أحمد غانم عبد الجليل - مـراوَغـة

مضى عام أو أكثر وأنا أترصد خطوكِ، عند ذهابك ورجوعك من المدرسة القريبة من بيتكم، قد أمر من أمامه عدة مرات عسى أن أحظى بإطلالة من وجهك المشرق ناصع البياض، ما أكثر ما شدني احتضانك لحقيبتك لدى سيرك النشط، برأس محنٍ يداري عن العيون ألق جمالك، ضحكتك الرائقة وأحاديثك مع زميلاتك المغلقة على أسرار أعماركنّ المرفرفة كجنح فراش، انفعالاتك في وجه إحداهنّ، تعارككما حتى يعلو صوتاكما، عندها أكاد أنفض دثار تكتمي فأنقض عليها بالسباب والصراخ وحتى الصفع خاصة وإن تطاولت ومدت يدها لتلمس خصلة من شعرك البني المنساب حتى خصرك، الذي يغريني بمراقصتك طويلاً، وكانت سبباً لتسلل دمعة واحدة إلى أرجوان خدك.
مشيك الوئيد بانكسار تحت شمس الظهيرة الحامية بعينين ذابلتين، تعرِفاني إنكِ لم تجيبي في امتحان أو على سؤال وجهته إليك إحدى المدرسات بما يرضي طموحك الذي أستشعر به عن بعد، لأني أعرفك أكثر مما تظنين، لمحت لمعة فرحك بدخولك كلية الهندسة، عرفت نتيجة امتحاناتك من قبل أن تعرفين، إسمكِ الثلاثي لم يكن سراً يستعصي عليّ كشفه، احتضنك أبوكِ بفرحةٍ دامعة زرعت داخلي غيرة عصبية، كنت أنا الأحق بمشاركتك فرحتك البهيجة تلك، أنا من سهرت وكأني أتابعك وأنتِ تذاكرين بعينين مؤرقتين ووجه مجهد، لقد أقلعت عن الشراب في تلك الفترة وعدت للصلاة بعد انقطاع طويل ليستجيب الله دعواتي لك بسرعة البديهة التي آمل أن تواتيكِ عند الإجابة، أنا من كنت أنتظر خروجك من المركز الامتحاني، أحاول التركيز في قسمات وجهك القلقة، أستقرئ تقرير مستقبلك، وكأن مصيري كذلك يقرَر مجدداً في تلك الأيام الصعبة المتوترة.
متى فطنتِ لتعقبي لك عند كل شارع تمرين به سيراً على الأقدام، وحدك أو برفقة صديقة، بالمناسبة، كم وددت أن أحذرك من صديقتك ذات الشعر الأسود الطويل والعينين الضيقتين، تلك التي تسكن خلف داركم بعدة شوارع، تجسست على نظراتها المخاتلة هي الأخرى فأدركت فيها شيئاً من الحقد والغيرة منك، ربما معها وكل إناث العالم حق الغيرة أو على الأقل الحسرة على ما وُهبتِ إياه من صفات ومواصفات، مؤكد إنك لا تعلمين شيئاً عن سلوكياتها ومواعداتها الليلية وما يحصل بينها وبين ذلك الشاب الوقح في أحد الأزقة الضيقة، حاول ذات مرة التقرب إليكِ ولكنك يا ملاكي أجبرته على الابتعاد تماماً عن حسنك الفتان، من حسن حظه ما فعل وإلا ما فلت من عقابي مهما بلغ تفاخره بعضلاته المفتولة، نجسٌ مثله لا يحق له حتى النظر إلى ظل جسدك الميّاد كغصن شجرة تهدهده نسائم هواء فترة المغيب.
أي شيء أخافك مني أكثر وزفر نظراتك الهلعة في وجهي ما أن قررتِ مواجهتي بعد نزولي من الحافلة في أثرك كعادتي، أحاول منع تحرش أو ملاصقة أي رجل لأي جزء في جسدك ولو سهواً، تغضن وجهي المتهدل، الشعر الأبيض الذي أخذ بالتنامي في غفلةٍ من سكرة خذلان الحروب، أم بحلقة عينيّ، دون إرادة مني، نحو صدرك الناهد وقدك اللذين استوقفا غيبوبة لم أبصر من يقظتها سواكِ.
لم يكن من داعٍ لأن تذعري يا محبوبتي الصغيرة، فأنا آخر من قد تبرق إلى خاطره فكرة إيذائك، وإن وصمتِ تصرفاتي بالتصابي أو حتى الجنون والعته، مجرد كلمة حب ما استطعت كتمانها أكثر، كما لم أكن مستعداً لسماع ردك عليها بنبرات صوتك المغردة حتى وأنت في عنفوان غضبك واحمرار خديك كجمرتين تحرقتُ شوقاً للسعاتهما.
علا صوتك ونحن على مشارف باب كليتك، دمعت عيناي وأنا أرقب خطواتك الواثقة نحو حرمها في أول يوم للدراسة، كنت أتخوّف إن غبتِ عن ناظريّ يوماً، تخوف أبٍ على فتاته المدللة، ولكني أعذركِ يا حسنائي، ومن أنا لتطمئني لوقوفك معي وتستمعي إلى ثمالة عشقي، بملابسي التي لا أهتم بكيها أو تناسق ألوانها أو حداثة طرازها، بالإضافة إلى لحيتي النابتة بعشوائية لأيامٍ وحدكِ كنت العلامة الفارقة فيها.
اجتمع الطلبة من حولنا، دافعهم شاب طويل القامة، مفعم بالرجولة والحيوية والاندفاع، هجست شعورك بالأمان لمجرد حضوره ونهره لي بصوتٍ غليظ، يغتاظ هو الآخر غيرةً عليك، أمسك بتلابيبي، أوشك على صفعي أو لكمي، صرت أترنح بين يديه مثل من فقد وعيه، أتساءل إن كنتُ كذلك فعلاً، رغم سماعي أصوات كثيرة تتراشق كأزيز الرصاص، رصاص كثيف لم نكن ندري له جهةً محددة، ما ميَزه أخيراً حنو قلبك، تترجينه تركي، أخذتكِ الشفقة بي أم هو الخوف عليه كي لا يتورط، ربما، في جريمة قتل رجل تتراكض به السنون نحو كهولة مبكرة، كل شيء في حياتي كان مبكراً، سريعاً، ومريعاً أيضا.
مضيتم إلى محاضراتكم، أو ربما إلى كافيتريا الكلية، تحاولون تناسي الموقف السخيف، وقد تتهامسون بمشاعر تخبو أكثرها أسرع من تنامِ اتقادها، أكانت تلك فرصته الأثيرة لعزف كلمة حب تطرب مسامعك، أم أنه قالها لكِ مراراً من قبل، وأنتِ استقبلت أولاها بفرحٍ تدارينه بخجلك الجميل؟
ظللت مرمياً على الرصيف حيث القاني بقرف ككومة زبالة يعافها الجميع، مرَ وقت لا أدريه، ولا أتذكر أياً من الأحاسيس أو الأوهام التي تزاحمت في رأسي، لعل منها أني دمية مفككة الأجزاء، لا تستغربي أو تقولي تلك هلوسة ملتاث عقلياً، فقد فقأ عينيّ مثل هذا المشهد مراتٍ ومرات. هناك، بعيداً، بعيدا، لعلكِ عندها كنت تصغين إلى حكاية من حكايات الأطفال حتى تغفين عليها في براءةٍ تلقي في النفس السلام.
يواصل الكرسي الهزاز حركته الرتيبة، أغلق جفنيّ وأفتحهما على وقع اندفاعه الخفيف، للأمام والخلف، هنا ظل مكانه منذ سنوات، في الباحة الخارجية المفصولة عن حشيش الحديقة غير المشذب بدرجات عدة، تتراخى بين شفتيّ ابتسامة وهن جسدي المتكاسل، أداعب لحيتي الرمادية في تمهل، أنهض متمطياً، أسمع طقطقة عظام ظهري وكأنها تعاود التحامها بعد انفصال، كما تعاود أذناني الإصغاء إلى صوت لعبها مع طفلتها، تعلو نظراتي سياج حديقة دار أهلها المقابل، تلبس الجينز وبلوزة رمادية مرسوم عليها صورة كرتونية، لعلها هي ذاتها التي كانت ترتديها منذ كانت في الثانوية هههه...
تتراكض بذات حيوية رشاقتها المعهودة، لم يغيِر الزواج من هيئتها شيئاً، تتنبه لي، فتحمل عصفورتها الصدّاحة بكركرةٍ تتهادى صوب عمهما المنزوي في غار وحدته منذ سنوات، تتمم إحداهما ندى إشراق وجه الأخرى، أرفع يدي ملوِحاَ للسنوات المتواثبة بلا هوادة، يضَرِج تجاعيد وجهي الخجل من هذيانٍ لا آمل منه شفاءً.


* من مجموعة "نساء من بلاد الشرق"

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى