نشأ الإشكيمو نشأة صبيّ مطواع. درّبته أمّه على الخضوع لكلّ من هو أكبر منه. ودرّبه أبوه على الصمت والإصغاء فلا يتكلم إلاّ بمقدار ليقول نعم وحاضر وإن شاء الله ومعك حقّ وغيرها من العبارات الدالة على الانصياع للأوامر. ولم يجد المعلّمون صعوبة في التعامل معه سوى تدريبه على تعلّم الحساب وقواعد اللغة والإنشاء. واختاروا أن يدربوه على أمور أخرى لا صلة لها بالمعارف كأن يكنس قاعات الدرس بعد خروج التلاميذ والمعلمين وأن يجلب الماء من الحنفيّة العمومية القريبة من المدرسة وأن يمسك بأرجل التلاميذ ويرفعها عاليا ليتولى المعلّمون تأديبهم بالضرب. وكان يجد في هذه المهام لذة كبيرة فقد ظنّ لوقت طويل أنّه رجل فاعل في المدرسة ويساهم من موقعه هذا في بسط النظام فيها، بل إنه حسب نفسه جزءا من النظام ذاته وهذا ما جعله يعتقد أنّ السمع والطاعة والخضوع من تقنيات العيش الواجب إتقانها بدقة ليسهل على المرء أن يعيش بسلام. ولا يدري أحد كيف سقطت هذه الفلسفة من رأس الإشكيمو فجأة حين رأوه يرفض مساعدة المعلّم على تأديب زميل من زملائه ثم حين رأوه بعد ذلك يهوي بجمعه على رأس المعلّم ويلوذ بالفرار. كان ذلك أوّل علامة على التمرّد جلبت له محبّة أقرانه التلاميذ وسخط المعلّمين عليه وغضب الوالدين. فكر أبوه أوّل الأمر في تأديبه ثم خشي على نفسه منه فانتدبه ليعينه على أعماله الفلاحية الصغرى ووجد الإشكيمو في ذلك لذة عجيبة فقد صار رجلا نافعا ووجد في تربية الدواجن ما يعمّق في رأسه الوعي بأصول التربية. قال: لابد لمن أراد أن يكون مربّيا من أن يحبّ من تجب تربيته. وقاس عمله على أعمال والديه وأعمال المعلّمين فوجد الفرق شاسعا. هم يربون على الخضوع والطاعة بالعنف وهو يربّي دواجنه بالحب. لتكون النعجة نعجة نافعة عليك أن تحبّها وتحنو عليها وكذلك البقرة والدجاجة والحمار وسائر الحيوانات. حتّى الطيور البرّية كالنسور والغربان والحمام الزاجل يمكن بالحب تطويعها والاستفادة منها. فلسفة طمأنت أباه عليه وجعلته يتحدث عنه في الحوانيت بفخر. قال: الإشكيمو ولد صالح. ألم تروا كيف امتلأ حوشنا بصنوف الطيور فضلا عن صنوف الأغنام والأبقار مع قلة الأعلاف وطول الجفاف. ولكنّ هذه الفرحة بالإشكيمو لم تدم طويلا، فقد شوهد الإشكيمو ذات يوم قائظ يلوي عنق أبيه يريد قتله لولا أن أنقذه منه الجيران. قال أحد الأجوار المنقذين: للإشكيمو فرخ من فراخ النسور انتزعه من وكر أبويه وتولى إطعامه بيديه. وكبر الفرخ حتى صار نسرا يجوب الأجواء ويأتي بما يطلبه الإشكيمو، وكان يسلّطه في الغالب على طيور الجيران فيأتي بها حيّة. لقد أحبّه الإشكيمو حبّا عظيما جعله يقضي معه الساعات الطوال ويهمل واجباته الأخرى. وهذا ما أثار غضب أبيه عليه فعمد إلى النسر فلوى عنقه حتى قتله فقفز الإشكيمو وأمسك بعنق أبيه يريد قتله. وفهم الناس من هذا الخبر أن الإشكيمو صار متمردا فتجنبوه وفرضوا عليه الحصار حتى أعلن توبته فرضي عليه أبوه كما رضيت عليه الجماعة كلّها باستثناء الهذبة فقد خاب ظنها فيه