أسامة إسبر - المَهْرقان..

النَّفَسُ يُنْجبُ الموجة ويقودُ جسدي.
في هذا المَهْرقان يعيشُ بَصَري
متنقّلاً بين الأعشاب والأصداف والأجنحة
في تقلص يتواصل لعضلات مدّ يغذيها البَحْرُ
بحليب ينقّط من ضروع الريح
في جرارٍ تمتلئُ وتُفرغُ على مدار الساعة.
كان عيد ميلادي أمس، هذا ما قاله لي التقويم،
فصَففْتُ سنواتي قرب بعضها بعضاً كأصدافٍ وقارنتُ بينها.
كان بينها ما يُشْبهُ أعشاباً تتكسّر ومحاراً يُثْقب.
كان عيد ميلادي أمس فأحصيتُ أمواجاً تتقدّم،
وفي عبور كلّ موجةٍ قرأتُ سنةً من حياتي،
ورأيت أعوامي كلها ترمي حمولاتها أمامي
فتتبعثرُ في زبد يتوالدُ في نفسه قبل أن تمتصه زرقة يتلوى جسدها الأفعواني
في جبال لا تكفّ عن التقبّب والارتفاع في سهولٍ تهربُ من زرقتها في أوائل الظهيرة.
يا فضّة وَجْه المياه، أيها الخدّان اللذان يمنحان البريق أبهى ألوانه
في عرس نهارٍ يتهادى في هودج مياهٍ أوشكت أن تهدأ،
عند منعطف في اليوم ارتختْ فيه عضلاتٌ تفتحُ بوابات اليمّ،
في صمتٍ تعمّقَ على أبواب الكهوف، وامتدّ مع الضوء وهو ينتشر صعوداً نحو الجبال.
كانت قمم الأشجار تهدأ كالجلد الأزرق لحيوان مائي بعد أن شبع من فرائس ابتلعها بفم الريح، وأمسك بها بمخالب مياه سُلطت على الأشياء، لجأ إلى وكره كي يستريح إلى أن يوقظه جوعٌ آخر يقرع أجراسه.
يا نَفساً يُسْكرُ روحَ الموجة، عشتُ شبابي على دروب الفوارغ والأنقاض،
وفي شوارع سُدَّتْ لنهار بلا ضوء، ضُحّي بأيامي في خواء حقبة تبدّدتْ فيها الأجيال،
وسّعت الصحراء ووزعتْ الأسمال على الضواحي.
وفي حوض مدينةٍ وُلدنا فيها تَشكَّل هامشٌ قُذفنا إليه.
لم نكن أنقياء بما يكفي،
كنا ملوثين بالصمت.
ولم نكن كلنا شجعاناً كي نشير إلى ما يربي الموت في أقفاصه،
كي نقفز فوق الحواجز وننطلق إلى حاضرنا.
كنا غرباء في مدننا، وغُلفت أجسادنا بعلامات استفهام صارت كالأكفان.
يا فضّة الظهيرة، يا وجْه المياه، ها قد بدأت ملامحك تخفّ،
بعد قليل سيأتي ذهبُ الشمس كي يلوّن المياه.
يا ألواناً تعبرُ لظهيرةٍ تعبر، لعصرٍ ومغربٍ يعبران،
يا سواداً يخيّمُ كي تنبت فيه أضواء ٌكما لو أنه تربة موسمٍ ليليّ
سريري يسكنه القلق كأنه روح تحوم فوقي،
وفي الساعات التي يقودها تحمّض الصور التي صنعت ْحياتي نَفْسها
وتُعلّق على الجدران حولي.ولم يكن في صور أعوامي التي مضت طريقٌ
يمرّ في المدن التي خُيل لنا أننا كنا فيها شباناً.
أيتها الفتّوةُ، لماذا هرمتِ؟
أيها الإيقاعُ الهائج لحياتي، ما الذي روّضكَ؟
وفيما كانت المدينة تحصي قتلاها، سمعتُ أنين قلوبٍ،وصراخ حناجر
ورأيتُ دموعاً لا تجفّ. سمعتُ بكاء وصراخاً تحت قشرتها، وقلت لنفسي:
ها أنذا هنا، يجب ألا أغادر، عليّ أن أفتح أذنيّ لأصوات الموتى،
أن أحضر مهرجاناتهم، وأصغي لقصائدهم.
وإذا لم أفعل ذلك، ستضيع مني مدينتي إلى الأبد.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى