فجأة صار عبد الله رجلا عصبيّا جدا. لم يكن قبل ذلك يعرف للغضب معنى. وأقصى حالات الغضب التي يعرفها الناس عنه أن يرمي على الأرض أعقاب سجائره بدل أن يضعها في المرمدة الخشبية المنتصبة أبدا على مكتبه، أو أن يشرب قهوة الصباح في كأس من زجاج عوض أن يشربها في فنجانه الأبيض. لم يره الناس يوما يغادر منزله بعد السادسة صباحا أو قبلها. ولم يره أحد يعود إليها قبل الواحدة ظهرا. كان في أعين الناس مثالا للانضباط والدقة في المواقيت. حتّى حذاؤه الأسود لم ير الناس عليه ذرة من غبار. وكان إذا مشى طقطق فيسمعون له وقعا خفيفا ترتاح إليه الأذن. ولم يكن للسيد عبد الله صديق أو صديقة، وجيرانه الأقربون لا يعلمون عنه شيئا رغم إقامته بينهم منذ عشر سنوات. وكل ما يعرفونه عنه أنه رجل طويل القامة أشيب الرأس واللحية في كسوة زرقاء أو سوداء أو بيضاء. هم لا يعرفون حتى ماذا يصنع في حياته. بعضهم قال الأرجح أنه موظف في أحد البنوك وقال آخرون لعله مدير بنك أو مدير في إحدى الوكالات العملاقة المتخصصة في بيع المواد الإلكترونية. والحقيقة أنه لم يكن مديرا على شيء. كان يعمل سائق شاحنة عملاقة لا نعرف إن كانت من شاحنات الدولة أو من شاحنات بعض الشركات الخاصة. وكانت مهمته الوحيدة أن ينقل الحاويات الصغيرة التي يجدها مرصفة في صندوق الشاحنة الضخمة كل صباح إلى جهة من الجهات المنصوص عليها في ورقة بيضاء توضع كل صباح على كرسي القيادة في تلك الشاحنة المركونة أمام مستودع صغير لا ينتبه إليه المارة إذ لم يكن بابه من حديد بل كان بابا خشبيا يحسبه الناس باب دكان لبيع التحف. يصل عبد الله كل صباح قبل الساعة السابعة بعشر دقائق فيدير المفتاح في الباب الخشبي ويدخل المستودع ثم يوصد الباب وينزع عنه كسوته الزرقاء أو السوداء أو البيضاء ويضع بدلا منها زيا أخضر يشبه أزياء العسكر ثم يخرج فيركب الشاحنة ويقرأ التعليمة المكتوبة على ورقة ويتوكل على الله. فإذا فرغ من مهمته، وهي تنتهي كل يوم قبل منتصف النهار بعشر دقائق، ركن الشاحنة في مكانها المعلوم ودخل المستودع ليضع عنه زي العمل ويلبس كسوته ثم يجلس إلى مائدة صغيرة ليتناول غداءه وعشاءه معا. فإذا فرغ من طعامه غادر المستودع إلى حيث يقيم وعليه أن يصل في تمام الساعة الواحدة ظهرا. فإذا دخل منزله أوصد الأبواب والنوافذ وخلع عنه كسوته وحذاءه واستلقى على فراشه ونام حتى الغروب. فإذا صحا جلس إلى مكتبه ومضى يتصفح دفاتر كثيرة ويملأ جداولها بأرقام وملاحظات. فإذا فرغ منها ،وعادة ما يكون ذلك عند منتصف الليل، أخرج زجاجة شراب اسكتلندي فاخر ومضى يشرب ببرود لافت حتى يغلبه النعاس فيترك مكتبه وينام إلى الصباح. كيف لرجل بهذه الصورة أن يصبح فجأة عصبيا جدا.؟ لابد أن حدثا عظيما قد غير حياته فكسر أنظمة نومه ويقظته وغدوّه ورواحه ومأكله وملبسه. سؤال ظل أهل الضاحية الغربية كلهم يطرحونه ولم يعثروا له على جواب.