د. محمد الهادي الطاهري - الفرندس يقتحم فلورنسا بالغناء

دخل الفرندس مقهى فلورنسا. وهذا المقهى، دون غيره من مقاهي الشوارع الكبرى وسط العاصمة، لا يتّسع لأكثر من عشرين كرسيّ حول خمس طاولات خشبيّة عريضة. ولا يُسمح لرواد المقهى بتناول مشروباتهم وقوفا. وأغلب روّاده مثقّفون وأشباه مثقّفين وكان ذلك ظاهرا للعيان من هندامهم ووجوههم وطريقة حديثهم إلى بعضهم البعض. قال الفرندس: نظرت في وجوه الجالسين فلم أر أحدا يشبهني في شيء. حتّى رفيقاي اللذان اصطحباني إلى هنا لم يكونا مثلي. فالرجل المستضيف أنيق رقيق وزميلي الذي ناداني "كفّ عنه يا فرندس" حضريّ وابن حضريّ. وكنتُ بأنفي الأفطس وعينيّ الجاحظتين وشعري الأجعد الأشعث أشبه بالمتسوّلين. قرأت ذلك في عيون المثقفين الجالسين يحتسون شرابهم، وفي إشارات بعضهم إلى بعض. وفهمت أنّهم مستاؤون منّي تحديدا. أحدهم ظلّ يرمقني ويشير إلى جليسيه كأنه يقول " ما الذي جاء به إلى هنا؟" لا أخفيكم أنّي شعرت بشيء من الارتباك حتّى أنّي كدت أقع على الأرض حين هممت بالجلوس إلى الطاولة، ولكنّ هذا الشعور تبخّر بعد زجاجتين اثنتين. وحلّ محلّه شعور آخر لم ينتبني من قبل بتاتا. كنت أشرب وأدخّن وأتحدّث بصوت عال. وكان حديثي في الغالب إلى نفسي. لا أدري إن كان الرفيقان ينصتان إليّ أم كانا منغمسين في حديث آخر، ونسيت كلّ من في المقهى، بل إنّي نسيت من أكون. ورفعت صوتي بالغناء ( لا من يجي لي، ويريّض دليلي، حمّة خليلي، رحل بالسلامة). وانتبه المثقفون وأشباه المثقفين وكفّ الجميع عن الحديث وظلوا يتابعون أغنيتي بصمت. تخيّلتهم في البدء معجبين ثم تخيلتهم مستائين ثم سمعت قهقهات مدوّية. هذه الأغنية لا تدعو إلى القهقهة لو كانوا يعلمون. كان من الأجدى أن يبكوا أو أن يتباكوا. لم أكفّ عن الغناء وزدت فغنّيت " سبعة مطارﭪ، في بير غارﭪ، حمّة مفارﭪ، زرﭬـة الوشامة" وإذا بالقاعة كلّها تهتزّ طربا. وكان ذلك دافعا لي على الرقص فوقفت أريد الرقص ولكنّ دوارا عنيفا عصف برأسي وغمرتني رغبة شديدة في القيء فتركت طاولتي. قال مضيّفي: أين تقصد يا فرندس؟ هممت بالرد على سؤاله ولكنّ الردّ كان مفاجئا. لقد غلبني القيء فسقيت وجهه ووجه زميلي بما قذفته معدتي. وانقلب الجوّ وإذا بالقاعة كلّها تثور. ثم سحبني صاحباي وأنا في أسوء حال وقاداني إلى دورة المياه فاغتسلت وعدت لأستأنف الجلسة. قال أحدهم: هيّا يا فرندس. هات ما عندك من الغناء، فأتيت على ما في ذاكرتي من الأغاني وكان ذلك مدعاة لانتدابي مطربا في مجالس فلورنسا.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى