كان الوقت غسقًا و المدينة تستعدّ للغفوة بين حمرة مرتدّة و ظلمة آتية تنبـئُ عن نهاية يوم مرّ بكلّ سوءاته و انتظار بداية يوم آخر قد يكون مختلفا.
ضوء سيّارة يملأ الشّارع و عينيها ، تذكر ذلك الضوء و هي تعبر الشّارع و لا تعرف ما الذي حدث .
جمهرة من النّاس تحيط بها ، الأصوات تبلغ سمعها و ترتدّ دون أن تفهم منها كلمة واحدة.
يدٌ تحرّك رأسها و أيادٍ تتلمّسها وصوت غائم مرتبك يحاول إفاقتها.
فتحت عينيها، ازداد الظّلام فيهما فأغلقتهما و قد رأت الجموع من حولها يقفون على رؤوسهم.ازداد الطنين في رأسها ، عاودت فتح عينيها فاستعاد من حولها توازنه و بلغتها أصوات تحمد الله على نجاتها .
- اطمئني ليست هنالك خدوش ، أنت بخير و لم يصبك أي أذًى.
امتدت لها يد بقارورة ماء و اهتزّت على وقع السائل البارد يبلّل وجهها و يغطّي عنقها و صدرها..
عاد إليها وعيها بالكــامل وهي تـقـف على قدميها تتحسّس جســدها
فتشعر بخدر في مفاصلها و دقّاتُ قلبها لا تكاد تتوقّف.
- أقسم أنه ليس خطئـي،هي من وقفت فجأة أمام السيّارة
ما الذي حدث لي؟ لِمَ رميت بنفسي أمامه و قد رأيت السّيّارة تقترب ؟ هل هذا هو الحلّ الذي ارتأيته ؟
- هيّا نذهب إلى المستشفى حتى نطمئنّ إلى أنّك بخير .
انفضّ النّاس من حولهما و هم يحمدون الله على سلامتها و يدعونها إلى الانتباه إلى الطّريق، و بقيا معا.
رجل أربعينيّ يبدو قويّا بسحنته الدّاكنة و عينيه السّوداوين و شعره الفاحم .
لم تجبه و لكنّ جسدها انساق إلى يديه تقودانها إلى الباب الجانبيّ للسّيّارة و تفتحانها لها. ركبت فأغلق الباب و أسرع إلى مقعده أمام المقود و انطلقت بهما السّيّارة تشقّ صمت اللّيل.
كانت تشعر أنّها بخير ، غير أنّ وقع المفاجأة و ذلك السّقوط في الشّارع أصاباها بالدّوار و البهتة .
قالت :
- لا أريد الذّهاب إلى المستشفى، لم يصبني شيء و لا حتّـى خدش بسيط.
أجابها :
- سنذهب فقط لمزيد الاطمئنان .
استأنست لنبرة صوته فسكتت برهة ثم قالت :
- ليتك قتلتني !
أوقف محرّك السّيّارة و التفت إليها متعجّبا. لأوّل مرّة يراها جيّدا . شابّة يرتسم على وجهها مزيج غريب من الحزن و الخوف. تبدو عيناها فزعتين تملؤهما الحيرة و دموع تأبى أن تنزل.
انتبه إلى أن ملامح هذه الشّابّة . جميلة ، سمرة خفيفة مشرّبة بالحمرة و عينان واسعتان تملأ وجهها فلا ترى منه غيرهما.
مربكتان هاتان العينان . كانت تنظر إليه و تقول :
-أنا فعلا أتمنّـى الموت وهذا يعني أن لا رغبةَ لي في الحياة و لهذا فلن أذهب معك إلى المستشفى .
زاد ارتباك الرّجل و تساءل عمّا يجب فعله و عن سبب ركوبها سيّارته إن كانت ترفض الذّهاب إلى المستشفى.
- ماذا تريدين أن نفعل إذا، أيّ وجهة تريدين بلوغها ؟
- اذهب بي حيث تشاء..
هالته النّبرة اليائسة التي وشّت صوتها و لم يعرف كيف يتصرّف.
- يبدو أنّك ما تزالين تحت وقع الصّدمة، لا تدركين ما تقولينه.
- أنا مَن رميت بنفسي تحت عجلات سيّارتك و لكنّني أخطأت هدفي.
لم يكن لديه ما يفعله و كان بدوره هاربا من جحيم بداخله.جالت بخاطره فـكـرة لم يقاومــها فشغّل محرّك السّيّارة و انطلق مواصــلا طريقه بينما أغمضت الفتاة عينيها و استسلمت للصّمت .
كان اللّيل يُرخي جدائـله على المدينة التـي بدأت تستــعدّ إلى النّوم
و كلّما أوغل في الطّريق أوصدت المدينة أبواب دكاكينها و لم تبق إلا بعض المقاهي تلملم كراسيها و أعقاب سجائر روّادها.
كان يواصل النّظر إلى رفيقة طريقه في هذه السّفرة التي لم تخطر أبدا على باله . تبـدو متعَبة و يائســة حتى أنها رمت بنفسها تحت عجلات سيّارتي .أن تفعل هذا يعني أنها لم تعد لها صلة بالعالم ..أن تبحث عن الموت يعني أن لا صلة تربطها بالحياة..هي مثلي إذا و إن كنت لا أملك قوّتها ، فأنا لم أبلغ ذلك الحدّ الذي يجعلني أكسر سلاسلي.ابنتي هي السّلسلة الوحيدة التي تكبّلني و تؤبّد ضعفي، تركتها لجدتها و ابتعدت.لا أريد رؤيتها حتى لا تذكّرني بخسارتي ولكن الواجب في كل مرة، يحملني على العودة إليها.
نظر إلى النائمة بجانبه على المقعد المستسلمة إليه يحملها حيث يشاء دونما سؤال. نامت و كأنها تخلّصت من أثقال ترهق جسدها و عقلها .. لقد وثقت به إذا و ربما هو استسلام أو لامبالاة بما يمكن أن يحدث لها برفقته..
لهما عينان متشابهتان في ذاك الاتّساع الذي يحتويك و يأسرك بنظرة فلا تملك إلا أن تسكن إليه و فيه .
هذا الشّبه الذي تخيّـله بينها و بين ابنته جعله يقــرّر أن يريحها، أن يسعدها إن أمكنه ذلك فكانت هذه الرّحلة المفاجئة ..قد تخفي لهما الأقدار مصيرا مشتركا جميلا ينسيان به ما حلّ بهما ..
هو لا يعرف ما حلّ بها و ما الذي جعلها تحاول الموت أمامه هو بالذّات ! هل هما قدراهما و قد تعانقا بهذا الشكل ؟!
سيذهب بالأمر إلى خواتيمه إذا !
عند هذه الفكرة فتح مذياع السّيّارة فانطلق صوت فيروز شاديا:
" لا تخافي يا فتاتي فالنّجوم تكتم الأخبار
و ضباب اللّيل في تلك الكروم يحجب الأسرار .."
ضحك للمصادفة الغريبة عندما انطلق صوتها فجأة..ها هو يتابع الأغنية مع المغنية.. صوت يخرج من القلب ينساب حزينا رقراقا آسرا:
" و مليك الجن إن مرّ يروح و الهوى يثنيه
فهو مثلي عاشق كيف يبوح بالذي يضنيه .."
انتهت الأغنية و عادت الفتاة إلى صمتها و لكنّه عالجها بالسؤال :
- مالذي يضنيك أيّتها الغريبة ؟
أمعنت في الصمت فأمعن في الإلحاح :
- ما دمنا معا و تركت لي أن أحدّد طريقك فما المانع من أن تكشفي لي خباياك ؟
لم تجبه فسكت و أوغل في الظلام ..
من تكون هذه الفتاة الموجوعة ذات الصوت الآسر و لِمَ وضعها الله في طريقي ؟
طريقي عادة سالك لا مطبّات فيه و لا ثنايا فرعية لولا تلك الحادثة الملعونة التي أفقدتني زوجتي و حبيبة قلبي بين عشية و ضحاها حتى أنني ما أزال عاجزا عن تصديق هذا الرّحيل المفاجئ رغم مرور سنتين على حدوثه . و ها أنني اليوم في وضع لا أفهمه بعد أن رمت هذه الفتاة الغريبة نفسها أمام سيارتي.
عليك أن تحمد الله على انّك كنت منتبها و لم تكن قد دخلت بعد في ذهولك المعتاد.
سمعها تقول بصوت كالهمس :
لا شيء في الأفق غير غيوم تتراكم كل يوم و ستنفجر بعدها العاصفة! لا أحد معي يحميني من شرّ ما سيحدث و لن أقدر على انتظار الموت القادم ، موتة أختارها أفضل من موتة أُساق إليها . القدر ما يزال يصرّ على تأبيد أحزاني و لكنني مصرّة على الذّهاب إلى موتي أيضا.
عندما سمع همسها أجابها بحماس :
- هل نتّفق على شيء أيّتها الغريبة ؟ دعينا ننسى أنّنا غرباء عن بعضنا ولْنقض اللّيلة معا حتى تهدئي ثم قرّري ما تريدين بعد ذلك.
لأوّل مرّة يتحرّك الجسد المسترخي على المقعد المجاور و يعدّل من جلسته و لأوّل مرّة تنظر لي تلك العينان الواسعتان و قد ازدادتا اتّساعا.
- كنت ذاهبة إلى الموت و ها أنت تعرض عليّ بضع ساعات أخرى من الحياة، فهل تكون هذه السّاعات أفضل ممّا مضى
- ربّما ، لا أحد يعرف ما الذي سيحدث . اِنسي ما دعاك إلى الموت ولبّي داعي الحياة و لو مؤقّتا فربّما تغيّرين رأيك.
- يبدو أنّك إنسان سعيد .
- بل أنا أكثر النّاس تعاسة و وِحدة ، و لكنْ ، و أنا أعرض هذا الأمر عليك،أعرضه على نفسي في نفس الآن.. مثلك أنا بحاجة الى فرصة جديدة، ربما أوجد لنا القدر هذا اللّقاء لغاية يخفيها. لنتركْ أنفسنا له يفعل بنا ما يشاء!
بإشارة من رأسها و ابتسامة برقت فجأة على شفاهها أعلنت موافقتها فزادت السّيّارة من سرعتها و بدأ الطريق المضاء ينفتح أمامها و كأنه يدعوهما إلى احتفال ما..
فجأة انخفضت سرعة السّيّارة،ثم انحدرت في طريق جديد يبدو مليئا بالحصى حتى صارت تهتزّ و تتعثّر إلى أن توقفت تماما.
سمعت صوته يدعوها إلى النّزول ففتحت عينيها .كان الظّلام يرسل رداءه على الكون من حولها، لم تتبين شيئا فصاحت :
- أشعل نور السّيّارة !
بهرَها الضّوء الذي سطع فجأة و قد وقفت أمام السّيّارة فأشاحت بوجهها و أغمضت عينيها. عندما فتحتــهما مجدّدا رأته واقـــفا أمام البحر السّاكن كليل ممتد لا ينتهي .لفحتها نسائمه و غشيتها رائحته و تسلّل فرح مفاجئ إلى قلبها.
- كثيرا ما كنت أجيء إلى هذا المكان مع زوجتي ..قاطعته منذ أخذها منّـي ،و ها أني أعود إليه اللّيلة معك .إنه قدر غريب..
اجتاحها ارتباك مفاجئ، لِمَ أتى بي إلى هنا؟ إلى المكان الذي توفّيت فيه زوجته! ما الذي يريد قوله؟ و هل يضمر لي أمرا سيئا ؟
لمْ تُطل التّفكير في الأمر.لا يهمّها ماذا سيحدث وهي التي ستموت غدا و ستترك نفسها لهذا البحر، له أن يأخذها أو يتركها لن يختلف الأمر كثيرا..
نزعت حذاءها و رمته على الرّمال و اندفعت ترمي بنفسها بين أحضان الماء و الموج .
- ستتبلّل ثيابك، كان عليك أن تنزعيها فاللّيلة دافئة ..
لم تسمعه وقد اندسّت بين طيات الماء يبلّل أوردتها و يطفئ نارها، اخترق قلبَها وجيبٌ ناعم لم تعرف كنهه و إن شعرت ببعض النّسائم تتسلّل إلى نفسها فيتّسع لها صدرها .
ازداد تقدّمها في الماء وهي تدعوه إلى اللّحاق بها .
تعمّدا بالماء و ضحكا كالأطفال ضحكات بريئة أفرغت القلوب من أوحالها . لم يشعرا بالزّمن الذي مرّ و نسيا الزّمن الذي كان.
خرجا من البــحر و ثيابهما تلتصق بجسديــهما و الماء ينساب رقراقا من الرأس حتى الأقدام فيثير فيهما إحساسا مختلطا من النشوة والبرودة الآسرة. قال لها وهو يبعد عن عينيه قطرات المياه التي تسقط من شعره :
-تخفي لنا الحياة أشياء تظلّ تنتظرنا لتسعدنا و نحن عنها غافلون ، ليس علينا إلا أن نبحث عنها و أن نواجه أحزاننا لا أن نهرب منها.
أحضر كرسيّين من الباب الخلفيّ للسّيّارة فجلسا ضاحكين.كانت النّجوم تتوارى خلف السّحب و الظّلام و نسائم الليل و البلَل يشعراها بالبرد فراحت أسنانها تصطكّ و بدأ جسدها يرتعش وهي لا تتوقف عن الكلام:
لا أعرف كيف أشكرك على ما أغدقت به عليّ من نسائم الجنّة! جعلتَني أكتشف أنّني ما زلت قادرة على الضّحك و على الفرح . من يصدّق أنني كنت أروم الموت في أوّل اللّيل!هل تصدّق أنت ذلك؟ هل تصدق !
ما أجمل الحياة و أنا الآتية من مشارف الموت! لعلّي أموت سعيدة بعد هذا. أن تموت سعيدا أفضل من أن تموت كئيبا و تحمل معك كآبتك إلى العالم الآخر. أليس كذلك؟!
باغتَهُ سؤالها فابتسم لها وهو يهزّ رأسه منتشيا بهذه الأفكار التي لم تكن لتخطر على باله لولاها. كان يستمع إلى هذا الدفق من الكـــلام ويبتســم. هو أيضا يشعـر بالسّعـــادة و هذا اللّـيل يجمعــه بهذه الرّفقة البريئة كنسائم هذا البحر الممتدّ أمامهما حتّى الأفق ..
كانت ممدّدة على الكرسيّ الطويل، كرسيّ زوجته! لطالما ملأته بضحكاتها و ضجيجها الذي لم يتصوّر يوما أنه سينتهي.و ها قد انتهى .
سُرقت منه فسُرقت معها سعادته. سرقها منه هذا البحر ذات صيف غادِرٍ. سرقها منه في عزّ فرحتهما بتلك البُنيّة التي ولدت لتقارع اليتم
فلا حياة دون أمّ و لا متعة لحياته دون زوجته التي رحلت و تركته يكابد حزنه و أيّامه الكئيبة..
و ها هو يشعر أنه سعيد..السّعادة تُنير روحه و تصنع حرارة في داخله تميل به إلى الفرح و الاستسلام إلى هذا الهدوء الممتع و هذا النّوم الذي يعتريه..لم ينم منذ صار ينام وحيدا في غرفته الواسعة..تتألّب عليه الذّكريات فتزيد من وجع الرّوح فلا يغفو إلا لينهض من جديد..
- أرغمتني أمّي و زوجها على الزّواج من ذلك الرّجل المنفّر، يدينان له بمبلغ كبير فقايضهم به عليّ و قبلوا دون تفكير طويل، باعوني له و أرغموني على الموافقة..سكنني الحزن وأنا أراهم يجهّزون لعرسي فتركتهم و غادرت قبل يوم من زفافي ،تركتهم و غادرت وأنا لا أعرف إلى أين ستقودني قدماي . و عندما كنت أعبر ذلك الشّارع و رأيت ضوء السيارة القادمة خطر لي أن أتخلّص منهم جميعا..
- كان عليك أن ترفضي هذه الصّفقة. من حقّك أن تعيشي كما تريدين لا أن تهربي إلى الموت.
سكنت إلى جملته تعيد سماعها كنصّ مقدّس أنزله الوحي على قلبها حتى أنّها صارت تردّدها إلى أن خفت صوتُها.
استسلما للنّوم دون إرادة إلى أن أيقظهما الفجر و الشّمس تغدق حمرتها على الأفق معلنة إشراقها و ولادة يوم جديد..
ارتبكت وهي تنتبه إلى نومتها في العراء على هذا الكرسيّ أمام البحر و بجانب هذا الرّجل الغريب.
- هل كنت أحلم ؟
ابتسم قلبُها . لأوّل مرة منذ سنوات يبتسم هذا القلب . كان ساكنا كهذا الصّباح الواعد، راضيا مستمتعا بهذا الهدوء و كأنه استرجع أنفاسه بعد لؤم الصّراع الذي عاشته مع نفسها..
قضت ليلتها أمام البحر بجانب رجل لا تعرف عنه شيئا.لم ينظر إليها بمكر و لم تشعر معه إلا بالأمان،لهذا ابتسم قلبها منذ فتحت عينيها ابتسامة رضى فأشرق وجهها .
سألته حتى تتحقق أكثر ممّا حدث :
- هل قضينا اللّيلة هنا فعلا ؟
التفت إليها وهو يفتح عينيه فبدت له أجمل من الشّمس الرّابضة في البحر:
- منذ زمن بعيد لم أنم كلّ هذا الوقت و لا بهذا العمق..
- أنا أيضا و كأنّني اكتشفت النّوم هذه الليلة فقط..
امتدّت يده إليها فأمسكتها و وقف وهو يجذبها إليه و ينطلق بها إلى البحر قائلا :
- سيكتمل المعنى إن ألقينا بأنفسنا في الماء حتى نلتحق بالشّمس فننير معها الكونَ..
لم تمانع، صارت مشدودة إلى كلماته ترقب سعادتها المرجوّة على شفاهه. ألقت بنفسها بين الأمواج، سبحت على ظهرها و هي ترقب الشّمس تتجلّى عروسا في حمرتها الصّاخبة و قد بدأت تغادر البحر لتزيح بقايا العتمة عن السّماء..
سمعته يقول وهو يشير إلى الفضاء الأزرق الذي يمتلئ بالنّور:
- ذاك هو مكاننا.علينا أن ننعم بما أعطاه الله لنا، أن نبزغ كشمس على حياتنا لننير أرواحنا و نبعث النّور في الآخرين..
سبقها في الخروج من البحر و صاح و هو يركض على الشّاطئ:
- ليس لنا منشفة هيا اركضي حتى تنشف ثيابك!
خرجت تختال من الماء، عروس بحر تبحث لها عن نهاية مختلفة لليلــة جميلة سرقـــتــها من الزّمن و بدأت في الرّكض و الضّحك.لم تضحك طوال حياتها هذا الضّحك الذي انقص من عمرها كل سنوات الحرمان و الوحدة و الضّجـــر.طفلة على قارعة الحلم صارت ترتجي الحبّ و الخيالات الدافئة !
بدأ بعض الصّيّادين يدفعون بقواربهم نحو الشاطئ و هم يلقون عليهما تحيّة الصباح مبتسمين ..أربكها لقاؤهم قليلا فطلبت من مرافقها الذّهاب .
- إلى أين ؟
- لا أعرف .
ركبا السّيّارة فسارت بهما ببطء إلى أن اعترضهما مقهى صغير على الشاطئ . أوقف المحرّك ثم غادر ليعود ببعض القهوة و قطع من المرطّبات تناولاها بنهم شديد فقد برّح بهما الجوع و لم ينتبها إلى ذلك إلا الآن.
من جديد حملتهما السّيّارة المليئة بالصّمت و الأمنيات ..
غريبان كانا رغم هذا القرب الذي صارا يستشعران به و هذه السّعادة التي أيقظت رغبتهما في الحياة.
قال و هو يمدّ يده في اتّجاهها:
- سأعود إلى ابنتي، سآخذها إلى بيتنا،لن أحرمها منّي و قد حُرِمت من أمّها، سنعيش أسرة واحدة!
أمسكت بيده و كأنّها تمسك حلما هاربا.
- أنا سأعود إلى أمّي و زوجها، لن أهرب ثانية منهما ، سأواجههما بكل قوّتي ! صار لي الآن هدف أحارب من أجله !
عند انتصاف النّهار كانت السّيّارة تقف في نفس الشّارع حيث صدمتها في اللّيلة السّابقة .تركت قلبها على المقعد و نزلت بثيابها الملتصقة بجسدها و بنشوة تملأ وجهَها و عزم يملأ عينيها الواسعتين . عبرت الطّريق وهي توالي الالتفات إلى سعادتها التي تنتظرها على مرمى القلب عندما ارتطم جسدها فجأة بدراجة نارية مسرعة ألقتها على حافّة الشّارع بينما انطلقت من رفيق ليلتها صرخة مدوّية ارتجّت لها السّماء ..
ضوء سيّارة يملأ الشّارع و عينيها ، تذكر ذلك الضوء و هي تعبر الشّارع و لا تعرف ما الذي حدث .
جمهرة من النّاس تحيط بها ، الأصوات تبلغ سمعها و ترتدّ دون أن تفهم منها كلمة واحدة.
يدٌ تحرّك رأسها و أيادٍ تتلمّسها وصوت غائم مرتبك يحاول إفاقتها.
فتحت عينيها، ازداد الظّلام فيهما فأغلقتهما و قد رأت الجموع من حولها يقفون على رؤوسهم.ازداد الطنين في رأسها ، عاودت فتح عينيها فاستعاد من حولها توازنه و بلغتها أصوات تحمد الله على نجاتها .
- اطمئني ليست هنالك خدوش ، أنت بخير و لم يصبك أي أذًى.
امتدت لها يد بقارورة ماء و اهتزّت على وقع السائل البارد يبلّل وجهها و يغطّي عنقها و صدرها..
عاد إليها وعيها بالكــامل وهي تـقـف على قدميها تتحسّس جســدها
فتشعر بخدر في مفاصلها و دقّاتُ قلبها لا تكاد تتوقّف.
- أقسم أنه ليس خطئـي،هي من وقفت فجأة أمام السيّارة
ما الذي حدث لي؟ لِمَ رميت بنفسي أمامه و قد رأيت السّيّارة تقترب ؟ هل هذا هو الحلّ الذي ارتأيته ؟
- هيّا نذهب إلى المستشفى حتى نطمئنّ إلى أنّك بخير .
انفضّ النّاس من حولهما و هم يحمدون الله على سلامتها و يدعونها إلى الانتباه إلى الطّريق، و بقيا معا.
رجل أربعينيّ يبدو قويّا بسحنته الدّاكنة و عينيه السّوداوين و شعره الفاحم .
لم تجبه و لكنّ جسدها انساق إلى يديه تقودانها إلى الباب الجانبيّ للسّيّارة و تفتحانها لها. ركبت فأغلق الباب و أسرع إلى مقعده أمام المقود و انطلقت بهما السّيّارة تشقّ صمت اللّيل.
كانت تشعر أنّها بخير ، غير أنّ وقع المفاجأة و ذلك السّقوط في الشّارع أصاباها بالدّوار و البهتة .
قالت :
- لا أريد الذّهاب إلى المستشفى، لم يصبني شيء و لا حتّـى خدش بسيط.
أجابها :
- سنذهب فقط لمزيد الاطمئنان .
استأنست لنبرة صوته فسكتت برهة ثم قالت :
- ليتك قتلتني !
أوقف محرّك السّيّارة و التفت إليها متعجّبا. لأوّل مرّة يراها جيّدا . شابّة يرتسم على وجهها مزيج غريب من الحزن و الخوف. تبدو عيناها فزعتين تملؤهما الحيرة و دموع تأبى أن تنزل.
انتبه إلى أن ملامح هذه الشّابّة . جميلة ، سمرة خفيفة مشرّبة بالحمرة و عينان واسعتان تملأ وجهها فلا ترى منه غيرهما.
مربكتان هاتان العينان . كانت تنظر إليه و تقول :
-أنا فعلا أتمنّـى الموت وهذا يعني أن لا رغبةَ لي في الحياة و لهذا فلن أذهب معك إلى المستشفى .
زاد ارتباك الرّجل و تساءل عمّا يجب فعله و عن سبب ركوبها سيّارته إن كانت ترفض الذّهاب إلى المستشفى.
- ماذا تريدين أن نفعل إذا، أيّ وجهة تريدين بلوغها ؟
- اذهب بي حيث تشاء..
هالته النّبرة اليائسة التي وشّت صوتها و لم يعرف كيف يتصرّف.
- يبدو أنّك ما تزالين تحت وقع الصّدمة، لا تدركين ما تقولينه.
- أنا مَن رميت بنفسي تحت عجلات سيّارتك و لكنّني أخطأت هدفي.
لم يكن لديه ما يفعله و كان بدوره هاربا من جحيم بداخله.جالت بخاطره فـكـرة لم يقاومــها فشغّل محرّك السّيّارة و انطلق مواصــلا طريقه بينما أغمضت الفتاة عينيها و استسلمت للصّمت .
كان اللّيل يُرخي جدائـله على المدينة التـي بدأت تستــعدّ إلى النّوم
و كلّما أوغل في الطّريق أوصدت المدينة أبواب دكاكينها و لم تبق إلا بعض المقاهي تلملم كراسيها و أعقاب سجائر روّادها.
كان يواصل النّظر إلى رفيقة طريقه في هذه السّفرة التي لم تخطر أبدا على باله . تبـدو متعَبة و يائســة حتى أنها رمت بنفسها تحت عجلات سيّارتي .أن تفعل هذا يعني أنها لم تعد لها صلة بالعالم ..أن تبحث عن الموت يعني أن لا صلة تربطها بالحياة..هي مثلي إذا و إن كنت لا أملك قوّتها ، فأنا لم أبلغ ذلك الحدّ الذي يجعلني أكسر سلاسلي.ابنتي هي السّلسلة الوحيدة التي تكبّلني و تؤبّد ضعفي، تركتها لجدتها و ابتعدت.لا أريد رؤيتها حتى لا تذكّرني بخسارتي ولكن الواجب في كل مرة، يحملني على العودة إليها.
نظر إلى النائمة بجانبه على المقعد المستسلمة إليه يحملها حيث يشاء دونما سؤال. نامت و كأنها تخلّصت من أثقال ترهق جسدها و عقلها .. لقد وثقت به إذا و ربما هو استسلام أو لامبالاة بما يمكن أن يحدث لها برفقته..
لهما عينان متشابهتان في ذاك الاتّساع الذي يحتويك و يأسرك بنظرة فلا تملك إلا أن تسكن إليه و فيه .
هذا الشّبه الذي تخيّـله بينها و بين ابنته جعله يقــرّر أن يريحها، أن يسعدها إن أمكنه ذلك فكانت هذه الرّحلة المفاجئة ..قد تخفي لهما الأقدار مصيرا مشتركا جميلا ينسيان به ما حلّ بهما ..
هو لا يعرف ما حلّ بها و ما الذي جعلها تحاول الموت أمامه هو بالذّات ! هل هما قدراهما و قد تعانقا بهذا الشكل ؟!
سيذهب بالأمر إلى خواتيمه إذا !
عند هذه الفكرة فتح مذياع السّيّارة فانطلق صوت فيروز شاديا:
" لا تخافي يا فتاتي فالنّجوم تكتم الأخبار
و ضباب اللّيل في تلك الكروم يحجب الأسرار .."
ضحك للمصادفة الغريبة عندما انطلق صوتها فجأة..ها هو يتابع الأغنية مع المغنية.. صوت يخرج من القلب ينساب حزينا رقراقا آسرا:
" و مليك الجن إن مرّ يروح و الهوى يثنيه
فهو مثلي عاشق كيف يبوح بالذي يضنيه .."
انتهت الأغنية و عادت الفتاة إلى صمتها و لكنّه عالجها بالسؤال :
- مالذي يضنيك أيّتها الغريبة ؟
أمعنت في الصمت فأمعن في الإلحاح :
- ما دمنا معا و تركت لي أن أحدّد طريقك فما المانع من أن تكشفي لي خباياك ؟
لم تجبه فسكت و أوغل في الظلام ..
من تكون هذه الفتاة الموجوعة ذات الصوت الآسر و لِمَ وضعها الله في طريقي ؟
طريقي عادة سالك لا مطبّات فيه و لا ثنايا فرعية لولا تلك الحادثة الملعونة التي أفقدتني زوجتي و حبيبة قلبي بين عشية و ضحاها حتى أنني ما أزال عاجزا عن تصديق هذا الرّحيل المفاجئ رغم مرور سنتين على حدوثه . و ها أنني اليوم في وضع لا أفهمه بعد أن رمت هذه الفتاة الغريبة نفسها أمام سيارتي.
عليك أن تحمد الله على انّك كنت منتبها و لم تكن قد دخلت بعد في ذهولك المعتاد.
سمعها تقول بصوت كالهمس :
لا شيء في الأفق غير غيوم تتراكم كل يوم و ستنفجر بعدها العاصفة! لا أحد معي يحميني من شرّ ما سيحدث و لن أقدر على انتظار الموت القادم ، موتة أختارها أفضل من موتة أُساق إليها . القدر ما يزال يصرّ على تأبيد أحزاني و لكنني مصرّة على الذّهاب إلى موتي أيضا.
عندما سمع همسها أجابها بحماس :
- هل نتّفق على شيء أيّتها الغريبة ؟ دعينا ننسى أنّنا غرباء عن بعضنا ولْنقض اللّيلة معا حتى تهدئي ثم قرّري ما تريدين بعد ذلك.
لأوّل مرّة يتحرّك الجسد المسترخي على المقعد المجاور و يعدّل من جلسته و لأوّل مرّة تنظر لي تلك العينان الواسعتان و قد ازدادتا اتّساعا.
- كنت ذاهبة إلى الموت و ها أنت تعرض عليّ بضع ساعات أخرى من الحياة، فهل تكون هذه السّاعات أفضل ممّا مضى
- ربّما ، لا أحد يعرف ما الذي سيحدث . اِنسي ما دعاك إلى الموت ولبّي داعي الحياة و لو مؤقّتا فربّما تغيّرين رأيك.
- يبدو أنّك إنسان سعيد .
- بل أنا أكثر النّاس تعاسة و وِحدة ، و لكنْ ، و أنا أعرض هذا الأمر عليك،أعرضه على نفسي في نفس الآن.. مثلك أنا بحاجة الى فرصة جديدة، ربما أوجد لنا القدر هذا اللّقاء لغاية يخفيها. لنتركْ أنفسنا له يفعل بنا ما يشاء!
بإشارة من رأسها و ابتسامة برقت فجأة على شفاهها أعلنت موافقتها فزادت السّيّارة من سرعتها و بدأ الطريق المضاء ينفتح أمامها و كأنه يدعوهما إلى احتفال ما..
فجأة انخفضت سرعة السّيّارة،ثم انحدرت في طريق جديد يبدو مليئا بالحصى حتى صارت تهتزّ و تتعثّر إلى أن توقفت تماما.
سمعت صوته يدعوها إلى النّزول ففتحت عينيها .كان الظّلام يرسل رداءه على الكون من حولها، لم تتبين شيئا فصاحت :
- أشعل نور السّيّارة !
بهرَها الضّوء الذي سطع فجأة و قد وقفت أمام السّيّارة فأشاحت بوجهها و أغمضت عينيها. عندما فتحتــهما مجدّدا رأته واقـــفا أمام البحر السّاكن كليل ممتد لا ينتهي .لفحتها نسائمه و غشيتها رائحته و تسلّل فرح مفاجئ إلى قلبها.
- كثيرا ما كنت أجيء إلى هذا المكان مع زوجتي ..قاطعته منذ أخذها منّـي ،و ها أني أعود إليه اللّيلة معك .إنه قدر غريب..
اجتاحها ارتباك مفاجئ، لِمَ أتى بي إلى هنا؟ إلى المكان الذي توفّيت فيه زوجته! ما الذي يريد قوله؟ و هل يضمر لي أمرا سيئا ؟
لمْ تُطل التّفكير في الأمر.لا يهمّها ماذا سيحدث وهي التي ستموت غدا و ستترك نفسها لهذا البحر، له أن يأخذها أو يتركها لن يختلف الأمر كثيرا..
نزعت حذاءها و رمته على الرّمال و اندفعت ترمي بنفسها بين أحضان الماء و الموج .
- ستتبلّل ثيابك، كان عليك أن تنزعيها فاللّيلة دافئة ..
لم تسمعه وقد اندسّت بين طيات الماء يبلّل أوردتها و يطفئ نارها، اخترق قلبَها وجيبٌ ناعم لم تعرف كنهه و إن شعرت ببعض النّسائم تتسلّل إلى نفسها فيتّسع لها صدرها .
ازداد تقدّمها في الماء وهي تدعوه إلى اللّحاق بها .
تعمّدا بالماء و ضحكا كالأطفال ضحكات بريئة أفرغت القلوب من أوحالها . لم يشعرا بالزّمن الذي مرّ و نسيا الزّمن الذي كان.
خرجا من البــحر و ثيابهما تلتصق بجسديــهما و الماء ينساب رقراقا من الرأس حتى الأقدام فيثير فيهما إحساسا مختلطا من النشوة والبرودة الآسرة. قال لها وهو يبعد عن عينيه قطرات المياه التي تسقط من شعره :
-تخفي لنا الحياة أشياء تظلّ تنتظرنا لتسعدنا و نحن عنها غافلون ، ليس علينا إلا أن نبحث عنها و أن نواجه أحزاننا لا أن نهرب منها.
أحضر كرسيّين من الباب الخلفيّ للسّيّارة فجلسا ضاحكين.كانت النّجوم تتوارى خلف السّحب و الظّلام و نسائم الليل و البلَل يشعراها بالبرد فراحت أسنانها تصطكّ و بدأ جسدها يرتعش وهي لا تتوقف عن الكلام:
لا أعرف كيف أشكرك على ما أغدقت به عليّ من نسائم الجنّة! جعلتَني أكتشف أنّني ما زلت قادرة على الضّحك و على الفرح . من يصدّق أنني كنت أروم الموت في أوّل اللّيل!هل تصدّق أنت ذلك؟ هل تصدق !
ما أجمل الحياة و أنا الآتية من مشارف الموت! لعلّي أموت سعيدة بعد هذا. أن تموت سعيدا أفضل من أن تموت كئيبا و تحمل معك كآبتك إلى العالم الآخر. أليس كذلك؟!
باغتَهُ سؤالها فابتسم لها وهو يهزّ رأسه منتشيا بهذه الأفكار التي لم تكن لتخطر على باله لولاها. كان يستمع إلى هذا الدفق من الكـــلام ويبتســم. هو أيضا يشعـر بالسّعـــادة و هذا اللّـيل يجمعــه بهذه الرّفقة البريئة كنسائم هذا البحر الممتدّ أمامهما حتّى الأفق ..
كانت ممدّدة على الكرسيّ الطويل، كرسيّ زوجته! لطالما ملأته بضحكاتها و ضجيجها الذي لم يتصوّر يوما أنه سينتهي.و ها قد انتهى .
سُرقت منه فسُرقت معها سعادته. سرقها منه هذا البحر ذات صيف غادِرٍ. سرقها منه في عزّ فرحتهما بتلك البُنيّة التي ولدت لتقارع اليتم
فلا حياة دون أمّ و لا متعة لحياته دون زوجته التي رحلت و تركته يكابد حزنه و أيّامه الكئيبة..
و ها هو يشعر أنه سعيد..السّعادة تُنير روحه و تصنع حرارة في داخله تميل به إلى الفرح و الاستسلام إلى هذا الهدوء الممتع و هذا النّوم الذي يعتريه..لم ينم منذ صار ينام وحيدا في غرفته الواسعة..تتألّب عليه الذّكريات فتزيد من وجع الرّوح فلا يغفو إلا لينهض من جديد..
- أرغمتني أمّي و زوجها على الزّواج من ذلك الرّجل المنفّر، يدينان له بمبلغ كبير فقايضهم به عليّ و قبلوا دون تفكير طويل، باعوني له و أرغموني على الموافقة..سكنني الحزن وأنا أراهم يجهّزون لعرسي فتركتهم و غادرت قبل يوم من زفافي ،تركتهم و غادرت وأنا لا أعرف إلى أين ستقودني قدماي . و عندما كنت أعبر ذلك الشّارع و رأيت ضوء السيارة القادمة خطر لي أن أتخلّص منهم جميعا..
- كان عليك أن ترفضي هذه الصّفقة. من حقّك أن تعيشي كما تريدين لا أن تهربي إلى الموت.
سكنت إلى جملته تعيد سماعها كنصّ مقدّس أنزله الوحي على قلبها حتى أنّها صارت تردّدها إلى أن خفت صوتُها.
استسلما للنّوم دون إرادة إلى أن أيقظهما الفجر و الشّمس تغدق حمرتها على الأفق معلنة إشراقها و ولادة يوم جديد..
ارتبكت وهي تنتبه إلى نومتها في العراء على هذا الكرسيّ أمام البحر و بجانب هذا الرّجل الغريب.
- هل كنت أحلم ؟
ابتسم قلبُها . لأوّل مرة منذ سنوات يبتسم هذا القلب . كان ساكنا كهذا الصّباح الواعد، راضيا مستمتعا بهذا الهدوء و كأنه استرجع أنفاسه بعد لؤم الصّراع الذي عاشته مع نفسها..
قضت ليلتها أمام البحر بجانب رجل لا تعرف عنه شيئا.لم ينظر إليها بمكر و لم تشعر معه إلا بالأمان،لهذا ابتسم قلبها منذ فتحت عينيها ابتسامة رضى فأشرق وجهها .
سألته حتى تتحقق أكثر ممّا حدث :
- هل قضينا اللّيلة هنا فعلا ؟
التفت إليها وهو يفتح عينيه فبدت له أجمل من الشّمس الرّابضة في البحر:
- منذ زمن بعيد لم أنم كلّ هذا الوقت و لا بهذا العمق..
- أنا أيضا و كأنّني اكتشفت النّوم هذه الليلة فقط..
امتدّت يده إليها فأمسكتها و وقف وهو يجذبها إليه و ينطلق بها إلى البحر قائلا :
- سيكتمل المعنى إن ألقينا بأنفسنا في الماء حتى نلتحق بالشّمس فننير معها الكونَ..
لم تمانع، صارت مشدودة إلى كلماته ترقب سعادتها المرجوّة على شفاهه. ألقت بنفسها بين الأمواج، سبحت على ظهرها و هي ترقب الشّمس تتجلّى عروسا في حمرتها الصّاخبة و قد بدأت تغادر البحر لتزيح بقايا العتمة عن السّماء..
سمعته يقول وهو يشير إلى الفضاء الأزرق الذي يمتلئ بالنّور:
- ذاك هو مكاننا.علينا أن ننعم بما أعطاه الله لنا، أن نبزغ كشمس على حياتنا لننير أرواحنا و نبعث النّور في الآخرين..
سبقها في الخروج من البحر و صاح و هو يركض على الشّاطئ:
- ليس لنا منشفة هيا اركضي حتى تنشف ثيابك!
خرجت تختال من الماء، عروس بحر تبحث لها عن نهاية مختلفة لليلــة جميلة سرقـــتــها من الزّمن و بدأت في الرّكض و الضّحك.لم تضحك طوال حياتها هذا الضّحك الذي انقص من عمرها كل سنوات الحرمان و الوحدة و الضّجـــر.طفلة على قارعة الحلم صارت ترتجي الحبّ و الخيالات الدافئة !
بدأ بعض الصّيّادين يدفعون بقواربهم نحو الشاطئ و هم يلقون عليهما تحيّة الصباح مبتسمين ..أربكها لقاؤهم قليلا فطلبت من مرافقها الذّهاب .
- إلى أين ؟
- لا أعرف .
ركبا السّيّارة فسارت بهما ببطء إلى أن اعترضهما مقهى صغير على الشاطئ . أوقف المحرّك ثم غادر ليعود ببعض القهوة و قطع من المرطّبات تناولاها بنهم شديد فقد برّح بهما الجوع و لم ينتبها إلى ذلك إلا الآن.
من جديد حملتهما السّيّارة المليئة بالصّمت و الأمنيات ..
غريبان كانا رغم هذا القرب الذي صارا يستشعران به و هذه السّعادة التي أيقظت رغبتهما في الحياة.
قال و هو يمدّ يده في اتّجاهها:
- سأعود إلى ابنتي، سآخذها إلى بيتنا،لن أحرمها منّي و قد حُرِمت من أمّها، سنعيش أسرة واحدة!
أمسكت بيده و كأنّها تمسك حلما هاربا.
- أنا سأعود إلى أمّي و زوجها، لن أهرب ثانية منهما ، سأواجههما بكل قوّتي ! صار لي الآن هدف أحارب من أجله !
عند انتصاف النّهار كانت السّيّارة تقف في نفس الشّارع حيث صدمتها في اللّيلة السّابقة .تركت قلبها على المقعد و نزلت بثيابها الملتصقة بجسدها و بنشوة تملأ وجهَها و عزم يملأ عينيها الواسعتين . عبرت الطّريق وهي توالي الالتفات إلى سعادتها التي تنتظرها على مرمى القلب عندما ارتطم جسدها فجأة بدراجة نارية مسرعة ألقتها على حافّة الشّارع بينما انطلقت من رفيق ليلتها صرخة مدوّية ارتجّت لها السّماء ..