"يا ربي ولد جميل يعوّض لي ما فاتني و يروي ظمئي ! يا ربّي مكتمل الخلقة أفرح به و أشارك به النّاس صغيرا ،يا ربّي يسندني كبيرا و يحمل نعشي في يومي الأخير !"
ختمت نبيهة صلاة الصبح لذاك اليوم بهذا الدّعاء ككلّ صلواتها ثم سلّمت و نفضت سجادتها و غادرت غرفتها لتلتحق بالغرفة المجاورة.
تشعر في هذا الصباح بانشراح لم تعهده يغمر قلبها. تريد إغماض عينيها و فتحهما لتجد نفسها في المصحّة . استنفذت قدرتها على الصبر و الانتظار و قد وشما حياتها و ها قد أزفّ اليوم المنشود.
-هيّا يا سامية ما تزالين نائمة ! استيقظي لم يعد هنالك الكثير من الوقت لنلتحق بالمصحّة ..لا تنسي أن موعدنا تمام الثامنة !
تململت سامية ثم تقلبت على جانبها الآخر، ما تزال راغبة في النوم و الإسترخاء أكثر في فراشها بعد ليلة بيضاء هجرها فيها النوم و سكنتها الهواجس.
قالت :
- كنت أستمع الى آذان الفجر منذ برهة ، ما تزال الثامنة بعيدة ، دعيني أرتاح قليلا !
- لا ، سترتاحين هناك، لن أترك الموعد يفوت فلم أعد أحتمل !
تأففت سامية ثم ازاحت عنها الغطاء و نزلت من الفراش و بدأت للتوّ في تحضير نفسها للخروج و مرافقة نبيهة.
كانت سيارة الأجرة التي طلبتها نبيهة واقفة في انتظارهما،ركبتا فانطلقت بهما مسرعة تحت إلحاح نبيهة نحو إحدى المصحات في المدينة المجاورة و صوت لطفي بوشناق يعلو منشدا لهذا الصباح الواعد:
يا صباح المسك و العنبر
يا صباح الشهد و السكّر
يا أحلى صباح ..
استبشرت نبيهة بهذه الأغنية و قالت انها فأل خير قادم بينما أصلحت سامية من جلستها و ألقت برأسها على المقعد ثم طلبت من السائق ان يخفض صوت المذياع لصداع أصاب رأسها منذ الصباح.
وصلتا في تمام الوقت و فورا بدأ التحضير للعملية القيصرية .
كانتا متوتّرتين ،إحداهما تشجّع الأخرى وهي تحتاج لمن يشجعها بينما تتضاحك من حولهما الممرّضات اللواتي اعتدن هذه العمليات و يعرفن جيّدا أنها لم تعد تخيف أحدا. و بسرعة ، حرّكت إحدى الممرضات و قد كانت تبدو في اواخر حملها ايضا، السرير حيث تستلقي الأم و جرته الى غرفة العمليات.
- تهانينا سيدتي، انه ولد جميل و في صحة جيدة !"
دق قلب نبيهة للخبر، اشرأبت عيناها الممتلئة بالرجاء ناحية الممرضة و تتدافعت الأسئلة من حلقها سريعة متداخلة تريد أن تعرف كل شيء عن المولود عن صحته و عن كل تفاصيله حتى أن الممرّضة استغربت كل هذا الفرح الذي انثال من عينيها قبل فمها و تعاطفت معا فقالت : " اطمئني سيدتي إنّه بصحّة جيّدة ! هيا معي سأجعلك ترينه قبل أمّه !"
طارت نبيهة أمامها تسبقها عيناها الباحثتين عن المولود و كأنها ستجده في الرواق.
كانت دقات قلبها تتسارع حينا و تبطىء آخر كأنها عذراء تلتقي حبيبها أول مرة ..يحمر وجهها و تتدفق فيه الدماء و هي تتخيل الطفل بين يديها يُحيي كل ما مات فيها قبله و يبعث معنى جديدا لحياتها. هي أحبّته قبل أن تراه ،أحبّت فكرة أن يكون لها طفل يملأ فراغات قلبها و يصلح كسوراته.
وقفت أمام البلّور تنظر الى الممرّضة في الجهة المقابلة تحمل الصبي بين يديها و تقرّبه منها.
لِم هذا البلّور الذي يفرّق بينها و بين حلمها وقد تجسّد أخيرا؟ ألا تكفي السنوات التي أمضتها بدونه حتى نضيف اليها دقائق أخرى ؟
تمنت أن تكسر هذا البلّور الذي بدا لها كقضبان سجن يقف وراءه سجين محكوم ظلما بالمؤبّد.. ألصقت عينيها به حتى أنّها تكاد تخترقه، تريد أن تلمسه ، أن تدسّه في صدرها تلقمه رائحتها و تتنسّم روائحه! قربت وجهها أكثر لتتملى تفاصيله الظاهرة من تحت ثيابه التي اختارتها له بنفسها.
"يا الله ! أخيرا تراه بملء الروح !" كما تمنّته، بتفاصيله التي حلمت بها ، كما دعت ربها فاستجاب و جبر عذاباتها ..
شكرا يا الله ،سأذبح خروفا و أوزّع لحمه على الفقراء و المساكين احتفالا برضائك عني بعد طول عقاب !
و انطلقت الزغاريد تملأ أروقة المصحّة معلنة موعدها الجديد مع الفرح . الفرح الذي كان مستحيلا فصار واقعا ستقبّله بعد قليل و تحمله بين يديها و لن تفرّط فيه أبدا . فرح فاض على وجهها و انهمر من عينيها دموعا و من شفتيها ابتساما و ضحكا و زغاريد.
دخلت الى الغرفة بعد انتظار مرّ عليها كدهر. كانت سامية تغطّ في نومها عندما أتت الممرضة بالطفل، طفل نبيهة الذي انتظرته عمرا ،طفلها الذي تمنته دهرا و لم تطله الا الآن ،في هذه اللحظة ،أجمل لحظات عمرها . صارت الآن أمّا و ها هو حضنها ينفتح لملاكها الصغير ،يتلقفه كمن يحضن حبيبا بعد غياب قسري طال، هاهي مشاعرها التي كتمتها لأكثر من عشر سنوات من القحط و الجدب تتفجر دافقة و دافئة !
اهتز جسدها لهذا اللقاء ، تدفقت دموعها و سال العرق من جبينها و شعرت ببرودته على ظهرها .ارتعشت يدها وهي تفتح أزرار قميصها ثم وهي تلقم الرضيع حلمتها فيبكي. ارتبكت قليلا و لكنها أصرت على تقريب فمه الصغير من صدرها فاشتدّ البكاء و اشتدّ الإصرار و الإرتباك .
فتحت سامية ابنة أختها عينيها فرأت خالتها تحاول القام ثديها لإبنها وهو يبكي. لم تصدق عيناها :
- ماذا تفعلين ؟
أوقفت الصرخة يد نبيهة و شدّدت من قبضة حضنها على الصبي الباكي و لم تنبس بكلمة .ملأها الخجل و كأنها ظبطت بصدد فعل مشين .لم يخطر ببالها ما فعلته ،لم تدبر الأمر او تخطط له بل حدث هكذا بشكل طبيعي، كما تفعل كل أم تحضن ابتها لأول مرة . أليس ابنها ؟ ألم تتفق مع ابنة أختها على أن تتركه لها بعد الولادة ؟ألم تحضّر كل شيء حتى اوصلتها الى هنا ؟
أكثر من سبعة اشهر وهي تنتظر هذه اللحظة ، لحظة تُبعث فيها الحياة مليئة بالمعنى و بالدفء ، لحظة أن تصير أمّا !
كانت ابنة أختها تنوي اجهاض طفلها و قد حملت به دون تخطيط مسبق ..كان هذا الحمل كارثة بالنسبة الى سامية وزوجها الفقير و المريض. لا يستطيعان إعالة ثلاثة أطفال فكيف برابع يأتي على غير انتظار !
و قررت وزوجها اجهاض هذا القادم الثقيل عندما رجتها خالتها أن لا تفعل ، أن تتركه لها. و فكرت سامية :
-إذا تركته حتى الوضع سيكلفني مصاريف لا قبل لي بها.
-اعتبريني المسؤولة عنك و عنه منذ هذه اللحظة ،سأتكفل بكل شيء و كأنني من يحمله و ستلدينه لي في مصحة خاصة و ساشتري لك و له كل ما يلزمكما ، فقط احمليه عني حتى الوضع.
انتفضت سامية وهي ترى خالتها تحاول إرضاع ابنها،شعرت أنها تسرق منها قطعة من روحها . ابنها الذي كبر في رحمها يوما بعد يوم و اهتز قلبها فرحا عندما شعرت بحركته الأولى ، لم تكن لتسامح نفسها لو أجهضته غير أن الفقر و الحاجة يجعلاننا نفكر في أشياء لا نقدر عليها .
هجرها النوم البارحة، هالها الأمر و قد أوشك على التحقق و هالها أيضا أن تخذل خالتها و تكسر خاطرها في اللحظة الأخيرة و لكن كل شيء يهون أمام الاحتفاظ بابنها و عدم التفريط فيه. و هاهي اللحظة المناسبة تأتي لوحدها، لم تستطع تحمل المشهد الذي تراه أمامها : خالتها تحاول ارضاع ابنها، سيحبها هي و يتعلق بها اكثر منها . ستكون أمّه و ستحرم هي من صغيرها الذي لم تره بعد!
انتفضت رغم ما تشعر به من اوجاع في كامل جسدها وهي تصرخ :
- اتركي ابني هل صدقت نفسك؟ أنا من سيرضعه ،هو ابني أنا !
دخلت الممرضة على وقع الصياح و قد تمسكت نبيهة بالطفل و رفضت أن تعطيه لوالدته التي ارتفع صياحها و هي تقول ان هذه المرأة تريد سرقة ابنها منها.
لم ينته الموضوع الا بتدخل الأمن الذي أخرج نبيهة من الغرفة و أعاد الطفل الى أمّه .
عادت نبيهة الى بيتها تجر أذيال خسرانها المبين و قد رافقتها الممرضة التي رقّت لحالها بعد ما رأته منها و أبت ان تتركها لوحدها.
و عادت سامية تحمل ابنها بين يديها، لن تفرط فيه لأحد ،سيرزقها الله برزقه و رزق اخوته و لكن زوجعا صعق وهو يراها تدخل به الى المنزل و قد كان يمني النفس بخيرات خالتها تطال ابنها و تطاله!
بعد شهر من الولادة او اكثر حملت سامية نبيها و طرقت باب خالتها . ستتركه لها تربيه ،لن تحرم ابنها من العز الذي ينتظره ، ستفتح له خالتها أبواب جناتها و فراديس بيتها . قد لا يسامحها عندما يكبر و يعرف ما حدث ،لذا ستسترضي خالتها على ما بدر منها في المصحة بدون شديد وعي منها . ستقول هذا و الا فإن زوجها سيطلقها و يطردها و أبناءها من البيت .
عاجزة عن حماية ابنها و الدفاع عن أمومتها، اختفت أنيابها الشرسة التي مزقت بها اوصال خالتها في ذلك اليوم و حلت محلها وداعة المضطر ، من يطأطىء رأسه للمهانة حتى يعيش! شهر من الضرب المبرّح استسلمت بعده و استكانت لقدرها فقررت تسليم ابنها و استلام ثمنه.
طال الطرق و لم يفتح الباب حتى ان احدى الجارات انتبهت لوقفتها و حيرتها فأخبرتها بأن خالتها غادرت منذ الصباح الباكر مع صديقتها الممرضة في سيارة أجرة و ربما هي الآن في طريق العودة و دعتها الى انتظارها في منزلها.
لم تمر ساعة على دخول سامية بيت الجارة عندما سمعت الزغاريد تنطلق من بيت خالتها.هرعت اليها حاملة ابنها فوجدت الباب مفتوحا. دلفت الى غرفة خالتها فرأت امراة مستلقية على الفراش و بجانبها طفل رضيع..انها ممرضة المصحة ! و رأت خالتها توالي احراق البخور و اطلاق الدموع و الزغاريد .
لم تفهم سامية ما يحدث الا انها اقتربت من خالتها و يداها تمتدان اليها بطفلها :
- سامحيني يا خالتي . ها قد اتيتك بابنك و لن يأخذه منك احد بعد الآن !
لم تجبها نبيهة بل لم تنظر اليها و لا الى طفلها و تركت يديها معلقتين و اندفعت تحمل ابنها الجديد في حضنها تلقمه حلمتها وهو ينفجر بالبكاء.
ختمت نبيهة صلاة الصبح لذاك اليوم بهذا الدّعاء ككلّ صلواتها ثم سلّمت و نفضت سجادتها و غادرت غرفتها لتلتحق بالغرفة المجاورة.
تشعر في هذا الصباح بانشراح لم تعهده يغمر قلبها. تريد إغماض عينيها و فتحهما لتجد نفسها في المصحّة . استنفذت قدرتها على الصبر و الانتظار و قد وشما حياتها و ها قد أزفّ اليوم المنشود.
-هيّا يا سامية ما تزالين نائمة ! استيقظي لم يعد هنالك الكثير من الوقت لنلتحق بالمصحّة ..لا تنسي أن موعدنا تمام الثامنة !
تململت سامية ثم تقلبت على جانبها الآخر، ما تزال راغبة في النوم و الإسترخاء أكثر في فراشها بعد ليلة بيضاء هجرها فيها النوم و سكنتها الهواجس.
قالت :
- كنت أستمع الى آذان الفجر منذ برهة ، ما تزال الثامنة بعيدة ، دعيني أرتاح قليلا !
- لا ، سترتاحين هناك، لن أترك الموعد يفوت فلم أعد أحتمل !
تأففت سامية ثم ازاحت عنها الغطاء و نزلت من الفراش و بدأت للتوّ في تحضير نفسها للخروج و مرافقة نبيهة.
كانت سيارة الأجرة التي طلبتها نبيهة واقفة في انتظارهما،ركبتا فانطلقت بهما مسرعة تحت إلحاح نبيهة نحو إحدى المصحات في المدينة المجاورة و صوت لطفي بوشناق يعلو منشدا لهذا الصباح الواعد:
يا صباح المسك و العنبر
يا صباح الشهد و السكّر
يا أحلى صباح ..
استبشرت نبيهة بهذه الأغنية و قالت انها فأل خير قادم بينما أصلحت سامية من جلستها و ألقت برأسها على المقعد ثم طلبت من السائق ان يخفض صوت المذياع لصداع أصاب رأسها منذ الصباح.
وصلتا في تمام الوقت و فورا بدأ التحضير للعملية القيصرية .
كانتا متوتّرتين ،إحداهما تشجّع الأخرى وهي تحتاج لمن يشجعها بينما تتضاحك من حولهما الممرّضات اللواتي اعتدن هذه العمليات و يعرفن جيّدا أنها لم تعد تخيف أحدا. و بسرعة ، حرّكت إحدى الممرضات و قد كانت تبدو في اواخر حملها ايضا، السرير حيث تستلقي الأم و جرته الى غرفة العمليات.
- تهانينا سيدتي، انه ولد جميل و في صحة جيدة !"
دق قلب نبيهة للخبر، اشرأبت عيناها الممتلئة بالرجاء ناحية الممرضة و تتدافعت الأسئلة من حلقها سريعة متداخلة تريد أن تعرف كل شيء عن المولود عن صحته و عن كل تفاصيله حتى أن الممرّضة استغربت كل هذا الفرح الذي انثال من عينيها قبل فمها و تعاطفت معا فقالت : " اطمئني سيدتي إنّه بصحّة جيّدة ! هيا معي سأجعلك ترينه قبل أمّه !"
طارت نبيهة أمامها تسبقها عيناها الباحثتين عن المولود و كأنها ستجده في الرواق.
كانت دقات قلبها تتسارع حينا و تبطىء آخر كأنها عذراء تلتقي حبيبها أول مرة ..يحمر وجهها و تتدفق فيه الدماء و هي تتخيل الطفل بين يديها يُحيي كل ما مات فيها قبله و يبعث معنى جديدا لحياتها. هي أحبّته قبل أن تراه ،أحبّت فكرة أن يكون لها طفل يملأ فراغات قلبها و يصلح كسوراته.
وقفت أمام البلّور تنظر الى الممرّضة في الجهة المقابلة تحمل الصبي بين يديها و تقرّبه منها.
لِم هذا البلّور الذي يفرّق بينها و بين حلمها وقد تجسّد أخيرا؟ ألا تكفي السنوات التي أمضتها بدونه حتى نضيف اليها دقائق أخرى ؟
تمنت أن تكسر هذا البلّور الذي بدا لها كقضبان سجن يقف وراءه سجين محكوم ظلما بالمؤبّد.. ألصقت عينيها به حتى أنّها تكاد تخترقه، تريد أن تلمسه ، أن تدسّه في صدرها تلقمه رائحتها و تتنسّم روائحه! قربت وجهها أكثر لتتملى تفاصيله الظاهرة من تحت ثيابه التي اختارتها له بنفسها.
"يا الله ! أخيرا تراه بملء الروح !" كما تمنّته، بتفاصيله التي حلمت بها ، كما دعت ربها فاستجاب و جبر عذاباتها ..
شكرا يا الله ،سأذبح خروفا و أوزّع لحمه على الفقراء و المساكين احتفالا برضائك عني بعد طول عقاب !
و انطلقت الزغاريد تملأ أروقة المصحّة معلنة موعدها الجديد مع الفرح . الفرح الذي كان مستحيلا فصار واقعا ستقبّله بعد قليل و تحمله بين يديها و لن تفرّط فيه أبدا . فرح فاض على وجهها و انهمر من عينيها دموعا و من شفتيها ابتساما و ضحكا و زغاريد.
دخلت الى الغرفة بعد انتظار مرّ عليها كدهر. كانت سامية تغطّ في نومها عندما أتت الممرضة بالطفل، طفل نبيهة الذي انتظرته عمرا ،طفلها الذي تمنته دهرا و لم تطله الا الآن ،في هذه اللحظة ،أجمل لحظات عمرها . صارت الآن أمّا و ها هو حضنها ينفتح لملاكها الصغير ،يتلقفه كمن يحضن حبيبا بعد غياب قسري طال، هاهي مشاعرها التي كتمتها لأكثر من عشر سنوات من القحط و الجدب تتفجر دافقة و دافئة !
اهتز جسدها لهذا اللقاء ، تدفقت دموعها و سال العرق من جبينها و شعرت ببرودته على ظهرها .ارتعشت يدها وهي تفتح أزرار قميصها ثم وهي تلقم الرضيع حلمتها فيبكي. ارتبكت قليلا و لكنها أصرت على تقريب فمه الصغير من صدرها فاشتدّ البكاء و اشتدّ الإصرار و الإرتباك .
فتحت سامية ابنة أختها عينيها فرأت خالتها تحاول القام ثديها لإبنها وهو يبكي. لم تصدق عيناها :
- ماذا تفعلين ؟
أوقفت الصرخة يد نبيهة و شدّدت من قبضة حضنها على الصبي الباكي و لم تنبس بكلمة .ملأها الخجل و كأنها ظبطت بصدد فعل مشين .لم يخطر ببالها ما فعلته ،لم تدبر الأمر او تخطط له بل حدث هكذا بشكل طبيعي، كما تفعل كل أم تحضن ابتها لأول مرة . أليس ابنها ؟ ألم تتفق مع ابنة أختها على أن تتركه لها بعد الولادة ؟ألم تحضّر كل شيء حتى اوصلتها الى هنا ؟
أكثر من سبعة اشهر وهي تنتظر هذه اللحظة ، لحظة تُبعث فيها الحياة مليئة بالمعنى و بالدفء ، لحظة أن تصير أمّا !
كانت ابنة أختها تنوي اجهاض طفلها و قد حملت به دون تخطيط مسبق ..كان هذا الحمل كارثة بالنسبة الى سامية وزوجها الفقير و المريض. لا يستطيعان إعالة ثلاثة أطفال فكيف برابع يأتي على غير انتظار !
و قررت وزوجها اجهاض هذا القادم الثقيل عندما رجتها خالتها أن لا تفعل ، أن تتركه لها. و فكرت سامية :
-إذا تركته حتى الوضع سيكلفني مصاريف لا قبل لي بها.
-اعتبريني المسؤولة عنك و عنه منذ هذه اللحظة ،سأتكفل بكل شيء و كأنني من يحمله و ستلدينه لي في مصحة خاصة و ساشتري لك و له كل ما يلزمكما ، فقط احمليه عني حتى الوضع.
انتفضت سامية وهي ترى خالتها تحاول إرضاع ابنها،شعرت أنها تسرق منها قطعة من روحها . ابنها الذي كبر في رحمها يوما بعد يوم و اهتز قلبها فرحا عندما شعرت بحركته الأولى ، لم تكن لتسامح نفسها لو أجهضته غير أن الفقر و الحاجة يجعلاننا نفكر في أشياء لا نقدر عليها .
هجرها النوم البارحة، هالها الأمر و قد أوشك على التحقق و هالها أيضا أن تخذل خالتها و تكسر خاطرها في اللحظة الأخيرة و لكن كل شيء يهون أمام الاحتفاظ بابنها و عدم التفريط فيه. و هاهي اللحظة المناسبة تأتي لوحدها، لم تستطع تحمل المشهد الذي تراه أمامها : خالتها تحاول ارضاع ابنها، سيحبها هي و يتعلق بها اكثر منها . ستكون أمّه و ستحرم هي من صغيرها الذي لم تره بعد!
انتفضت رغم ما تشعر به من اوجاع في كامل جسدها وهي تصرخ :
- اتركي ابني هل صدقت نفسك؟ أنا من سيرضعه ،هو ابني أنا !
دخلت الممرضة على وقع الصياح و قد تمسكت نبيهة بالطفل و رفضت أن تعطيه لوالدته التي ارتفع صياحها و هي تقول ان هذه المرأة تريد سرقة ابنها منها.
لم ينته الموضوع الا بتدخل الأمن الذي أخرج نبيهة من الغرفة و أعاد الطفل الى أمّه .
عادت نبيهة الى بيتها تجر أذيال خسرانها المبين و قد رافقتها الممرضة التي رقّت لحالها بعد ما رأته منها و أبت ان تتركها لوحدها.
و عادت سامية تحمل ابنها بين يديها، لن تفرط فيه لأحد ،سيرزقها الله برزقه و رزق اخوته و لكن زوجعا صعق وهو يراها تدخل به الى المنزل و قد كان يمني النفس بخيرات خالتها تطال ابنها و تطاله!
بعد شهر من الولادة او اكثر حملت سامية نبيها و طرقت باب خالتها . ستتركه لها تربيه ،لن تحرم ابنها من العز الذي ينتظره ، ستفتح له خالتها أبواب جناتها و فراديس بيتها . قد لا يسامحها عندما يكبر و يعرف ما حدث ،لذا ستسترضي خالتها على ما بدر منها في المصحة بدون شديد وعي منها . ستقول هذا و الا فإن زوجها سيطلقها و يطردها و أبناءها من البيت .
عاجزة عن حماية ابنها و الدفاع عن أمومتها، اختفت أنيابها الشرسة التي مزقت بها اوصال خالتها في ذلك اليوم و حلت محلها وداعة المضطر ، من يطأطىء رأسه للمهانة حتى يعيش! شهر من الضرب المبرّح استسلمت بعده و استكانت لقدرها فقررت تسليم ابنها و استلام ثمنه.
طال الطرق و لم يفتح الباب حتى ان احدى الجارات انتبهت لوقفتها و حيرتها فأخبرتها بأن خالتها غادرت منذ الصباح الباكر مع صديقتها الممرضة في سيارة أجرة و ربما هي الآن في طريق العودة و دعتها الى انتظارها في منزلها.
لم تمر ساعة على دخول سامية بيت الجارة عندما سمعت الزغاريد تنطلق من بيت خالتها.هرعت اليها حاملة ابنها فوجدت الباب مفتوحا. دلفت الى غرفة خالتها فرأت امراة مستلقية على الفراش و بجانبها طفل رضيع..انها ممرضة المصحة ! و رأت خالتها توالي احراق البخور و اطلاق الدموع و الزغاريد .
لم تفهم سامية ما يحدث الا انها اقتربت من خالتها و يداها تمتدان اليها بطفلها :
- سامحيني يا خالتي . ها قد اتيتك بابنك و لن يأخذه منك احد بعد الآن !
لم تجبها نبيهة بل لم تنظر اليها و لا الى طفلها و تركت يديها معلقتين و اندفعت تحمل ابنها الجديد في حضنها تلقمه حلمتها وهو ينفجر بالبكاء.