ساعاتٍ طويلةً قضّيتها على تلك الصّخرة مُتردّدا بين البقاء أكثر أو العودة إلى البيت..
تذكّرت أنّني إن بقيت هنا فلن يجد بناتي ما يأكلنه.من المؤكّد أنها أقفلت الباب على نفسها و لم تُعدّ طعام العشاء.
تلك طريقتها في الغضب،تتوقّف فورا عن إدارة شؤون البيت و عن الاهتمام بالبنات.نوع من العقاب تخصّني به و تعرف جيّدا أنني لا أتحمّله..
عند هذه الفكرة انتهى تردّدي، و قرّرت النّهوض و الاستعداد إلى العودة.
يكفي ما اصطدته اليوم من الأسماك و ما غنِمته من الرّاحة و الهدوء بعد تلك الخصومة.
و لكن، ما الذي يحدث؟ أنا لا أستطيع الوقوف! ساقي عالقة بين الصّخور، أحاول تحريكها فلا أقدر. ينشب فيها وجع كالحريق فأتوقّف عن المحاولة لدقائق طويلة تبدو بلا نهاية. الصّخر كبير موضوع بطريقة لا يمكنني معها أن أحرّك ساقي.
كان المكان قفرا ، فالطّقس شتاء و كل الصّيّادين الذين كانوا هنا رحلوا منذ بداية المساء، لم يبق غيري هنا، أنا الصّيّاد المنكود الحظّ، مكبّل إلى هذه الصّخرة و كأنّني جزء منها. أُطِلّ على ساقي فأراها ساكنة صاغرة لا تملك زمام نفسها أمام جبروت صخرة صمّاء لا تشعر بعذابها و لا عذابي..
كم كانت حُـــــرّة تسير أينما اتّفق على هذا الشاطئ أو على غيره من الثّنايا و الطّرقات.ساقي كانت لا تطيق البقاء في مكان واحد لمدّة طويلة، ملولة هي و باحثة عن الجمال: غابةٍ أركن إلى خصيب أشجارها أو بحرٍ فسيحِ المدى استنشق لونه الأزرق الكاشف في كل مرة عن درجات مختلفة تطاول ألوان السّماء. و أغرمت بالصّيد، وحده من جعل ساقي تتوقف عن الحركة، و تجلس على صخور الشاطئ لساعات طوال. وحده من علمني الصّبر والأمل .
وها أنّني عالق معها هنا نمارس ما تعلّمناه و إن على مضضٍ هذه المرة.
الشّمس تغيب و الأرجوان يلوّن السّماء ترحيبا بقدوم اللّيل و توجّسا ممّا قد يخفيه.
يمرّ الوقت ثقيلا. ما تزال ساقي مغروسةً في الصّخر و كأنها قطعة منه. تيبّست من الضّغط و عدم الحركة. و كلّ محاولة للخلاص أبديها، تنتهي بخدوش و دماء تسيل منها، أشعر بها و لا أراها ،و لكنّ الألم ينبت في رأسي فيضيق له صدري أكثر من ساقي .
فجأة تهيأ لي أنّني أرى خيالا يحاذي الشاطئ و يقترب بتؤدة من الصّخور حيث تعلق ساقي. فتحت عينيّ بشدة حتى لا تخونني هلوساتي : أنا فعلا أرى منقذي قادما في اتجاهي على مهل ليخلّص ساقي من سجنها الذي طال.
من المؤكد أنّه أحد الصّيّادين ممّن كانوا بجواري. ربّما نسي غرضا من أغراضه فعاد بحثا عنه. سيكون الأمر يسيرا عليه وسيحرّك الصّخرة ويحرّرني منها.
و لكنّ ظلال الليل تحجب هذا الصّيّاد عنّـي فناديته :
- يا أخي ، أدركني بالله عليك ،إنّني عالق هنا.
ذهب صوتي مع صفير الرّيح و هدير الأمواج المتلاطمة حول صخرتي و لم يسمعني أحد. صار اللّيل ثقيلا خانقا و ازداد البحر سوادا و وجيب قلبي تسارعا. قد أقضي اللّيلة هنا، قد لا أتمكّن من العودة إلى بيتي. هل أقدر على تحّمل كلّ هذا البرد الذي غاص في شراييني و جمّد الدماء في عروقي !
يملؤني الأسى على نفسي و على بناتي اللّواتي ينتظرن عودتي بلهفة ، لكن يبدو أنّني لن أعود فقد تيبّست ساقي و انقطعت عني كلّ أسباب الرّجاء.
فجأة تسلّل القمر من خلف الّليل و أرسل بعض خيوطه تشعّ من حولي، عندما رأيت وجها يقترب منّـي و سمعت صوتا يتساءل عمّا أفعله في هذا المكان.
للمفاجأة وقع الخوف و الارتباك في البداية ثم انتابني الفرح و أنا أميّز صوتا أُنثويا حمل إليّ الدفء في هذا الليل الذي يهطل برودة.
امرأة اللّيل هذه كانت تلبس معطفا يغطّيها بأكملها و تضع على رأسها قبّعة تخفي شعرها و لم يترك لي اللّيل ولا المفاجأة فرصة للتّعرف على ألوانها. فقط صوتها الدافئ كان يحمل الفرج المنتظر..
و أنا أسمعها، رأيتني أفتح باب منزلي و ألقى بناتي قابعاتٍ خلفه. انتفضن واقفاتٍ وارتمين ثلاثتهن في حضني وضحكاتهنّ تملأ أذني.
- ماذا تفعل هنا يا سيّدي ؟! لقد أخفتني .
كنت على الشّاطئ في تلك السّاعة و قد رُمت الفرارَ من البيت لبعض الوقت ،لم أعد قادرة على البقاء أكثر فيه ، أخيرا نام ابني المريض فتركته للخادمة تراقبه وهو نائم. أوقفت حياتي عليه بعدما عرفت أنّه لن يشفى من العلّة التي أصيب بها منذ ولادته.لم يعد لي في هذه الحياة غيره ولذلك أنا أكرّس كلّ أيّامي له. لهذا خرجت إلى البحر.سأملأ رئتي ببعض هواء ينقّيها من حزني اليوميّ و أنا أرى ابني يفنى يوما بعد آخر.
- شكرا للسماء لأنها أرسلتك إليّ فأنا عالق هنا منذ ساعات و عجزت بمفردي عن تخليص ساقي من بين الصّخور.هل يمكنك مساعدتي أيّتها السّيّدة ؟
صوته كان متوتّرا رغم حرصه على إظهار بعض الهدوء . اقتربت منه أكثر و قد استطعت رؤية بعض ملامحه التي بدت شاحبة.كان يشير إلى ساقه الغارقة بين الصّخور فقلت :
- يبدو الأمر صعبا ، عليك أن تجد شخصا قويّا يحرّك الصّخرة قليلا عن موضعها حتّى يمكنك تخليص ساقك.
- هل يمكنكِ مساعدتي على إيجاد هذا الشّخص بسرعة ؟
لم أكن أدري إن كان بمقدوري أن أقوم بما يطلبه. أنا من سكّان هذه المنطقة القريبة من المدينة، المنعزلة عنها. منزلي ليس بعيدا عن هذا المكان و زوجي سافر و لن يعود هذه اللّيلة. هل أطلب المساعدة من أحد الجيران؟!
عدلت سريعا عن هذه الفكرة. لا أحد سيصدّق أنّني لا أعرف هذا الرّجل، وجودي على الشاطئ وحدي في هذا اللّيل يرفع درجة الشكّ في أذهانهم و غياب زوجي عن البيت كفيل بالباقي.
قلت له :
- آسفة يا سيّدي لا أستطيع مساعدتك.
نبرة غائمة يسكنها حزن أثقل من هذه الصخرة الجاثمة على صدري تعيقني عن الحراك و تصيبني بالشّلل.
رفعت عينيّ إليها و دقّقت النّظر، ولم أكن لأفعل ذلك لولا هذا الخوف الرّابض في صوتها. رأيت جسدا يطاول النّخيل و وجها يحاكي رهافة الياسمين مثقلا بوجع غامض تفضحه عيناها.
ربما أيقظت نظراتي إليها إنسانيّتها فقد اقتربت منّي أكثر ومسكت ما ظهر من ساقي بين يديها و بدأت تحاول تحريكها و انتشالها من الجبّ الذي وقعت فيه كما يُنتشل غريق غيّبته الأمواج في أعماق البحر.
ازداد وجعي و لكنّني كنت صبورا معتادا على مقارعة الآلام و تشرّبها حتّـى الثّمالة.كانت تعتذر لي حين تشعر بتقلّص جسدي و تواصل محاولاتها.
و لكنّ ساقي كانت أكثر عِنادا من الصّخرة التي غيّبتها بين منحدراتها فقد توقّفت السيّدة فجأة و قد أصابها يأس مفاجئ و جلست قريبا منّـي حتّـى أني أسمع صوت لهاثها بوضوح.
- علينا أن نجد شخصا قويّا يحرّك الصّخرة قليلا عن موضعها حتى نتمكّن من تخليص ساقك.كيف وقعت في هذا المأزق ؟!
لم أجبها.كنت حزينا لا أفكر إلاّ في بناتي و تأكدت أنّني لن أعود إليهنّ اللّيلة و قد قيّدتني هذه الصّخرة الملعونة.
نهضت السيّدة و قد التقطت أنفاسها، و دون أن تلتفت إليّ أو تنبِسَ بكلمة واحدة غادرتني وتركتني وحيدا.
هالني الموقف و الفراغ الذي تركته إلى جانبي و أنا أراها تصبح خيالا يبتلعه الظلام كلّما أوغلت في الابتعاد.
من هي ؟ ماذا تفعل هنا في هذا اللّيل ؟ إنسانة هي أم شبح هيأته لي هلوساتي ؟
في كلّ الأحوال هي امرأة سيئة رغم جمالها المتخفّي وراء كآبتها الغامضة.كيف تتركني عالقا و ترحل ؟! كانت حبل نجاتي الوحيد حتّى لا أموت متجمّدا. و لكنّها تركتني كحيوان جريح يوشك على الموت و لا يثير شفقة العابرين.
أحاول الحراك حتى أجعل جلستي هذه مريحة و لو قليلا فقد تصلّب ظهري و تيبّست أطرافي من البرد و من ملازمة المكان.
كلّهنّ سواسية أنانيات لا يفكّرن إلا في أنفسهن ، تركتني و ذهبت كما تريد زوجتي أن تفعل ، ترجّيتها مرارا أن تتوقّف عن إرسال الشّتائم منذ الصّباح ، تشتم البنات لأنهنّ لا يستجبن لمحاولات إيقاظهنّ بسرعة و تشتمهنّ لأنهنّ لا يُجِدن الاهتمام بأنفسهن دون الاعتماد عليها ..قلت لها اتركي الأمر لي ، سأقوم بشؤونهنّ بدلا عنك ، و رغم ذلك لا تتوقّف عن الشّكوى في كلّ حين.
ها أنني سأمضي اللّيل في هذا المكان و لن أكون معهنّ صباحا، سيتلقّين الشّتائم و يذهبن وحيدات إلى المدرسة.ستفرغ غيظها منّـي فيهنّ. أنا أعرف هذا ولذلك ما كان عليّ أن أغضبها منّـي.كان يجب أن أقبل بما طلبته حتّـى لا يشتدّ الخصام بيننا و أغادر المنزل.
لأوّل مرة أفعل هذا.حاولت أن أكون قويّا و أن لا أجبُـن أمام خوفي على بناتي فتحدّيتها برفض طلبها وهو السّفر إلى أختها في العاصمة و ترك البنات لي.بناتها يحتجنها و هن مقبلات على امتحانات نصف السّنة.
- اُتركي الأمر إلى العطلة سنذهب سويّا..أعدك بذلك.
-لا أريد أن نذهب معا. ما الذي سيتغيّر إن ذهبتم معي؟! أريد أن ارتاح قليلا و أرفّه عن نفسي. لقد تعبت من المكوث في البيت و القيام بشؤونكم طوال الوقت.
- ألا ترين أنّني أساعدك في كل شيء ؟! ألا يرضيك هذا ؟!
- لن يرضيني إلا الذّهاب إلى منزل أختي و قضاء بعض الوقت معها.
و أصرَرْت على الرّفض و تركتها و غادرت البيت.حملتني ساقي لأفرغ شحنة الغضب في البحر و ها أنّها تقع و توقع بـي في هذه المصيدة.
عالق أنا هنا و هناك لا أستطيع التّحرّر من هذا القيد و لا من ذاك. كما تكبّل هذه الصخرة ساقي يكبّلنني بناتي إلى أمّهنّ و إلى ذلّ التّعايش معها.لا أريد لهنّ أن يعشن ذلّ اليُتم في حياتي.ما تزال دموع يُتمي عالقة بأجفاني تنزف المرارة في حلقي و تصبغ عينيّ بالحزن الدّائم.
أخذتني الرّعدة وتخلّل الطلّ النّازل من السّماء شعري و تسلّل إلى رأسي، نهشني البرد فاصطكّت أسناني و ارتجف جسدي ..
" هذا جزاء من يغضبني " قالت زوجتي وهي تطلق ضحكة تملؤها الشّماتة ..
و جاء صوت تلك المرأة التي خذلني دفؤها تملؤه نفس النّبرة الحاقدة:
" أنتم الرجال لا تستحقّون الحياة معنا.هذا هو مصيركم الذي تستحقّون : الموت بردا..بردا ..بردا.. "
أشعر أنني أتهاوى إلى مضيق اليأس، أحاول تجميع أفكاري و ذكرياتي و صور لسعادة عشتها سابقا فلا أجد..أنا الرجل الخمسينـيّ لا أجد في رصيد عمري ما ينقذني من التّلاشي، لا شيء يربطني بهذه الحياة المليئة بالبرد و الوجع ..
فجأة انفتحت كوّة في السّماء. رأيت وجوه بناتي وهنّ مبتسمات يشرن إليّ و ينادينني و يوقظنني من غفوتي. مددت إليهنّ يدي مُخاطبا إيّاهنّ في حماس بلا نظير : لن أترككنّ لها، سأعود ، سأكسر الصّخرة و كلّ القيود التي تكبّلني ..
لا أعرف هل هو العرق ما يتهاطل على وجهي و جسدي أم رذاذ الأمواج التي تتكسّر على صخرتي أم هو ندى الفجر المتفتّح حمرة في الشّفق..
عندما فتحت عينيّ كانت تلك المرأة الغريبة ترشّ وجهي بالماء و تهزّ جسدي بينما شعرت بساقي تتحرّر من سجنها الطّويل و صوت الصّخرة المبتعدة يتكسر على الشاطئ..
لم أمت! سأعود لبناتي !
ها أنني أسمع الصّوت الدّافئ يبعث الحرارة في جسدي وهو يقول و الفرح يَغمره :
- الحمد لله ، لقد استطعت المقاومة و بقيت حيا.
لم أكن لأسامح نفسي لو حدث له شيء. لم أنم طوال اللّيل بل بقيت أصلي و أدعو الله أن يبقيَه حيّا حتّى طلوع الفجر لأتمكن من طلب المساعدة و إنقاذه دون أن أضع نفسي في دائرة شكّ ستربك حياة طفلي المريض و حياتي.
تذكّرت أنّني إن بقيت هنا فلن يجد بناتي ما يأكلنه.من المؤكّد أنها أقفلت الباب على نفسها و لم تُعدّ طعام العشاء.
تلك طريقتها في الغضب،تتوقّف فورا عن إدارة شؤون البيت و عن الاهتمام بالبنات.نوع من العقاب تخصّني به و تعرف جيّدا أنني لا أتحمّله..
عند هذه الفكرة انتهى تردّدي، و قرّرت النّهوض و الاستعداد إلى العودة.
يكفي ما اصطدته اليوم من الأسماك و ما غنِمته من الرّاحة و الهدوء بعد تلك الخصومة.
و لكن، ما الذي يحدث؟ أنا لا أستطيع الوقوف! ساقي عالقة بين الصّخور، أحاول تحريكها فلا أقدر. ينشب فيها وجع كالحريق فأتوقّف عن المحاولة لدقائق طويلة تبدو بلا نهاية. الصّخر كبير موضوع بطريقة لا يمكنني معها أن أحرّك ساقي.
كان المكان قفرا ، فالطّقس شتاء و كل الصّيّادين الذين كانوا هنا رحلوا منذ بداية المساء، لم يبق غيري هنا، أنا الصّيّاد المنكود الحظّ، مكبّل إلى هذه الصّخرة و كأنّني جزء منها. أُطِلّ على ساقي فأراها ساكنة صاغرة لا تملك زمام نفسها أمام جبروت صخرة صمّاء لا تشعر بعذابها و لا عذابي..
كم كانت حُـــــرّة تسير أينما اتّفق على هذا الشاطئ أو على غيره من الثّنايا و الطّرقات.ساقي كانت لا تطيق البقاء في مكان واحد لمدّة طويلة، ملولة هي و باحثة عن الجمال: غابةٍ أركن إلى خصيب أشجارها أو بحرٍ فسيحِ المدى استنشق لونه الأزرق الكاشف في كل مرة عن درجات مختلفة تطاول ألوان السّماء. و أغرمت بالصّيد، وحده من جعل ساقي تتوقف عن الحركة، و تجلس على صخور الشاطئ لساعات طوال. وحده من علمني الصّبر والأمل .
وها أنّني عالق معها هنا نمارس ما تعلّمناه و إن على مضضٍ هذه المرة.
الشّمس تغيب و الأرجوان يلوّن السّماء ترحيبا بقدوم اللّيل و توجّسا ممّا قد يخفيه.
يمرّ الوقت ثقيلا. ما تزال ساقي مغروسةً في الصّخر و كأنها قطعة منه. تيبّست من الضّغط و عدم الحركة. و كلّ محاولة للخلاص أبديها، تنتهي بخدوش و دماء تسيل منها، أشعر بها و لا أراها ،و لكنّ الألم ينبت في رأسي فيضيق له صدري أكثر من ساقي .
فجأة تهيأ لي أنّني أرى خيالا يحاذي الشاطئ و يقترب بتؤدة من الصّخور حيث تعلق ساقي. فتحت عينيّ بشدة حتى لا تخونني هلوساتي : أنا فعلا أرى منقذي قادما في اتجاهي على مهل ليخلّص ساقي من سجنها الذي طال.
من المؤكد أنّه أحد الصّيّادين ممّن كانوا بجواري. ربّما نسي غرضا من أغراضه فعاد بحثا عنه. سيكون الأمر يسيرا عليه وسيحرّك الصّخرة ويحرّرني منها.
و لكنّ ظلال الليل تحجب هذا الصّيّاد عنّـي فناديته :
- يا أخي ، أدركني بالله عليك ،إنّني عالق هنا.
ذهب صوتي مع صفير الرّيح و هدير الأمواج المتلاطمة حول صخرتي و لم يسمعني أحد. صار اللّيل ثقيلا خانقا و ازداد البحر سوادا و وجيب قلبي تسارعا. قد أقضي اللّيلة هنا، قد لا أتمكّن من العودة إلى بيتي. هل أقدر على تحّمل كلّ هذا البرد الذي غاص في شراييني و جمّد الدماء في عروقي !
يملؤني الأسى على نفسي و على بناتي اللّواتي ينتظرن عودتي بلهفة ، لكن يبدو أنّني لن أعود فقد تيبّست ساقي و انقطعت عني كلّ أسباب الرّجاء.
فجأة تسلّل القمر من خلف الّليل و أرسل بعض خيوطه تشعّ من حولي، عندما رأيت وجها يقترب منّـي و سمعت صوتا يتساءل عمّا أفعله في هذا المكان.
للمفاجأة وقع الخوف و الارتباك في البداية ثم انتابني الفرح و أنا أميّز صوتا أُنثويا حمل إليّ الدفء في هذا الليل الذي يهطل برودة.
امرأة اللّيل هذه كانت تلبس معطفا يغطّيها بأكملها و تضع على رأسها قبّعة تخفي شعرها و لم يترك لي اللّيل ولا المفاجأة فرصة للتّعرف على ألوانها. فقط صوتها الدافئ كان يحمل الفرج المنتظر..
و أنا أسمعها، رأيتني أفتح باب منزلي و ألقى بناتي قابعاتٍ خلفه. انتفضن واقفاتٍ وارتمين ثلاثتهن في حضني وضحكاتهنّ تملأ أذني.
- ماذا تفعل هنا يا سيّدي ؟! لقد أخفتني .
كنت على الشّاطئ في تلك السّاعة و قد رُمت الفرارَ من البيت لبعض الوقت ،لم أعد قادرة على البقاء أكثر فيه ، أخيرا نام ابني المريض فتركته للخادمة تراقبه وهو نائم. أوقفت حياتي عليه بعدما عرفت أنّه لن يشفى من العلّة التي أصيب بها منذ ولادته.لم يعد لي في هذه الحياة غيره ولذلك أنا أكرّس كلّ أيّامي له. لهذا خرجت إلى البحر.سأملأ رئتي ببعض هواء ينقّيها من حزني اليوميّ و أنا أرى ابني يفنى يوما بعد آخر.
- شكرا للسماء لأنها أرسلتك إليّ فأنا عالق هنا منذ ساعات و عجزت بمفردي عن تخليص ساقي من بين الصّخور.هل يمكنك مساعدتي أيّتها السّيّدة ؟
صوته كان متوتّرا رغم حرصه على إظهار بعض الهدوء . اقتربت منه أكثر و قد استطعت رؤية بعض ملامحه التي بدت شاحبة.كان يشير إلى ساقه الغارقة بين الصّخور فقلت :
- يبدو الأمر صعبا ، عليك أن تجد شخصا قويّا يحرّك الصّخرة قليلا عن موضعها حتّى يمكنك تخليص ساقك.
- هل يمكنكِ مساعدتي على إيجاد هذا الشّخص بسرعة ؟
لم أكن أدري إن كان بمقدوري أن أقوم بما يطلبه. أنا من سكّان هذه المنطقة القريبة من المدينة، المنعزلة عنها. منزلي ليس بعيدا عن هذا المكان و زوجي سافر و لن يعود هذه اللّيلة. هل أطلب المساعدة من أحد الجيران؟!
عدلت سريعا عن هذه الفكرة. لا أحد سيصدّق أنّني لا أعرف هذا الرّجل، وجودي على الشاطئ وحدي في هذا اللّيل يرفع درجة الشكّ في أذهانهم و غياب زوجي عن البيت كفيل بالباقي.
قلت له :
- آسفة يا سيّدي لا أستطيع مساعدتك.
نبرة غائمة يسكنها حزن أثقل من هذه الصخرة الجاثمة على صدري تعيقني عن الحراك و تصيبني بالشّلل.
رفعت عينيّ إليها و دقّقت النّظر، ولم أكن لأفعل ذلك لولا هذا الخوف الرّابض في صوتها. رأيت جسدا يطاول النّخيل و وجها يحاكي رهافة الياسمين مثقلا بوجع غامض تفضحه عيناها.
ربما أيقظت نظراتي إليها إنسانيّتها فقد اقتربت منّي أكثر ومسكت ما ظهر من ساقي بين يديها و بدأت تحاول تحريكها و انتشالها من الجبّ الذي وقعت فيه كما يُنتشل غريق غيّبته الأمواج في أعماق البحر.
ازداد وجعي و لكنّني كنت صبورا معتادا على مقارعة الآلام و تشرّبها حتّـى الثّمالة.كانت تعتذر لي حين تشعر بتقلّص جسدي و تواصل محاولاتها.
و لكنّ ساقي كانت أكثر عِنادا من الصّخرة التي غيّبتها بين منحدراتها فقد توقّفت السيّدة فجأة و قد أصابها يأس مفاجئ و جلست قريبا منّـي حتّـى أني أسمع صوت لهاثها بوضوح.
- علينا أن نجد شخصا قويّا يحرّك الصّخرة قليلا عن موضعها حتى نتمكّن من تخليص ساقك.كيف وقعت في هذا المأزق ؟!
لم أجبها.كنت حزينا لا أفكر إلاّ في بناتي و تأكدت أنّني لن أعود إليهنّ اللّيلة و قد قيّدتني هذه الصّخرة الملعونة.
نهضت السيّدة و قد التقطت أنفاسها، و دون أن تلتفت إليّ أو تنبِسَ بكلمة واحدة غادرتني وتركتني وحيدا.
هالني الموقف و الفراغ الذي تركته إلى جانبي و أنا أراها تصبح خيالا يبتلعه الظلام كلّما أوغلت في الابتعاد.
من هي ؟ ماذا تفعل هنا في هذا اللّيل ؟ إنسانة هي أم شبح هيأته لي هلوساتي ؟
في كلّ الأحوال هي امرأة سيئة رغم جمالها المتخفّي وراء كآبتها الغامضة.كيف تتركني عالقا و ترحل ؟! كانت حبل نجاتي الوحيد حتّى لا أموت متجمّدا. و لكنّها تركتني كحيوان جريح يوشك على الموت و لا يثير شفقة العابرين.
أحاول الحراك حتى أجعل جلستي هذه مريحة و لو قليلا فقد تصلّب ظهري و تيبّست أطرافي من البرد و من ملازمة المكان.
كلّهنّ سواسية أنانيات لا يفكّرن إلا في أنفسهن ، تركتني و ذهبت كما تريد زوجتي أن تفعل ، ترجّيتها مرارا أن تتوقّف عن إرسال الشّتائم منذ الصّباح ، تشتم البنات لأنهنّ لا يستجبن لمحاولات إيقاظهنّ بسرعة و تشتمهنّ لأنهنّ لا يُجِدن الاهتمام بأنفسهن دون الاعتماد عليها ..قلت لها اتركي الأمر لي ، سأقوم بشؤونهنّ بدلا عنك ، و رغم ذلك لا تتوقّف عن الشّكوى في كلّ حين.
ها أنني سأمضي اللّيل في هذا المكان و لن أكون معهنّ صباحا، سيتلقّين الشّتائم و يذهبن وحيدات إلى المدرسة.ستفرغ غيظها منّـي فيهنّ. أنا أعرف هذا ولذلك ما كان عليّ أن أغضبها منّـي.كان يجب أن أقبل بما طلبته حتّـى لا يشتدّ الخصام بيننا و أغادر المنزل.
لأوّل مرة أفعل هذا.حاولت أن أكون قويّا و أن لا أجبُـن أمام خوفي على بناتي فتحدّيتها برفض طلبها وهو السّفر إلى أختها في العاصمة و ترك البنات لي.بناتها يحتجنها و هن مقبلات على امتحانات نصف السّنة.
- اُتركي الأمر إلى العطلة سنذهب سويّا..أعدك بذلك.
-لا أريد أن نذهب معا. ما الذي سيتغيّر إن ذهبتم معي؟! أريد أن ارتاح قليلا و أرفّه عن نفسي. لقد تعبت من المكوث في البيت و القيام بشؤونكم طوال الوقت.
- ألا ترين أنّني أساعدك في كل شيء ؟! ألا يرضيك هذا ؟!
- لن يرضيني إلا الذّهاب إلى منزل أختي و قضاء بعض الوقت معها.
و أصرَرْت على الرّفض و تركتها و غادرت البيت.حملتني ساقي لأفرغ شحنة الغضب في البحر و ها أنّها تقع و توقع بـي في هذه المصيدة.
عالق أنا هنا و هناك لا أستطيع التّحرّر من هذا القيد و لا من ذاك. كما تكبّل هذه الصخرة ساقي يكبّلنني بناتي إلى أمّهنّ و إلى ذلّ التّعايش معها.لا أريد لهنّ أن يعشن ذلّ اليُتم في حياتي.ما تزال دموع يُتمي عالقة بأجفاني تنزف المرارة في حلقي و تصبغ عينيّ بالحزن الدّائم.
أخذتني الرّعدة وتخلّل الطلّ النّازل من السّماء شعري و تسلّل إلى رأسي، نهشني البرد فاصطكّت أسناني و ارتجف جسدي ..
" هذا جزاء من يغضبني " قالت زوجتي وهي تطلق ضحكة تملؤها الشّماتة ..
و جاء صوت تلك المرأة التي خذلني دفؤها تملؤه نفس النّبرة الحاقدة:
" أنتم الرجال لا تستحقّون الحياة معنا.هذا هو مصيركم الذي تستحقّون : الموت بردا..بردا ..بردا.. "
أشعر أنني أتهاوى إلى مضيق اليأس، أحاول تجميع أفكاري و ذكرياتي و صور لسعادة عشتها سابقا فلا أجد..أنا الرجل الخمسينـيّ لا أجد في رصيد عمري ما ينقذني من التّلاشي، لا شيء يربطني بهذه الحياة المليئة بالبرد و الوجع ..
فجأة انفتحت كوّة في السّماء. رأيت وجوه بناتي وهنّ مبتسمات يشرن إليّ و ينادينني و يوقظنني من غفوتي. مددت إليهنّ يدي مُخاطبا إيّاهنّ في حماس بلا نظير : لن أترككنّ لها، سأعود ، سأكسر الصّخرة و كلّ القيود التي تكبّلني ..
لا أعرف هل هو العرق ما يتهاطل على وجهي و جسدي أم رذاذ الأمواج التي تتكسّر على صخرتي أم هو ندى الفجر المتفتّح حمرة في الشّفق..
عندما فتحت عينيّ كانت تلك المرأة الغريبة ترشّ وجهي بالماء و تهزّ جسدي بينما شعرت بساقي تتحرّر من سجنها الطّويل و صوت الصّخرة المبتعدة يتكسر على الشاطئ..
لم أمت! سأعود لبناتي !
ها أنني أسمع الصّوت الدّافئ يبعث الحرارة في جسدي وهو يقول و الفرح يَغمره :
- الحمد لله ، لقد استطعت المقاومة و بقيت حيا.
لم أكن لأسامح نفسي لو حدث له شيء. لم أنم طوال اللّيل بل بقيت أصلي و أدعو الله أن يبقيَه حيّا حتّى طلوع الفجر لأتمكن من طلب المساعدة و إنقاذه دون أن أضع نفسي في دائرة شكّ ستربك حياة طفلي المريض و حياتي.