كاظم حسن سعيد - حجر كريم

تخاله فرنا للصمون , لكن التوهج يظهر من موقد المقهى هومشعل يحمى عليه الشاي .
ربما تكون الاضاءة الباهتة هناك قد غذت هذا الشعور ...
عينان صفراوان وقحتان وسوار مثل سلسلة في يمناه , وضع امامنا قدحين من الشاي وحدجنا بنظرة من زاوية عينيه وهو يقف امام صاحب المقهى الجالس خلف الزجاج , واضح انه حلق حاجبيه وحف وجنتيه ..
التختان الوحيدان خارج واجهة المقهى يطلان على السوق , ثلاثة يجلسون على احدهما , على اليسار رجل اربعيني .. بدين جمجمة ضخمة فارغة , يضع عباءة سوداء شفافة على دشداشة بيضاء .. وقد اعتنى بشاربه الثخين .. قال رجل متورد الوجه مبتسما (انت بعت بخمسين .. والان مرتاح ) فشعر ببعض الزهو رجل على التخت قربي قد صبغ شاربه وحلق لحيته بعناية ورتب كوفيته البيضاء على رأسه .. فابتسم هذا له وقال (هذا سماوي ) مشيرا الى محبس في بنصره الايمن .. فتوثب فيّ فضول واستدرت اليه بنصف جسم , بعدما اختفى من جواره صاحبه وخلا المكان , فاقتربت منه متسائلا :
ــ انتم تتكلمون عن الحجر الكريم
ـ نعم
ـ هل لك خبرة بذلك ؟
ــ نعم افرز الاصيل من المغشوش .
ــ هل لديك فص للرزق؟
الرزق من الله , لا دخل للمحابس فيه , انظر الى هذا المحبس السماوي الذي اتقلده , انه رخيص الثمن بخمسة عشر الف دينار ,لكن هناك سماوي من النوع اليماني ,واخرج قداحة وسلط الضوء من مصباحها اسفل الفص وقال (انظر , لا ترى فيه شرايين ولا علامات, انه مزيف ).
ثم دس يده في جيب دشداشته واظهر محبسا بلون المشمش وسلط اسفله الضوء , وقال (الا ترى قطعا من المشمش متناثرة , انه يماني اصيل , وقد تستدل على الاصالة برؤية فقاعات داخل الفص تحت الضوء ).
كان صاحبي يضرب جانب ركبتي بساقه فارفع رأسي لالتقط امرأة تمر وانا اصغي لخبير المحابس ...
وفيما كان الرجل يشرح بهدوء تذكرت رجلا اقتنى فرج الضبعة ورأيته يضعه على منضدة قرب مسبحة وبخور واجاب حين سألته عنه : ( ان الكثير من المشتغلين يجهلون صناعة الطبخه الروحانية للفرج وان اكثره مغشوش وأن كانت الخامة من ضبعة حقيقية , لأن من شروطه العمل عليه و التحضير والاتقان ومن فوائده تسخير الرجال والنساء وجلب المحبة وعقد اللسان , وعليك شراؤه من عطار ثقة في الساعة الفلكية المذكورة وعند التلاوة حاول ان تبخّر بالجاوي او اي بخور طيب ولايصح حمله كاملا وينبغي ان يؤخذ القسم الأيسر فقط منه و روحنته) . وتخلصت من امطار ذاكرتي لاعود صاغيا بتفاعل لمحدثي البسيط.
فاستطرد :
<هناك نوع من الحجر نسميه شفة العبد لقوة سواده وان سلطت ضوءا عليه انقلب اخضر .. ان الغش في الحجر متفش والخداع تطور فقد تمكنوا من صنع شرايين وفقاعات في الفصوص وانت تحتاج لخبرة كي تفرز ...
الحجر موجود في البصرة بمنطقة الزريجي .. هناك موقع اثري تمكن البعض من الحصول على الكثير من الاحجار منه ايام الفوضى بعد سقوط النظام ... لكن الحجر الكريم متوفر في شمال العراق يجدونه كتلة حجرية في الجبال ويتم تقطيعه وقد تجده في البحر في العراق والخليج العربي ).
لكن الرجل البسيط والطيب هذا لم يكن يعلم بان ((الحجر التقليدي الذي يتم تصنيعه من الأحجار في المختبر عند التدقيق يمكن رؤية الشوائب وعيوب الحجر وعدم صفاء لونه ولمعانه , فالحجر الطبيعيّ عادةً ما يكون برّاقاً لامعاً صافياً، أمّا الحجر التقليديّ فيكون أقل شفافية وتظهر به نقاط داكنة، ويرى من كلّ زاوية بدرجة لون مختلفة مقارنةً مع الحجر الطبيعيّ الذي يبقى لمعانه واحداً من مختلف النقاط والزوايا.
اما الحجر الاصطناعي فيتم تحضيره مختبريا بنفس المواد التي يتكون منها الحجر الأصليَ، بعد محاولة محاكاة الظروف التي ينتج بها الحجر الأصليّ من حرارة وضغط لكن بزمن قياسيّ أقل، ويصعب تمييزه عن الحجر الأصليّ إلا باستخدام أدوات الخبراء، فيتم مثلاً فحص معامل الانكسار للحجر للتفريق بين الحجر الطبيعيّ او النفيس والاصطناعيّ الذي يتفوق على الحجر الأصلي من حيث قلة الشوائب فيه ويمكن أن تتنوع فيه الألوان؛ حيث يكون للقائمين على إنتاج هذه الأحجار القدرة على صبغها بألوان متنوّعة تحاكي الأنواع الأكثر ندرة في الطبيعة مثل الألماس الأصفر.
ان المقارنة بين الحجر الطبيعيّ والحجر الاصطناعيّ أكثر صعوبة،فلا يمكن التمييز بين الحجرين بالنظر، لكن يمكن اتّباع الخطوات التالية للتمييز بينهما: مسح السطح: إذا كان السطح خشناً أو رملياً سهل التكسر والتفتت يكون ذلك دليلاً على أنّه ليس حجراً كريماً. فحص لون الحجر: يعتمد في هذا الفحص جداول مفصلة وضعت لوصف ألوان الأحجار بدقة، وتقسم العملية إلى ثلاث مراحل هي: الأولى: فحص اللون العام للحجر، ومقارنته باللون في الجداول. الثانية: تحديد مدى شدة اللون، أي هل اللون قاتم أم أنه متوسط أم فاتح اللون؟ وأيضاً نعود للجداول المفصّلة لتحديد ذلك. الثالثة: الإشباع والتركيز للون: وهذا الفحص يساعد في تحديد مدى تركيز اللون، فيوصف الحجر بالبارد إذا كان اللون أخضر أو أزرق أو بنفسجياً، أو يوصف الحجر بأنّه ذو لون دافئ إذا كان لونه أحمر أو أصفر أو برتقالياً, الطرق على السطح، إذا كان السطح قابلاً للثني أو الطرق، هذا دليل على وجود معادن أكثر من أن يكون دليلاً على أن هذا الحجر كريم؛ لأنّ الحجر الكريم من صفاته الصلابة، ويشكل بالقص والجلخ <الشحذ> وليس الطرق والضغط. فحص التركيب الداخلي للحجر: الحجر الطبيعيّ له التركيبة المحوريّة، أما الحجر الاصطناعي فيكون تركيبه الداخليّ على شكل منحنيات. الحجر الاصطناعي يمكن طليه بالذهب أو البلاتين. قد تظهر على الحجر الاصطناعي بصمات الأصابع أو آثار لأظافر يمكن مراقبتها. الأحجار المقلّدة أخف وزناً من الأحجار الطبيعيّة. الفحص باستخدام أجهزة دقيقة، عادةً ما يُستخدم جهاز فحص معامل الانكسار، والذي يتوافر لدى الخبراء والصاغة، ومن خلال القراءة لمعامل الانكسار للضوء في الحجر يتم تمييز الحجر الطبيعيّ من الاصطناعيّ. تعتمد الآلية في هذا الجهاز على تحديد كيفيّة تغير مسار الضوء داخل الحجر، لكل حجر كريم معامل انكسار خاص به، لذا هذه الطريقة ممكن أن تُستخدم في حال عدم معرفة نوع الحجر لتمييزه، يتمّ حساب معامل الانكسار ثمّ العودة إلى جداول معامل الانكسار للأحجار الكريمة، فيظهر لنا نوع الحجر، وأيضاً من خلال معرفة معامل الانكسار يمكن تحديد إذا ما كان الحجر طبيعيّاً أم اصطناعيّاً.))
ورأيت شابا يكاد يقفز احد ردفيه مع كل خطوة وهو يرتدي بنطلونا اسود وقميصا مثله .. فاكتشفت حين تقدم بان قدميه معاقتان .
الرجال الثلاثة الذين يقابلوننا عل التخت يتهامسون .. ربما توقعوا ان صاحبهم وجد رجلا ساذجا وسيتمكن من خداعه وان يبيعه محبسا عاديا بسعر مرتفع .. فكانت عيونهم تعكس البهجة والحسد .
واشار صاحبي الى الشاب العامل في المقهى , رافعا سبابته, فلما نظره حركها كما تدور الملعقة في قدح الشاي , فاتى مرتديا بنطلون كابوي ضيقا,قلت (شاي فاتر) , فاجاب الرجل الوسيم امامي وهو يرتدي دشداشة سماوية (انه لم يخدر )..
لقد ندر زمان الشاي على الفحم في مقاهي زمان, تفوح منه رائحة الهيل , انهم الان يسمطونك بماء احمر بلا طعم ولا يقدمون لك الماء فعليك ان تشتريه فترن باذنك مناداة الزبون القديم (شاي وماي ).. من سنوات لم تعد تسمعها ..
المقاهي في هذا الزمان لاصحاب الناركيلات , الله اعلم ما يضعون فيها , لان من ادمنوها غالبا مخدرون , سارحون بعالم اخر ... والمقاهي لمن لا يصغون لبعضهم , ولم تعد محطات استراحة بعد يوم ثقيل وليست مهربا من صخب البيوت وعبث الصغار ولا مأوى للمشردين .. لم يبق من المقاهي الا اسمها , وهي في فصل الخريف .واتى رجل اصلع في الثلاثين بدشداشة سوداء يضع الكثير من المحابس في كلتا يديه , واندس بيننا , واستخرج حجرا اسطوانيا بلون كحلي , يمر فيه خيط .. الا ان محدثي طلب منه المغادرة قائلا (هذا الاخ صحفي واريد ان احدثه عن مشكلتي, فغادر الرجل , كابتا عشرات المعلومات عن الخواتم .
ــ (لقد منحوني رقما لقطعة ارض .. انا اعمل في الموانيء.. فدفنتها واتى عامل من الموانيء وزعم انها قطعته واظهرالمستند فكان رقم القطعتين متطابقا,ولم يعوضني عما خسرته ولقد خشيت على اخوتي فلم اطور الشجار, وامثالي عشرات اعطوهم ارقاما لقطع اراض متطابقة ).
في السوق امرأة صدئة من المعدان تبيع الحليب المغشوش في قنان والقيمر والروبة ..اشترينا واحدة بعد ان خفضت السعر قليلا قليلا في لحظات حتى قارب نصف سعره المعلن اول مرة ... وقد وضعت قنينتين فثلاثة وهي تكرهنا على الشراء وتسوطنا بلسان مدرب وباسلوب الالحاح والتخفيض كي نشتري..ووضعت لنا عددا من قطع القيمرموضوعة في علب مكشوفة من البلاستك الابيض ..وهي تخفض السعر وتزيد من الكمية ونحن نرفض وهي تلح ... قلت ربما الوقت مغيب وتخشى على سلعتها من التلف .. لكنه كان التفسير الخطأ.. لان اقرباء لي شمال البصرة حدثوني بان اسلوب الالحاح في البيع مترسخ لدى البائعات من المعدان ... وان شعارهن (عليك ان تشتري بالقوة او الرضا ).. ويتحاشى الناس الاحتكاك بالمعدان فهم لا يتورعون ان دهست شاة منهم ان يكرهوك على دفع فدية مضاعفة عنها وعن حملها المزعوم كذبا او عليك ان تواجه انواع الاسلحة , لا فرق لديهم بين قتل الانسان وسحق نملة .
سوق مسقوفة بقطع القماش والصفيح اللامع او الصديء... الزبائن المساومون اكثر من المشترين ...الكساد يشمل اغلب المحلات... مكبرات الصوت تصيح (السلعة بالف ) وهي التطور الطبيعي لبسطات ينادي اصحابها ( حاجة بربع )ما كان يحدث من عشر سنين ...
وحسبته دمية عرض للملابس بدينة ترتدي بنطلونا وقميصا اسودين وهو يطل من بين ملابس نسائية معلقة لكنه كان عاملا في المحل .... نحن الرجال نمر على محلات الزينة وازياء النساء مسرعين لا تسحرنا فيها الاشياء...خلافا لهن وهن يتسمرن بذهول عليها ..
لان الشاطيء قريب فالاسماك وفيرة .. انواع قد لا تراها باي مكان.. السعرمنخفض وقد تجد اسماكا حسبناها انقرضت ربما لقرب الحي من الاهوار .. فقد نسينا اسماك البني ارقى الاسماك والحمري والكطان .. لكنها تتوفر هنا ... وترى اسماكا حية تتحرك على دكة او في طسوت او احواض ثبتت في عجلات .. فهنا تشاع تربية الاسماك بوضعها في اقفاص مشبكة وتركها في ماء النهر قريبا من الضفة.. وترى الصيد بانواع الشباك او بمادة سمية او النتل بالكهرباء...وقد ترى المرادي والفالات وعصي الخيزران وانواع خيوط الصيد ومكائن تحريك الزوارق ..
المحال المترفة بالاضاءة والمعروضات واجمة تواجه السوق عبر الشارع الرئيس والحواجزالخرسانة , قلما يقصدها احد, اموال مجمدة عدا صيدلية ازدحم فيها الناس..الاسواق تصنعها ضرورات ويديمها تاريخها وطالما فشلت اسواق مستحدثة وقد ترى جهة حية في سوق وجهة اخرى منه تقابلها مية ..وكم تتمسك الاسواق بماضيها وتظل عصية على التنقل ..وقد تموت تدريجيا ان انتفت الحاجة لسلعها .. فهل يعقل ان تعيش اسواق الاسرّة من السعف وقد غزتها اسرّة الاخشاب والحديد..او ان يظل سوق المربد في البصرة مؤبدا؟!! ..
السوق مسورة بحواجز الكونكريت المرتفعة وقد وضعت لصق بعضها .. رسمت لوحة واحدة للهور فقط على واحدة منها.. البقية خطت عليها كتابات لترسيخ المحبة (اشيعوا المحبة لان الله سبحانه وتعالى رب المحبة والجمال ــ زكريا ).. غريب ان ترى كلمات لزكريا هنا .. حاجز اخر كتب عليه (يحيا الحشد ) واخر ابيات (لا يخدعنك هتاف الناس بالوطن
فالقوم في السر غير الناس في العلن ).
كتابات اخرى تؤكد على الوطنية .. وايات وادعية ....
ولان الطوفان حل بنا كنت اتمنى ان يجرأ احد فيخط <<وقال اركبوا فيها بسم الله مجراها ومرساها إن ربي لغفور رحيم .وهي تجري بهم في موج كالجبال ونادى نوح ابنه وكان في معزل يا بني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين قال سآوي إلى جبل يعصمني من الماء قال لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم وحال بينهما الموج فكان من المغرقين. وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى