محمد مزيد - نجيب محفوظ ينقذ النساء والفنانين العشرة

شارك مجموعة من الرسامين في مسابقة .. فتم رفض عشر من لوحاتهم، لانها لاتعبر عن الفكر السائد ، بل سُجن هؤلاء الرسامون في قاعة ، سُميت بقاعة المرفوضين .. وعندما نظر نقاد الفن الى لوحاتهم ، وجدوا العجب بسبب الأفكار التي طرحتها، بمضامينها المجنونة المرفوضة، لوحتي، لا تعبر عن شيء محدد، ما إن نظر اليها صاحب القصر ، حتى أشار بيده بالرفض ، وتبعني الى قاعة المرفوضين تسعة من الفنانين، وضعونا في قاعة مبنية من الجينكو ، بلا كراسي ، بلا نوافذ لنشم الهواء الطلق، يخيم الحر بانحاء القاعة .. جلسنا على أرضية مبلطة بالكاشي ، ووضعنا لوحاتنا بمواجهتنا، ظهورنا تتكئ الى جدار الجينكو ، بالرغم من انه ساخن، لم أكن أريد المشاركة في هذه المسابقة، لولا الحاح صديقي زمرد، وهو نحات ضائع في المتاهات ، اخبرني أن المبلغ الذي سنتقاضاه، سيمكننا ، من دفع تأشيرة السفر الى الخارج ، إن رغب احدنا، الافلات من البلد، لوحتي حسب قياس 70 في 90 ، كنت اقف بجانبها ، حين جاء صاحب القصر ، ولما تطلع اليها ، خفق قلبي بشدة، لكنني حلمتُ بالبحر الذي سأصل اليه بعد هذه المقابلة ، وعندما رأى لوحتي ، ثم نظر اليّ، أكثر من نظرته الى الوان اللوحة ، كما لو كان يبحث عن دليل لانهاء حياتي ، كانت لوحتي تعبر عن سهول خضراء على امتداد البصر ترتفع الى السماء ، وهناك في الاعلى، تقف امرأة شبه عارية، تؤشر لمن يراها، بالقدوم إليها ، لمت نفسي على خفقان قلبي المتسارع، واوهمتها بانني مهما كان الأمر ، ساعود الى البيت حتما، حتى لو كنت خالي الوفاض، ولم افز بالمبلغ، الذي حلمت به ليلة الامس، لكن نظرة صاحب القصر قد اخافتني بشدة، وانتزعت مني كل رباط الجأش المزعوم الذي حصنت نفسي به، ثم باشارة من يده ، بادر أحد حراسه ليسوقني من ياقة قميصي، أنا ولوحتي الى هذا المكان الملتهب ، لكنني ، بمرور الوقت سمعتُ أن أحد الفنانين ، ركل على مؤخرته بسبب لوحته ، عرفنا ، أن مضمونها يعبر عن حوت كبير ، يبتلع أنسانا ، ظهر وجه الانسان بين فكي الحوت فقط مستنجداً بالهروب من فمه الواسع، علمنا أن صاحب القصر، لم يكن ليفهم معنى ما اراد قوله الفنان، لكن الشخص الذي يرافقه، همسه بأذنه شيئا ، فأوعز هذا الى الحماية ليأخذوه بالركلات الى مكاننا الحار داخل الجينكو، كان أحد الفنانين ينتحب ويبكي في زاوية، ولما سألناه عن سبب بكاءه ، فقال" انظروا الى لوحتي ، ماذا فيها ، لماذا قرر صاحب القصر قلع اسناني، سمعته، يقول لهم اقلعوا اسنانه"، لما نظرنا الى اللوحة ، كانت تعبر عن رجل يقف على حافة النهر ، أصطاد سمكة كبيرة ، ومن شدة جوعه، أخذ يأكلها نية ، اما الفنان الجالس على يميني، كان ساهما يفكر ، عرفنا انه في عالم آخر ، لا يتحدث، لا يشاركنا بتبادل النظرات ، ولما أبصرت لوحته، عرفت السبب الذي من اجله زج معنا في هذا الخانق، هناك بحر مضطرب ، وثمة سفينة يتلاعب بها الموج ، يقف عند مقدمتها، رجل ملتح ، يريد أن يصل بها الى شاطئ الامان، قبل أن تغرق، الفنان الرابع الذي جلس بجانب رسام السفينة، كان يبدو سعيدا ، لان لوحته رفضت في المسابقة ، لم يكشفها لنا، اذ وضعها على الارض، فطلبت منه أن يرفعها لكي نرى مضمونها ، لم يفعل ذلك، بل الفنان الجالس بجانبه رفعها مدة دقيقة، ثم اعادها ، فعرفنا لماذا زُج معنا ، كانت تصور مجموعة من الخراف يطاردها ذئب شرس ، ركزت اللوحة على أسنان الذئب وهي مفتوحة الى امتداد الافق المنظور في اللوحة، كما لو كانت تريد القول ان الافق كله عبارة عن انياب وحشية، اما لماذا يبدو الرسام سعيدا ، فلم نعثر على جواب ، سألت الذي بجانبي ، ان يسأل الذي بجانبه عن سبب سعادته، فجاءني الجواب " انهم لم يفهموها، وهذا اقصى ما كان يطمح اليه " اما الرسام السادس، تعبر لوحته عن امرأة شعثاء الشعر ، لا يستر جسدها الا القليل من الملابس البالية ، تركض وسط الحقول لتلتقط العشب ، وخلفها، ثلاثة اطفال ينتظرون عودتها، حتى تأتي لهم بالطعام ، اللوحة السابعة كانت لفنان كبير السن، يعبر مضمونها عن رجل يقرأ بكتاب وهو بكامل الاسترخاء واللامبالاة، فيما تصطخب السماء فوقه بالنيران المتبادلة بين طرفي النزاع ، يقرأ رجل اللوحة بالكتاب مبتسما، لكن وجه الفنان حاليا، كان متجهما، ربما لم يكن يظن أن يساق الى هذا المصير . اللوحة الثامنة لفنان صغير السن ، لاحظنا نظراته وسرعة حركة رأسه متنقلا بيننا ، تعبر لوحته عن بيوت الصفيح التي تخرج من نوافذها فراشات ملونة ، اللوحة التاسعة لفنان كبير السن، يبدو انه بلا أسنان ، تعبر لوحته عن خيمة يجلس فيها رجال يتدثرون بالبطانيات، فيما جلس احدهم في بداية الخيمة، يتضح انه شيخهم، لان الانظار كلها تتطلع اليه ، يرتدي دشداشة كاشفا عن عورته، وبيده مسبحة، وثمة من يصب له من دلة في فنجان القهوة ، اللوحة العاشرة ، ثمة صورة مجسدة للروائي نجيب محفوظ، وهو يحاول أن يمنع قاتله الذي غرز سكينه بكتفه الايمن داخل المقهى، الذي يرتاده يوميا ، المثير في لوحة محفوظ أن الرسام ركز على أبتسامة الروائي، برغم الالم الذي يعاني منه، نتيجة غرز نبالة السكين في كتفه. ما أذهلنا، أن اللوحة العاشرة، الذي وضعها الفنان غير مبالٍ بالمصير الاسود الذي ينتظرنا، جعلها بمواجهة باب الجينكو ، فجأة نهض الروائي في اللوحة، وخرج منها، بملابسه البسيطة بابتسامته المتواضعة، فتح لنا محفوظ الباب المغلق باحكام ، وقال لنا .. " تعالوا معي ، فنهضنا ، تركنا لوحاتنا في اماكنها، وخرجت النساء من لوحاتنا أيضا، وسرن معنا خلف الروائي الكبير نشق طريقنا من دون أن يبصرنا الحرس، ولم تشم كلابهم الوحشية روائحنا، بالرغم من انها كانت تقف بالقرب من اقدامهم .. كنا قد جعلنا النساء تتقدمنا، ونحن نسير خلفهن، وهن يسرن خلف الروائي نجيب محفوظ باتجاه الافق البعيد حيث السهول الخضراء.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى