سعيد رفيع - أم حسان..

رجل غريب حل بالقرية ذات مساء ، وكانت ترافقه إمرأة ، قيل أنه هارب بزوجته بعد أن تزوجا رغما عن أهلها ، وقيل أن ثأرا كان يطارده ، ولأن الرجل كان يبدو طيبا ، فلم تجد القرية غضاضة من الترحيب بهما ، ولم يكترث أحد بماضيهما .
لم يكن للرجل عمل محدد ، فقد كان يتكسب رزقه من تنظيف أحواش المنازل ، أو من قص صوف الغنم ، أو السمسرة في الأسواق . ولا أدرى متى ولا كيف مات ، فقد حدث ذلك قبل مولدى بسنوات ، كما لا أدرى لماذا سميت هي بأم حسان ، فقد مات زوجها ولم تنجب ، فهل كانت تكنى باسم أبيها ؟ أم كان حسان هذا إسما ادخره الزوج لأول الأبناء ولكن خذله الموت؟ لا أدرى ، ولم يخطر ببالي أن أسأل .
رأيتها أكثر من مرة وأنا دون السابعة، أي في تلك السنوات التى كنت أتبع فيها أمي أينما ذهبت ، وكان ذلك في أعراس النسوة ، ولا زلت أذكر تفاصيل ملامحها كأنني رأيتها بالأمس : قد ممشوق ، وجه مستدير يطالع الدنيا بعيون الظباء ، خصلات الشعر الناعمة تنسدل فوق الجبين الناصع ، والجدائل السوداء تنساب فوق الظهر لتتوسد الارداف .
كانت تضفى على العرس مرحا برقصها وأغانيها الجميلة ، التى لم تعهد قريتنا مثلها، وكانت النسوة يحطن بها في شبه دائرة ، يصفقن ويستثرنها لمزيد من الرقص والغناء . ولم يكن ترددها على الإعراس ترويحا عن النفس ، بل كان بابا وجدته مفتوحا فولجته بعد أن طرقت كل الأبواب ، وعرضت أن تعمل فى تنظيف البيوت ، أو غسل الثياب ، أو أن ترث زوجها في قص صوف الأغنام ، ولكن نقمة جمالها كانت لها بالمرصاد ، فحالت بينها وبين كل هذا ، ولم تعترف بها النسوة إلا راقصة في الأعراس .
كان العرس عندها يعنى العشاء الشهي ، والنقود التي تدسها فى يدها أم العروس ، والهدية التى تتفاوت بين قطعة القماش أو زجاجة العطر ، ولم تكن تمانع فى سبيل هذا أن ترضى أصحاب العرس ، بأن تلبي طلبات النسوة بالرقص مرات ومرات ، وأن تطلق تلك الإيحاءات التى يتضاحكن لها ، ثم يتهامسن : أنظروا ما تصنع أم حسان!
وتزعم النسوة أن أم حسان كانت إمرأة غريبة الأطوار ، وأن الدمع كان يطفر من عينيها أحيانا دونما سبب ظاهر ، ورغم ذلك فلم تبذل النسوة جهدا لمعرفة السبب ، إذ أن صلتهن بها كانت تنفصم تماما بعد العرس ، لا يزورها أحد ، ولا تزور أحدا ، وكأن النسوة كن يخشين على أزواجهن من الفتنة ، فليس أدعى لفتنة الرجال من أرملة جميلة وحيدة .
ويبدو أن أم حسان أدركت بغريزتها هواجس النساء ، ففرضت على نفسها عزلة إختيارية ، لا تبرح بيتها إلا إذا دعيت لعرس ، وإن اضطرت للخروج فهى تتستر بما تتستر به النسوة ، ليصبح التمييز بينهن ضربا من المحال ، الثوب الأسود الفضفاض ، غطاء الرأس ، ونقاب الوجه الذي يحجبه عن الفضوليين .
وعندما توقفت عن إحياء الإعراس ، لم يكن قرارها اختياريا ، بل اضطرت لذلك ، بعد أن أصيبت بمرض عضال ، حال بينها وبين الرقص ، ثم أودى بها فيما بعد . ولا أدرى كيف عاشت أيامها الأخيرة ، وبما استعانت على الحياة ، ففي بادئ الأمر هرع الخيرون لمساعدتها ، ولكن عطفهم عليها أخذ يتضاءل ويتضاءل حتى تلاشى تماما ، ولم يعد يذكرها أحد .
ولكن رجلا واحدا لم ينقطع عطاؤه ، وهو الحاج بركات ، الذي دأب على إيفاد إبنته إليها وهي تحمل الطعام ، وكان يردد في كل مناسبة أنه لم ينس أن أم حسان أحيت ذات يوم عرسا لكبرى بناته.
ماتت أم حسان ، ولم تترك ما يذكر الناس بها سوى أغانيها الجميلة ، أما بيتها فلم تمض على وفاتها بضعة أيام حتى كانت المعاول تطيح به ، وقيل أنها باعته قبل أن تموت ، وأن بيتا جديدا سيقام على أنقاضه ، وكان المشترى هو الحاج بركات ، الذي يؤكد الجيران أنه اشترى البيت بثمن بخس .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى