سعيد رفيع - العودة إلى جوبال

سقط سلمان مريضاً منذ ستة أشهر تقريباً ، إثر عودته من رحلة صيد قام بها منفرداً إلى المصايد المحيطة بجزيرة جوبال ، وكان رزقه وفيراً فى ذلك اليوم ، وبمجرد وصوله لمرسى القوارب المقابل للنجع ، أفرغ حمولة القارب من الأسماك ، وباعها على الفور لأحد تجار الأسماك ، ممن كانوا ينتظرون وصول الصيادين إلى المرسى .
في ذلك اليوم كان الشيخ مبروك يقف على الشاطئ كعادته ، وعندما ألقى سلمان ، بمرساته خاض الشيخ بضعة أمتار في الماء حتى وصل إلى القارب ، وبعد أن هنأ سلمان بسلامة العودة ، بادره قائلاً أنه يعلم أن من بين الأسماك التي صيدت ، سمكة دراك كبيرة ، وأنه ، أي الشيخ ، يريد من سلمان أن يلقي بهذه السمكة مرة أخرى إلى البحر ، ولأن سمكة الدراك تعد صيداً ثميناً ، فإن سلمان أظهر استياء من طلب الشيخ ، ورغم أنه أصيب بدهشة لأن الشيخ كان يعرف أن هناك سمكة دراك بين أنواع الأسماك العديدة التي صادها في ذلك اليوم ، إلا أنه ركب رأسه ، ورفض أن يستجيب لرغبة الشيخ ، بل وأصر على أن يبيع السمكة ضمن الأسماك التي باعها للتاجر ، ثم غير رأيه ، وقرر أن يحتفظ بالسمكة لنفسه ، لتكون على مائدة غدائه في ذلك اليوم .
بعد غداء ذلك اليوم مباشرة سقط سلمان مغشيا عليه ، فحمل من فوره إلى المستشفى ، حيث بادره الأطباء بالأدوية والعقاقير حتى أفاق من غيبوبته ، فأعيد لبيته ، ولكن لم يكد يخطو أولى خطواته داخل المنزل حتى انتابته حالة من الهياج ، جرى على أثرها إلى البحر ، وألقى بنفسه بين الأمواج ، فانطلق على أثره عدد كبير من الجيران ، حيث اقتادوه إلى البيت ، واضطروا إلى ربطه في سريره ، ثم استدعوا كل من يعرفون من الأطباء ، طبيبا إثر آخر ، فكان الأطباء يعالجونه بأدوية مهدئة ومنومة ، لا يكاد أن يخفت أثرها حتى تعاوده حالة الهياج بدرجة أسوأ من سابقتها .
تدهورت حالة سلمان سريعاً بعد ذلك ، واعترف الأطباء بأنه ليس لديهم دواء ناجع لمثل حالته ، ونصح البعض بأن يعرض سلمان على أطباء العاصمة ، ولكن أطباء العاصمة لم يكونوا أوفر حظا من أطباء البلد ، إذ استمرت نوبات الإغماء التى تنتاب سلمان ، والتي تعقبها في العادة نوبة هياج ، ترافقها رغبة عارمة في الإنطلاق صوب البحر .
يقع نجع الصيادين على الساحل مباشرة أمام مرسى القوارب ، مجموعة متجاورة من البيوت ، والبيوت متشابهة إلى حد كبير ، بيت واحد منها يبدو مختلفاً ، وهو بيت الشيخ مبروك ، فالبيت هو مجرد کوخ شيد من خليط من أحجار الجير والبوص .
ويقوم الكوخ في الجهة الشمالية من النجع ، ويبدو منعزلاً ومتطرفاً عن بقية البيوت ، والكوخ أقرب البيوت جميعاً من البحر ، فحده الشرقي يكاد يلامس الأمواج ، بل أن الأمواج كثيراً ما تخترق الكوخ بالكامل عندما يبلغ المد ذروته ، وهو أمر يراه الصيادون مثيراً للدهشة ، ومثيراً للتساؤل عن الأسباب التي تضطر رجلا مسنا إلى السكن في كوخ يبدو في أغلب الأوقات غارقاً فى مياه البحر .
أما عزلة البيت فلا تثير دهشة كبيرة بين الجيران ، فالشيخ مبروك نفسه رجل غريب عن أهل النجع ، إذ هبط عليهم فجأة منذ سنوات مضت ، ليقيم له كوخاً منعزلاً ، ولم يجد مبروك حينذاك أي اعتراض من السكان على تشييد كوخه في هذا المكان ، إذ كان الساحل بكراً وخالياً سوى من بضعة بيوت للصيادين .
مبروك شيخ طاعن في العمر ، يرتدي الثوب والطاقية على الدوام ، صيفاً وشتاء ، ولا أحد يعرف عمره على وجه اليقين ، وهو شخصياً لم يفصح أبداً عن ذلك ، ولا يوجد في هيئته أو مظهره ما يجعله مختلفاً عن بقية الشيوخ في مثل عمره ، ربما عيناه فقط هما اللتان تلفتان الإنتباه بعض الشيء ، نظرا لاتساعهما البالغ ، ولحرص الشيخ على تكحيلهما على الدوام .
ما يثير الجدل في الشيخ مبروك هو سلوكه الذي يبدو عصياً على الفهم أغلب الأحيان ، إذ يتردد بين الجيران أن الشيخ مبروك لم يمرض قط منذ عرفوه ، فهو لم يزر طبيباً ولم يزره طبيب ، بل أن الشيخ ، كما يؤكد الجميع ، لم يغادر النجع منذ أن حل به ، فهو لم يشاهد قط في أي مكان آخر من البلد سوى النجع حتى أنهم يتعجبون من أين يأتي الشيخ بطعامه وشرابه طالما أنه لا يتردد على الأسواق أو الدكاكين التي تقع جميعها بعيداً عن النجع .
أما أكثر ما يثير الجدل والدهشة فهو حرص الشيخ مبروك على استقبال القوارب عند عودتها من الصيد ودخولها إلى المرسى ، وفي كل مرة لا ينتظر حتى يخرج الرجال بصيدهم من القوارب ، بل يبادر هو بالخوض في الماء ، حتى يصل إلى المركب التي تقف على بعد عدة أمتار من الشاطئ ، كان يبدأ تبادل التحية مع الصيادين ، ثم يلقي نظرة على الأسماك المكومة في بطن
القارب ، لا يفعل أكثر من ذلك ، ثم يودع الرجال ويعود أدراجه إلى الشاطئ .
اعتاد الصيادون على هذا المسلك الغريب للشيخ ، ومع تكراره ، أدركوا أن الشيخ لا يحفل سوى بنوع واحد فقط من الأسماك ، وهو سمك الدراك ، وبالذات الذي يتم صيده من نواحي جزيرة جوبال ، وكان هذا يثير سخرية البعض ، إذ لا يكاد الشيخ يلمح سمكة واحدة من أسماك الدراك في بطن القارب ، حتى يسأل عن المكان الذي صيدت منه ، فإن ذكروا له اسم جزيرة جوبال ، فإنه يطلب من أحدهم أن يأتيه بها على الفور ، ثم يبدأ في تفحصها كأي طبيب يفحص مريضاً ، يمسح جانبيها بكفه ، يفتح فمها ويلقي نظرة ، يفتح الخياشيم على جانبي الرأس ، ويلقي بنظرة على كل منها ، يضغط بإبهامه على بعض المواضع ، وأخيراً يلقي بالسمكة في بطن القارب ، ثم يمضي إلى حال سبيله .
وفي مرات كثيرة ، كانت سمكة معينة من أسماك الدراك تثير اهتمام الشيخ أكثر من غيرها ، وكان يقضي وقتاً أطول في تفحصها ، بل وفي الإستغراق في شم رائحتها ، وكان الصيادون يعرفون ما سيفعله الشيخ بعد ذلك ، إذ اعتادوا أن يطلب منهم الشيخ في مثل هذه الحالة أن يلقوا بالسمكة إلى البحر مرة أخرى ، حتى لو كانت ميتة ، وكان الصيادون يستجيبون دائماً لرغبته ، فيمسك أحدهم بالسمكة ويلقي بها إلى أقصى مسافة ممكنة في البحر ، فيشكرهم الشيخ بإيماءة من رأسه ، ثم ينصرف راضيا صوب الشاطئ ، دون أن يسأله أحد سبباً لطلبه الغريب ، ودون أن يخبرهم هو بأي مبرر .
لم يبد الشيخ مبروك اهتماماً كبيراً ونحن نقص عليه ما جرى لسلمان ، إذ جرى لقاؤنا معه سريعا عند مرسى القوارب ، وكان واقفاً وعيناه مشدودتان إلى قارب صغير يقترب من المرسى فأصغى إلينا ، ولكنه لم يسرف في التعقيب على ما سمعه منا ، كل ما قاله لنا أنه كان يعرف أننا سنأتي إليه ، ثم اختتم تعقيبه القصير بقوله : "أتوني بسلمان عشية الخميس .. ودعوه لي حتى الصباح" .
لم نشغل أنفسنا كثيراً بما قاله الشيخ خاصة زعمه بأنه كان يعرف أننا سنأتي إليه .. إذ كنا قد اعتدنا ، مثل غيرنا من الجيران ، على غرابة أطوار الرجل ، وعلى قول البعض بأن الشيخ مبروك ليس إنسانا بل جنيا ولكنه طيب ، كما يزعم البعض أن الشيخ مبروك يستطيع أن يتحول من إنسان إلى حيوان دون أن يلاحظ أحد ، ولذلك عقدنا العزم على أن نأتيه بسلمان عشية الخميس ، وهو ما حدث بالفعل ، إذ لم تكد تنتهي صلاة العشاء ، حتى كنا قد أودعنا سلمان في كوخ الشيخ ، في ذات الغرفة التي تغمرها المياه عند المد .
كانت الغرفة خالية تماماً من الأثاث ، ولم تكن تحوي أي نوع من الفراش ، لم يكن هناك سوى الرمال المبتلة ، التي تتناثر في أرجائها أعشاب القيصار وجحور الكابوريا ، لذلك بادر أحدنا بخلع ثوبه ليفترشه سلمان ، ولكن الشيخ نهاه عن ذلك ، وأصر على أن يفترش سلمان الرمال المبتلة دون
سواها .
قبل ضحى اليوم التالي كنا على عتبة الكوخ ، وكان الباب مفتوحا على مصراعيه ، ومع ذلك طرقنا عليه عدة مرات فلم نتلق جواباً ، عندئذ لم نتردد في الدخول ، حيث وجدنا الغرفة على حالها ، ولكن سلمان لم يكن هناك ، وعندما لاحظنا أن هناك غرفة أخرى لصيقة ، إتجهنا إليها ، فإذا بحالها كحال الغرفة الأخرى تماماً ، مجرد أرضية من الرمال المبتلة بماء البحر ، ولا أثر لقطعة أثاث واحدة أو فراش من أي نوع والأهم من ذلك كله أننا لم نجد أثراً للشيخ مبروك أو سلمان فهرعنا إلى الخارج ، وراحت أعيننا تمسح الشاطئ بحثاً عن أي منهما ، فلم يقع نظرنا سوى على رجل واحد ، مجرد رجل يجلس قبالة المرسى ويولينا ظهره ، وبدا لنا من بعيد شبيهاً بسلمان فهرولنا حتى دنونا منه ، فإذا به سلمان بشحمه ولحمه .
بدا لنا سلمان شاحباً وذابلاً كحاله بالأمس ، غير أنه كان هادئاً وبكامل وعيه ، كعهده قبل أن يباغته المرض ، وكان وجهه يكتسي بغلالة سميكة من الذهول ، وبالطبع لم نكن نحن أقل ذهولاً منه ، ولكننا لم نشأ أن نضيع وقتاً ، بعد أن داهمتنا الرغبة في معرفة كل ما جرى ، فبادرناه على الفور بالسؤال عن حاله ، فأجاب بأنه على ما يرام ، فعدنا نسأله عما فعل به الشيخ في تلك الليلة ، فأجاب بأنه لا يتذكر شيئاً ، كل ما في الأمر أنه فتح عينيه ليجد نفسه في الكوخ ، وشعر براحة الشيخ وهي تمشي على جبهته ، كما سمع الشيخ وهو يردد بعض التعاويذ ، ولما استرد وعيه بالكامل ، جذبه الشيخ من ذراعه فأنهضه .
جرى ذلك في غبشة الصبح ، يقول سلمان ، قبيل بزوغ الشمس من وراء البحر ، وقبل أن نسأله عن الشيخ ، بادرنا بقوله أن الشيخ دفع به إلى الشاطئ وأجلسه فى ذلك المكان ، دون أن ينبس بكلمة واحدة، ثم ربت على كتفه وقال "سوف أرحل الآن إلى جزيرة جوبال" ، وشرع يخوض في البحر حتى بلغ الماء كتفيه ، ثم واصل الخوض حتى غمر الماء رأسه .
وفجأة، والكلام لا يزال لسلمان ، انشق الماء عن سمكة كبيرة ، خلتها حوتاً ضل طريقه إلى الشاطئ ، فلما أمعنت النظر ، بدت لي كسمكة دراك كبيرة ، ما كادت تظهر فوق سطح الماء ، حتى شرعت تدور عدة دورات ، ثم أخذت تتقافز فوق سطح الماء ، وانطلقت شرقا إلى المياه العميقة ، ثم استدارت شمالا ، وواصلت انطلاقها صوب جزيرة جوبال .
جوبال : جزيرة تقع شمال شرق الغردقة .
الدراك : نوع من الأسماك المشهورة في البحر الأحمر .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى