أحمد عبدالله إسماعيل - قُبلة المترو

وثبت إلى داخل المترو قبل أن يُغلق، مسحت المكان بعيني فلم أجد إلا موضع قدمي؛ كعادته يكتظ في ساعة الذروة؛ ومع ذلك أسعدني قيام أحد الشباب ليُفسح المجلس لامرأة عجوز، دهشت لرؤية رجل يحتضن امرأة تحمل طفلًا صغيرًا، ويقبل رأسها خلسة مرة تلو الأخرى ظنًا منه أنه بعيد عن أعين الركاب.
وضع الرجل فمه على رأسها غير مرة، وهو يحيطها وولدها بيديه، أطلت النظر؛ للتيقن مما يفعله هذا الشاب طويل القامة، قوي البنية، كثيف اللحية، عريض الكتفين، أفطس الأنف، وقد اختفت تمامًا في حضنه بينما يظهر للعين الطفل الذي تحمله.
تملكتني الحيرة حينما عاود تقبيل هذه المرأة المنتقبة نحيلة الجسد، أخذت أتساءل :
"من تكون بالنسبة له؟ ولماذا يقبلها أمام العامة ؟ وهل هذا الطفل ولدهما؟ هل يهتم أي راكب غيري بمعرفة ما يدور؟
توقف القطار فجأة، انفتح الباب، رفعت رأسها تقرأ اسم المحطة؛ فظهرت عينها الدامعة، تعجبت من بكائها رغم حنان هذا الرجل الذي لم يتوقف عن مداعبة جبهتها بشفتيه، وإحاطتها بين يديه!
لمحتُ فجأة أحد الركاب بالقرب منهما على وشك أن يترك مكانه فناديت :
تفضلي، انتهت المعاناة.
بصوت هامس خرج بصعوبة قال الرجل :
انتهت المعاناة ؟! نحمده على كل حال .
غلبني الفضول وتملكتني الرغبة في الاقتراب منهما؛ لعلي أفهم تفسير هذا الحلم.
اقتربت منه وبهدوء حاولت طمأنته:
كل شيء ينتهي، لا فرحة تدوم ولا ألم يستمر.
نظر إليَّ بعين يائسة، وبهمس شديد قال :
تبدلت حياتها في لحظة، تحول الاستقرار إلى ضياع، والحلم إلى كابوس!
أحاط بي حب الاستطلاع، وسألته:
هل يدوم الحال لأحد ؟!
أجاب بصوت خافت مهتز :
عاشت شقيقتي الكبرى أسعد أيام حياتها قبل أن تنقلب رأسًا على عقب: بينما كانت تنهي إجراءات السفر لترافق زوجها المغترب، حدث ما لم يكن في الحسبان، ظلت تنظر يومها إلى وليدها حتى الصباح تحاول السيطرة على عينيها دون جدوى، وبصوت متهدج قالت :
إلى من أتركك ؟!
لم تستطع أن تحتضنه لكنه ألقى بيديه على كتفيها يسأل :
لماذا تأخرتِ ؟! افتقدتك كثيرًا، لا تتأخري ثانيةً.
نظرت إليه، حبست دموعها، ثم ضمته مرة ثانية وبصوت يغلبه النحيب قالت :
لن يمنعني إلا الموت، أعدك ألا أتأخر مجددًا.
منذ تلك اللحظة وهي تعاني، لكن الآلام التي تنتابها كلما نظرت إلى الصبيّ كانت ترهق روحها أكثر!
وجدت الدموع طريقها ممهدًا على قسمات وجهي، أشعر بالندم، تذكرت اللقطة من جديد، القبلة التي صفعتني، وأيقظتني من سبات عميق دام طويلًا، أنا الذي اعتدت التذمر والشكوى، أرى هذا الشاب يلطمني على وجهي بسؤالٍ لم ينطقه:
متى قبلت رأس شقيقتك آخر مرة ؟! هل تنتظر أن تصاب بمكروه حتى تهتم بوصلها؟! متى قبَّلت أولادك واحتضنتهم متوقفًا عن الشكوى من تصرفاتهم أو طباعهم ؟!
دفعتني تلك القبلة لفعل كثير من الأشياء، وبمجرد عودتي، احتضنت ولدي الصغير المزعج، وأدركت -لأول مرة- أنني اعتدت الصراخ في وجهه كلما طلب قضاء بعض الوقت معًا، تبسمت في وجه زوجتي، مطَّت شفتيها في عجب!
تناولنا في هدوء، على غير العادة، طعام الغداء، ولقطة المترو تطارد مخيلتي، تدور أمامي كمشهد سينمائي يتكرر تلقائيًا دون توقف؛ فتنساب الدموع على وجنتيَّ؛ فجلست أدعو لتلك المرأة، ثم أخذت أداعب أذن زوجتي بعبارات لم تألفها لمدة طويلة، بعدها ذهبت ألاعب أولادي؛ فغمرتهم الفرحة.
على الرغم من شعوري بالامتنان لتلك المصادفة؛ إذ أيقنت أني كنت في حاجة ماسة لرؤية قُبلة المترو تُربّت على قلب هذه المسكينة، فقد رجعتُ مخلوع الفؤاد بعدما اكتشفتْ بالصدفة مرضها الميئوس منه؛ فجعلها تعيش في ظلام لا صباح بعده، وزاد الطين بلة حين علمتْ برغبة زوجها في مسحها من الوجود بالاقتران بأخرى!

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى