عمار نعمه جابر - مسرحية محجر


  • محجر : غرفة سجن ضيقة جدا للحجز الانفرادي في دوائر الامن في العراق .


الشخصيات /

العجوز / رجل في الخامسة والسبعين ، يعاني من تضخم في البروستات .

الطبيب / في الثالثة والثلاثين من العمر ، اختصاص نسائية وتوليد .

الممرضة / فتاة جميلة ، في الثانية والعشرين من العمر .

رجل الامن / في الثامنة والعشرين من العمر .

الطفل / في عمر العاشرة ، مصاب بالسرطان .



( دورة مياه في مستشفى ، معتمة تماما ، تتوزع فيها ستة مراحيض غربية ، ترتفع عن الارض ، حيث نشاهد أرجل من يجلس في المراحيض . فوق كل مرحاض علق مصباح ، يكشف ما في المرحاض فقط . هناك مرحاض واحد فارغ يقع في المنتصف . نسمع صوت قطرات ماء متساقطة بشكل متواصل .

في الظلام ، تبدأ جميع الشخصيات بالتنحنح ، بصوت منخفض ، ثم ما يلبث أن يرتفع ليشكل في النهاية حالة هستيرية )

العجوز : ( يصرخ ) هس .. سكوت .. اريد أن أركز .. ( يصمت الجميع )

الطبيب : ( مع نفسه ) نعم ، أعرف .. بلا بدايات صحيحة ، لن تنمو الفكرة !

رجل الامن : ( مع نفسه ) افهموني يا ناس .. هدم القوانين ، فاجعة !

الطفل : ( مع نفسه ) أين أمي .. أريد أمي .. أنا أحتاج الى أمي ..

الممرضة : ( مع نفسها ) أنا لست عاهرة .. أنا ممرضة ، لست عاهرة !

( ترتفع الإضاءة في المراحيض شيئا فشيئا ، مع انخفاض صوت قطرات الماء المتساقطة )

الطبيب : هنا ، في هذا المكان ، ترتبك مفاهيم الطهارة ، تبدو كل الأشياء فيه متداخلة ومتشابكة ، تدفعك حتما لتكون نجسا ، فأنت في عالم ، سافل ، قذر ، ممتلئ حتى التخمة بالانحطاط . إنه يصيبك بالعدوى لا محالة ، مهما حاولت أن تنجو بروحك ، ستلوثك عفونة الآخرين ، أفكارهم المريضة ، دواخلهم المجرمة ، تصرفاتهم القبيحة والوسخة ( صوت خرير بول .. ثم ينقطع )

الممرضة : هنا ، في هذا المكان ، يصدمك من حولك ، تصعقك الصور التي رسموها عنك ، تتعرف على حجم الكارثة ، حيث تجد نفسك دائما ، في حالة دفاع عن النفس ، تدافع عن سمعتك من التلوث ، تبذل جهدا كبيرا كي تبقى بعيدا عن صورتهم التي رسموها عنك ، تبذل جهدا استثنائيا ، كي تخلص روحك من تبعات ما فيهم من نوايا وقبح ( صوت خرير بول .. ثم ينقطع )

رجل الامن : هنا ، تختلط أوراق الناس ، لا تعرف كيف تصنفهم ، فمن يبدو في الظاهر ملكا ، تجده من الداخل شيطانا أمرد . ومن يبيعك وزنه كلاما طاهرا ، تجده يطعنك في ظهرك ، بخنجر من كلمات مسموم . من يبدو أمينا جدا في الظاهر ، لا يترك ساعة في السر ، دون خيانة .. ما يحيرك ، وما يثقل عليك ، أنك مضطرب تماما ، فكيف تتعامل مع من في هذا العالم الشاذ ! ( صوت خرير بول .. ثم ينقطع )

العجوز : ( ينادي ) هس .. سكوت أريد أن أدفع بقوة .

الطفل : أريد أن أرى أمي ..

العجوز : أريد أن أبول .. لا أستطيع أن أبول ..

الطفل : لماذا لا تأتي أمي ؟

( يرتفع صوت قطرات الماء ، تطفأ الإضاءة عن كل المراحيض عدا المرحاض الفارغ )

الطبيب : أذكر أنني رأيت نفس المرأة تلد في هذا المستشفى ، عدة مرات ، ( تشتعل الإضاءة فوق مرحاض الطبيب ، مع انخفاض صوت قطرات الماء ) وأذكر أنني كنت في صالة العمليات عند ولادتها لثلاث مرات ، قبل هذه المرة . ( يفتح باب المرحاض ، نجد الطبيب يجلس على مقعد المرحاض ، وهو يدخن سيجار .. لحظة صمت ) لقد كانت دائما ، مواجهة يومية متكررة ، بين كونك طبيب ولادة ، وبين ارحام نساء كثيرة ، تفتحها عنوة بالمشرط ، تستخرج من فيها من أطفال صغار ، أطفال بعيون مغمضة ، وبنفس مقطوع ( يسحب نفسا عميقا من السيجار ، ثم ينفثه الى الأعلى ) تسحب هذه اللحمة الحمراء الطرية من بيت الخليقة ، ثم ترفعها من قدميها ( يمد يده الشمال الى الامام ، ويرفعها ) ثم تهزه بقدوه ( يهز يده ) تهزه أكثر من مرة ، ثم تبدأ بضربه على ظهرة ، كي يشهق شهقته الأولى ، ويصرخ باكيا . فتسجله الحياة حاضرا في سجل الولادات المدنية ، فردا ضمن المتواجدين هنا بيننا ( لحظة صمت ) ولكن ، ما حدث ، أن طفل المرأة هذه المرة ، لم يولد سويا مثل أخوته الذين سبقوه ، لقد كان وجهه مفزعا ، وهو بلا عينين ، ورأسه قبيحا بلا رقبة ، فزعت حين رأيته للوهلة الأولى ، ارتجفت يدي ، كاد أن يسقط الوليد منها ، لم أقابل مثله ، لقد خفت منه . خفت كثيرا ( يخاف ثم يغلق باب المرحاض )

رجل الامن : لا يمكن للإنسان ، أن يخترع شيئا ، أخطر من كاميرات المراقبة ( تشتعل الإضاءة فوق مرحاضه ) إنها تزاحم الله في حكم هذا العالم ( يفتح باب مرحاضه ، فيظهر رجل الامن مقرفصا على مقعد المرحاض ) ما كان يملكه الله من حكمة مراقبة مخلوقاته ، وتسجيل كل شيء عنهم ، شاركته كاميرات المراقبة في ذلك . كثيرا منا قد لا يهتم لعين الله أبدا ، وهي تواصل مراقبته بصمت ، ولكنه يبات مرعوبا حين يشاهد عيون الكاميرات المبحلقة فيه ، طوال الوقت ، والتي تسجل كل حركاته وتصرفاته ، في الشارع والعمل ، وفي كل الأبنية والساحات ( لحظة صمت ) كل الذين تحدثوا عن عين الله ، تحدثوا في المقابل عن الغفران ومحو الذنوب والاخطاء ، حتى دفعونا دون أن يلتفتوا ، الى أن نخطأ كثيرا أمام عين الله ، لليقين أنه سيغفر لنا ، فهو في النتيجة عفو غفور . ولكن ، ليس لعيون كاميرات المراقبة ، شريكة الرب ، قلب يغفر أو يمحو السيئات ، إنها صماء كالحجر ، لا تغادر صغيرة ولا كبيرة إلا صورتها بأدق التفاصيل ، لن ينجو من كارثة كاميرات المراقبة أحد ( يغلق باب مرحاضه )

الطفل : حين جاءت بي الى هنا ، قالت أنها ستعود غدا ، ستعود غدا من أجلي ، ( تشتعل الإضاءة فوق مرحاضه ) وكلما جاء الغد ، قلت غدا ستأتي ، فلكل غد هناك غد آخر ( يفتح باب مرحاضه ، فيظهر الطفل بلا شعر تماما ، وبكمامة على أنفه وفمه ) وأنا منذ زمن بعيد أنتظر أن يأتي الغد ، وتأتي أمي ، لا الغد يريد أن يجيء ، ولا أمي ترضى أن تلقاني ( يغلق باب المرحاض )

الممرضة : حين عملت هنا ، عرفت أن العهر وظيفة تمارسها ، حين تحكم على الآخرين بلا مقدمات ( تشتعل الإضاءة على مرحاضها ) تصنف الناس كيفما يحلو لك ، فتمنح من تريد الشرف ، وتسلبه من الآخر . حين عملت هنا ، عرفت أن الممرضة متهمة منذ الوهلة الأولى ( تفتح باب المرحاض ، فتظهر الممرضة وقد ربعت في جلستها على مقعد المرحاض ) يقومون بكل شيء على قاعدة أنها عاهرة ، يراودونها ، يحاولون معها ، يلقون عليها التلميحات والاتهامات ، والقصص الفاحشة . الجميع يرغب في أن يغويها ويحصل على حصته منها ، يقومون بكل شيء عدا أن يفكروا للحظة واحدة ، أنها قد تكون عفيفة ، لا تتلازم في اذهانهم حقيقة العفاف مع مهنة الممرضة ( لحظة ) آه ، لقد تعبت كثيرا لطول ما حاولت أن أنقذ شرفي من عهرهم ، فلا شرف عندهم ، لا شرف لمن يضعون قواعد الشرف على هواهم ( تغلق باب مرحاضها )

العجوز : ( يصرخ ) سكوت ، أريد أن أبول يا عالم .

الطبيب : ما تعرفه عن ترتيب موازين الاحداث مرير ، فالعالم شريط طويل من أحداث شتى ، يخنقك أن تعرف أنه رتب بشكل مقصود ، وأنه ليس هناك ما يحدث جزافا ، بل كل هذه الأشخاص والأيام والأماكن صنعت لغاية ، ورتبت من أجل أن تشير الى سر لم ندركه بعد ( تنطفأ الإضاءة فوق مرحاض الطبيب )

العجوز : لا أحتمل كل هذا الألم ، مثانتي سوف تنفجر ، أريد أن أبول .

الطفل : لماذا لا يريد أحد أن يخبرني ، متى أرى أمي ، لقد اشتقت لها كثيرا ( تنطفأ الإضاءة على مرحاضه )

رجل الامن : كل كاميرات المراقبة تنظر لنا بصمت ، لا تثير أية جلبة ، تماما مثل الهدوء الذي قد يسبق العاصفة ، عينها الشريرة تحدق بالشرفاء وباللصوص ، وبالمسؤولين الكبار وبعمال النظافة البسطاء ، بالرجال والنساء ، عينها تريد أن تصطاد كل ما يبدر عنهم . تصنع من نفسها ميزانا للمساواة ، وللحساب ، المساواة كونها لا تستثني أحدا ، والحساب كونها تمثل سلطة القانون . وكأنها تدرك حجم هذا الاكتشاف ، وخطورة التحديق طويلا بأدق تفاصيل الناس ! ( تنطفأ الإضاءة على مرحاض رجل الامن )

الممرضة : جسدي لم يخلق من أجل الشهوة ، روحي ليست روح جارية ، أنا لست معروضة للبيع . أنا أنثى ، والانثى فراشة ، أجمل ما فيها جناحيها ، وأقذر ما يحدث أن تلمسهما ، بنواياك القذرة ( تنطفأ الإضاءة على مرحاض الممرضة )

العجوز : أريد أن أبول يا عالم .. أريد أن أبول ( تنطفئ الإضاءة على مرحاضه )

( الإضاءة على المرحاض الفارغة مشتعلة ، يرتفع صوت قطرات الماء بشكل تدريجي ، ثم تخفت الإضاءة عليها ، حيث الصمت والظلام يخيمان على المكان )

رجل الامن : ( يتحدث مع نفسه ) إذا تحدثت عن كل ما أرى في كاميرات المراقبة ، حتما سأقتل ! ( تشتعل الإضاءة على مرحاضه ، فيظهر واقفا في المرحاض ، قدماه تظهران من اسفل الباب ، ورأسه من أعلى الباب ) لن يتركني أحد أقول الحقيقة ، لا أقدر أن ألخص خفايا ما يفعلون من جرائم وفضائح بجملة واحدة ، ما يخفون خلف الجدران ، فضيع ومقزز . هذا العالم أقبح ما فيه ، وجه مخفي خلف الجدران ، تحركه نوازع حقائق وجوهر هذه الناس ، وخفايا دواخلهم المرعبة . الكل أمام كاميرات المراقبة شخص آخر ، شخص يختلف تماما عما يبدو أمام الآخرين . فهو خلف الجدران ، يتصرف دون قيود ، دون خوف ، دون حدود . يسقط سقوطا حرا في عالمه الخاص ، لا تحده السماوات ولا الأرض . يبدو عاريا تماما ، كيوم ولدته أمه . يأخذ ما يريد ، ويكتب ما يشاء ، ويتحرك كما يرغب ، ويفعل أشياء لا تشبهه في الظاهر .

الطفل : كل ليلة أرى أمي في المنام ( تشتعل الإضاءة على مرحاضه ، فيظهر واقفا في المرحاض ، قدماه تظهران من اسفل الباب ، ورأسه من أعلى الباب ) أمد يدي لأحتضنها ، أحاول أن أذكر دفئ حجرها ، طعم زفير نَفَسَها ، شيئا صغيرا من التصاق جسدي بجسدها . وفي كل ليلة ، يداي لا تصلان اليها ، تبدو لي بعيدة جدا ( صمت ) البارحة حاولت أن أقول لها شيئا ، حاولت أن أتكلم معها ، أسمع صوتها الذي فارقته منذ زمن طويل . فكرت أن اخبرها أنني أريدها أن تأتي ، وبأنها تأخرت ، لكنني ترددت . حاولت أن أخبرها عن حجم شوقي لها ، وأن تقترب مني أكثر ، لكنني ترددت . ثم حاولت بعدها أن أجمع كل قواي ، وكل ما في المنامات من عزم ، لأصرخ بأعلى صوتي ، أنني أحبك يا أمي ، على أمل أن حبي هذا ، هو الوحيد الذي قد يأتي بها .

العجوز : لقد وهبت صغاري كل شيء ، ولكنهم لم يمنحوني أي شيء ( تشتعل الإضاءة على مرحاضه ، فيظهر واقفا في المرحاض ، قدماه تظهران من اسفل الباب ، ورأسه من أعلى الباب ) كل شيء كان من اجلهم ، واصلت العمل ليلا ونهارا من أجل رفاهيتهم ، من أجل أن يكونوا بمستوى يؤهلهم لمواجهة الحياة ، أمّنت لهم مستقبلهم ، جعلتهم يتمتعون بكل لحظات حياتهم ، ولكنهم حين كبرت ، وأصبحت عاجزا ، هجروني ، تركوني هنا في هذا المنفى ، أواجه مصيري لوحدي ، مثل أي كلب أجرب ، ما عاد يلزمهم ( صمت ) الحب هو أن تعترف لمن تحب ، بحجم حبه في قلبك ، وأفضل طرق الاعتراف بالحب ، هي تلك التضحيات التي تصنعها من أجل من تحب ، إلا يكفي أن تضحي بسنين العمر ، لكي تخبر أولادك بحجم هذا الحب ، فكل سنين التعب والشقاء والالم كانت من أجلهم وفي سبيلهم . أنا لا أريد منهم مقابلا ، أريد فقط أن أراهم بعيني قبل الرحيل ، يكفيني أن أطمأن عليهم أنهم بخير .. أحشائي تتمزق من الداخل ، أريد أن أبول يا عالم ، أريد أن أبول ..

الطبيب : ( يسحب سيفون المرحاض بقوة ثم يقف خلف باب المرحاض ) زرعك لم تعرف كيف تجعله ينبت ، تركته في أرض بور ، ولشدة خوفك عليه ، لم تترك سياط الشمس تتلوى على جسده ، زرعك الذي لم تعلمه أن يحب يد الفلاح التي ترعاه ، لا تنتظر أن يطرح سوى الحنظل . مرير أن تنفق عمرك بين من لا يعرفون شكل المحبة . ليس سويا أن لا تبني أحبابك فوق صراط الحب ، هذا العالم صار جحيما ، لكثرة ما يولد فيه من أطفال بلا حب ، أطفال لا تنزل بيضتهم في رحم مليء بالحب ، ولا تنمو وتخصب بين القبل والاحضان الدافئة . حتما سيولد الأطفال مشوهين ، في حضن الكره والحقد والضغينة سيولدون بلا عيون وبلا رقبة ، فالرذائل لا تنجب غير البغي والأرواح المبتورة ، أخاف أن تأكلنا قصص الهجر والعقوق والغدر . ( تنطفأ الإضاءة على مراحيض الشخصيات )

( صمت ، ثم يبدأ صوت قطرات الماء بالارتفاع ، المرحاض الفارغ ينطفأ مصباحه ، ثم يفتح بابه بهدوء ، تسمع من داخله صوت فحيح ، ثم صرير قلم يكتب ، ثم صمت ، ثم يغلق بابه )

الممرضة : ( تفتح باب مرحاضها ، ثم تحدق يمينا وشمالا ) قبيح شكل هذا المكان ، تتردد فيه مقطوعات لأرواح آثمة ، أرواح تؤمن بأن هذا العالم خلق من أجل الرذيلة ، وعليها أن تستفيد من هذه الرذيلة الى أقصى حد ، فتمتع جسدها باللذة مع كل من حولها ، وتنفق من أموال ليس ملكها ، وتشغل أمكنة ليست على مقاساتها . عهرهم أنهم يخلقون من هذا المكان وهذا الزمان محجر للسجن الانفرادي ، يدفعون بنا كي نتقوقع حول ذواتنا ، ننطوي وننطوي حتى نختفي عن هذا العالم القبيح ، والذي يحكمونه بقناعاتهم ، فنصبح سجناء في دواخلنا ، لا نعرف كيف نخرج من هذا السجن الانفرادي ، لا نعرف كيف نمد ارواحنا تجاه الآخرين ، لقد أصبح الاخرون هم جحيمنا الذي نفر منه ( تغلق باب مرحاضها )

رجل الامن : ( يفتح باب مرحاضه ، خائف وهو يتلفت ) الضعف ثوب نرتديه ويرتدينا ، نرى امام اعيننا شمس الحقائق ، حتى تحرق بؤبؤنا ، ولكننا لا ننطق بمذاق هذا النور ، كبلت السنتنا بحديد الشك والذل ، لا نقدر أن نحكي ، لا نقدر أن نفعل ما هو مطلوب منا . من واجبنا ان نقول ما نعرف ، بل ونصرخ به ، من أجل أن يستقيم هذا العالم . ليس صحيح أن نبقى هكذا بلا موقف ، سينهار بناء الحياة اذا لم نقف في وجه الخطيئة . كل يوم اراهم ينتهكون حرمة حياة الناس ، بالسرقة والنهب والتزوير والمحسوبيات والرشى ، يتحركون أمامي في شاشات المراقبة ، يقومون بأفعالهم المخجلة ، كاميرات المراقبة المغلقة بأرقام سرية ، تسجل في داخل ذاكرتها ما يحدث كل ثانية ، تشهد بالصوت والصورة عليهم ، تحاول أن تدفعنا لقول الحقيقة . ولكن نحن خاوون كما بيت العنكبوت أمام الريح ، لا نستطيع أن نواجه عاصفة جبروتهم ، كبرهم ، سلطتهم . الكاميرات لا تعرف معنى أن يتم تصفيتك في طريقك الى البيت ، سيتخلصون مني ، اذا عرفوا أنني أنا الذي تكلمت ! ( يغلق الباب)

الطبيب : ( يفتح باب مرحاضه ، يقف وهو يضع احدى قدميه على المقعد ) لكل ما نفعل من أفعال في هذه الحياة ، هناك ردة فعل ، تساويها في القوة ، وتعاكسها في الاتجاه . يجب أن يكون يقيننا ، أننا نلاقي نتائج لمقدمات اقترفناها بأنفسنا ، ما يجري حولنا هو نتائج ، وليس مقدمات . ما ينبغي أن نعرفه أننا رغم ما فينا من خلل ، ولكن هذه الحياة فيها انصاف كبير ، فأنت ، لن تأكل اليوم ، سوى ما كنت قد زرعت بالأمس ، ولن تلبس في البرد القارص ، سوى ما حاكت يديك من صوف دافئ . أنت لن نخرج عن قاعدة الحياة ، هكذا تمشي الدنيا من حولنا ( يغلق الباب )

الطفل : ( يفتح الباب ، ثم يقف بصعوبة ) لم أفعل ما قد يغضبك يا أمي ، كنت ولدا مطيعا جدا ، أشرب الحليب ، وأنام باكرا ، وأكتب درسي الجديد . لماذا لا تريدين أن تأخذيني معك ، لم أفعل ما يزعجك ، أنا أحبك يا أمي ، وأتمنى أن أعيش بين يديك ، قد أكون مريضا ، أو بلا شعر ، أو قد تكون مناعتي ضعيفة ، بسبب جلسات العلاج الكيمياوي ، ولكن كل ذلك حدث خارج ارادتي ، حدثت كل هذه الأشياء رغما عني ، لماذا تجعلينني أدفع ثمن شيئا لم أكن سببا فيه ! ( يعود ليجلس على المقعد ، ثم يغلق الباب )

( تطفأ كل الإضاءة على مراحيض الشخصيات عدا المرحاض الفارغ ، نسمع صوت خرير بول طويل من داخل المرحاض الفارغ ، مع صوت تنحنح أجش وضخم )

العجوز : كل هذه المليارات من الناس في العالم تبول ، وتبول ، وتبول مئات الآلاف من المرات ، أما أنا فلا أستطيع ذلك ! أريد أن أبول يا عالم ..

الممرضة : ( تشتعل الإضاءة على مرحاضها ) أسير وحدي بجسدي المهدد بالالتهام ، ( تفتح باب المرحاض ) لهم مخالب لا تقبلني بينهم بعفتي ، وأنياب ترغب في تمزيق شرفي ( تصفف شعرها ) أتلفت يمينا وشمالا ، خوفا على روحي التي تنفث عليها أنفاسهم النتنة . أخاف أن تجرجرني أيديهم ، وأسقط في الهاوية ، كما قد حدث لغيري ( تخرج مرآة من حقيبتها ، وتنظر الى وجهها ) أخاف أن أصبح ضمن قطيعهم الفاجر ، ويلوكني فك موجات العهر ، التي تحكم هذا العالم ( تحاول مسح ملامحها بمنديل ورقي )

الطبيب : ( تشتعل الإضاءة على مرحاضه ) موت الأطفال وتشوههم ، علامة تشير الى النهاية ( يفتح باب مرحاضه ) فالنهايات تأتي حين تتوقف البدايات عن الولادة ، وتتلاشى خطى الملائكة من حولنا ، حين تغيب ضحكاتهم البريئة . فحين يولد الأطفال بلا عيون ، نعرف أننا نخيط أكفان الآتي ، فعيونهم تمنحنا بريق التواصل ، وحمى الحركة ، ومعزوفة لإيقاع العمر . حين يكونون بلا رقبة ، كأنهم يحتجون على أن نذبح بدم بارد ، فوق مائدة الاختلاف والتباين ، رفضهم للمجيء ، يعني أنه قد حان التلاشي ( يسحب سيفون المقعد )

العجوز : ( تشتعل الإضاءة على مرحاضه ) أكثر ما يؤلمك ، أنك في نهاية العمر ( يفتح باب المرحاض ) وتكتشف أنك على خطأ ، أن كل الذي كنت صنعته ، ذهب مع الريح ، وأن كل الطيور التي أطعمتها ، نبتت عليها ريش الهجر والجحود . بطنك مليئة بالبول والفضلات ، وروحك على شفير القبر ، وكل السنين الخمسة والسبعين كانت من أجل لا شيء . وماذا قد يحدث بعد الخامسة والسبعين ، لن يحدث شيء ذا قيمة . صار لزاما أن أترك مكاني لغيري ، قد يحتاج شخصا آخر الى هذا المرحاض أكثر مني ، فقد يكون قادرا على أن يبول كثيرا ، لكي يواصل الحياة . أما أنا ، فلقد بقيت هنا طويلا ، طويلا جدا ، أكثر من المعتاد ، ولم أعرف كيف أبول ، الأفضل أن أغادر ، وأخذ فضلاتي معي ، فضلاتي التي اقترفتها بنفسي ، أحملها معي الى هناك ، الى القبر .. ( يقوم العجوز من مكانه ، يخرج من المرحاض ، ثم يغيب في الظلام ، تبقى مرحاضه مفتوحة الباب )

الممرضة : لا أريد أن أصبح عاهرة .. هل سمعتم ..!

رجل الامن : لا أستطيع أن أتكلم بما يجري أمامي في شاشات المراقبة .

الطبيب : لن يكفي أن تكون موجودا ، بل ينبغي أن تعرف ، كل ما هو مطلوب منك .

الطفل : ( تشتعل الإضاءة على مرحاضه ) شهور طويلة وأنا أنتظر لقاءك يا أمي ، يوما بعد يوم ، ولكنك لا تريدين أن تسمعي توسلاتي ، ولا تريدين أن تحضري ساعاتي الأخيرة ، وأن تقفي ككل الأمهات عند سرير موتي ، تغسلي حزن الرحيل بدموع الحب . ولكن ما عدت استطيع الانتظار ، لقد حانت النهاية . ربما تكونين قد تزوجت من رجل آخر ، وانجبت أطفالا غيري ، أطفال بلا سرطان ، ربما نسيت أن لك في هذا المكان طفلا ينتظر . .. أنا يا أمي أكلني المرض ، والانتظار ، والحزن . ونفدت قدرتي على الاحتمال ، يجب أن أغادر هذا المكان ، يجب أن أنهي هذه المهزلة ، حياتي بلا أم لا قيمة لها ، سأذهب الى العالم الآخر ، ربما هو بلا قسوة وبلا مرض ( يقوم من مقعده ، يخرج خارج مرحاضه ، يحدق حوله ، ثم يذهب ليغيب في الظلام ، تبقى مرحاضه مفتوحة الباب )

( السكون يخيم على المكان للحظات ، صوت قطرات الماء رتيب )

الطبيب : صمت مريب يلف المكان .

الممرضة : الوحشة تتسع .

رجل الامن : الخوف ، يجعل الحياة كما الصقيع .

الممرضة : ( تشتعل الإضاءة على مرحاضها ) ما يمكن أن يكون مصدرا لفرحك ، يجعله من حولك مصدرا لكل هذه الوحشة ( تفتح باب المرحاض ، فنشاهدها واقفة في الداخل ) تخذلك محاولات التأقلم مع الآخرين ، روحك لا تحتمل أن تتحول الى كائن يشبههم ، لذا يدفعون بك الى المضي بعيدا في الوحدة . تتوالى صور التوحش من حولك ، تصبغ الاحداث والأماكن بلون قاتم وحزين ، وانت تبدو عاجزا عن إصلاح ما يدور حولك ، فهل بإمكانك أن تغير مفاهيم الناس عنك ، وهل بإمكانك أن تمارس عليهم سلطة ذاتية ، تكون أقوى من تلك السلطات المعقدة التي صنعتهم على هذه الشاكلة ، لا ادري ، لا ادري ( تغلق الباب )

الطبيب : ( تشتعل الإضاءة على مرحاضه ) اذا ما بقينا في محاجرنا نندب ، من تراه سيحرك بوصلة الأيام باتجاه آخر ( يفتح باب المرحاض ، فيبدو واقفا يخطب ) الكل سيهلك اذا غرقت السفينة ، نعم هم كانوا السبب في هذا الطوفان ، ولكن ستبتل أوراق الحكمة من مطر رذيلتهم ، وتذوب ، الحكمة ستذوب وتتلاشى ، اذا لم يحملها رأس يملك أفواه لا تسكت ( يغلق الباب )

رجل الامن : ( تشتعل الإضاءة على مرحاضه ) الخوف سلاح يفتك بهذا العالم ( يفتح باب المرحاض ، فيبدو ملتحفا بملابسه ، وهو يرتجف ) الخوف سلاح يستخدمه الكثير لترهيب الكلمة ! وتعتيم صورتها في عيوننا . الخوف أفعى تلتهم كل المواقف والقرارات مع اصحابها ، لتصبح مع مرور الوقت ، تنينا ضخما ، يلتهم كل مفاصل الحياة ( يغلق الباب )

( تشتعل اضاءة المرحاض الفارغ ، ويفتح بابه ، نسمع صوت نفس قوي ومتسارع ، أحدهم يلهث ، صوت قطرات الماء تبدو أسرع ، ثم يبدأ صوت القطرات بالارتفاع شيئا فشيئا )

الممرضة : ( تنادي ) لا يوجد ما يربطني مع العهر ، أنا عفيفة رغم عالمكم العاهر ..

الطبيب : بلا بدايات صحيحة ، لن تنمو فكرة أن تصحوا ..

رجل الامن : إذا تكلمت سأموت ، ولكن إذا سكت سنموت ..

( صوت طرقات على الباب ، مع صوت خرير بول متواصل )



ستار



سامسون – تركيا

16/1/2019

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى