فلكلّ رغباته ولذّاته، وتبقى الأرانبُ مَخلوقات الله الوديعة، وأظلُّ أنا مسؤولاً عن عبادهِ التلاميذ، بُناة مُستقبلنا المُدهش، كي يتخرَّجوا رُفقاء بالبهائم، ومُحبّين للثديّات والبرمائيات والطيور والزَّواحف، وراغبين بالطمأنينة والسلام..!
فماذا ستقول عنَّا بريجيب باردو الشَّقراء مثلاً؟ وكيف سنخرُج من لعنة العالم الثالث إذاً؟
لاحظوا أنّ مِثالي ضعيف، لا يُجدي كثيراً، وكاد أن يطيح بجهودي التي لا تكل، وبتلك الأسطر البرَّاقة في كتاب العلوم:
"عزيزي الطالب الكثير من الناس يخطؤون في إمساك الأرنب..إذا أردت أن تُمسك أرنباً فحاذر أن تُمسكه من أذنيه..عليك بإمساكه من رقبته، كما في الشكل المجاور " ثمّة صورة توضيحة مرفقة في الكتاب".
إذاً أيها الأصدقاء:
اغبطوني الآن على مَسرَّاتي العظيمة، والحُبور الكونيّ الذي يفيضُ على جوانحي. أنا اشدًّ سعادةً من زرادشت حينما اكتشف الإنسان السوبر...ّ
ها هي طيور الفَرحِ تُرفرف فوق رأسي، وها أنذا أنطلقُ بخفَّةٍ مُتجاوزاً الرتابة، والرنين، والمسافات، والحافلات، والروائح، والمُخللات، وصراخ التلاميذ،..!
نعم لتذهب مواهبي الأخرى كلّها نحو الجحيم، فلقد عرفت اليوم الطريقة الصحيحة لإمساك الأرنب..!



(من مختارات قصصية بالاسم نفسه تصدر قريبا)

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى