محمد السيد‮ ‬ياسين الهاشمي - عرس في نهر.. قصة قصيرة

صدى الذكريات أيقظ في نفسي ما حدث للشاب ( محمود ) ولا أدري لماذا ابتسم عندما أتذكر المشهد في ذلك اليوم الصيفي الحار . ومحمود شاب في الخامسة والعشرين من العمر . يسكن في قرية غافية على ضفاف نهر صغير . أسمر اللون . طويل القامة . قوي الجسم . متدين يقرأ القرآن والأدعية الرمضانية . يحفظ من التراث الشيء الكثير .يحكي لنا قصصا جميلة في سهرات رمضان يسكن في كوخ بسيط مستكين مبتنى من القصب بئس البناء . هو وأخته ( وسيلة ) وكان ذا سريرة طاهرة وقلب نقي . طيبا متواضعا جدا .

نهض ( محمود ) – كعادته – مبكرا ليذهب الى سوق الناحية التي تبعد بضع كيلو مترات . حمل زنبيله متجها صوب المدينة . أسرعت اليه نسوة القرية يكلفنه بالتبضع لهن بعض الحاجيات المنزلية والمعاشية وأشياء أخرى . تبضع وأنجز مهمته وعاد وقت الظهر . وكان اليوم حارا من أيام تموز . الا أنه سلك طريقا تمتد فيه الحقول الممتدة بنسق جميل . المزروعة بالذرة التي تنتصب طويلة خضراء مستقيمة . عنيفة في أنطلاقها . فكان يستظل بفيئها . ويتمتع بخضرتها . وهذا ما خفف من شدة الحر .

وفيما هو يواصل سيره . استسلم لحلم ذاق فيه سعادة وغبطة . وحلق في آفاق بعيدة من أحلام المنى . وخفق قلبه خفقة فرح سماوي . جاوز فيه عالم الزمان والمكان . ثم أدركته يقظة منكرة اغتصبته من عالمه الحنون السعيد على نحو بالغ في القسوة والفشل .. كيف كان ذلك ؟

تخيل أن صوتا خفيا يناديه :

– محمود لماذا تبقى في الظلام ؟

– حقا أنني أعيش حياة قاسية تعيسة . وحيدا بلا زوجة . سأذهب غدا الى أعمامي ليخطبوا لي أبنة خالي ( جميلة ) في ناحية (السلام ) . إنها الفتاة القروية التي قررت الزواج منها .. والتي رأيتها حين جاءت مع أمها لتقديم التعازي بمناسبة وفاة والدتي قبل سنة… وفي لحظة شعرت أنني أعيش مع عينيها العسليتين . أنها فتاة سمراء . دقيقة القد . ممتلئة فارعة الطول . بادية الأنوثة . شعرها ناعم كالحرير . وكأنه قطعة واحدة تفرقه من الوسط ثم تسحبه في عقده الى الخلف . لا تصبغ خديها ( ففي البداوة حسن غير مجلوب ) . ثم خاطب نفسه :

– بقيت مضطربا عهدا طويلا يائسا بين الرغبة في الحب . والخوف من المرأة . فكانت تلك النظرة الحلوة أول نسمة تهب علي من دنيا الوجدان فترتوي بها نفسي الظمآنة ويندى بها قلبي الجاف . كانت حياتي خالية من الحب مثل كهف رطب لا تزوره الشمس .. مضيت على غير هدى تاركا محرك خيالي للخواطر السعيدة . والأحلام اللذيذة . والأوهام المخدرة . حتى أعياني التعب – ثم تابع قوله .

– لقد صبرت كثيرا .. وعلمتني الحياة فضيلة الصبر . وتعبت من أجل إسعاد عائلتي .. أعمل وأسعى لتعيش أختي حياة هنيئة . ومض بارق أمل جديد في أفقي وانتعشت نفسي برجاء لا عهد لي به .. وقررت البوح الى أعمامي وتكليفهم بالتوجه لخطبة الفتاة .

مضى ذلك اليوم من حياتي .. وكان يوما أو بضع يوم .. إستسلمت للأحلام .. حتى ظننت أن أشهى الأماني دانية لا يكلفني كثيرا غير التحرك لدعوة أعمامي بغية السفر لخطبة الفتاة حتى أقطفها في يسر واطمئنان .

تم لي ذلك . وجرت مراسيم العرس باحتشاد الأهل والأصدقاء . وأزفت ساعة الزفة . فنسيت كل همي ..وأنا أتصور عروسي في ثوب الزفاف الجميل لا تبرح ذهني .

اتجهت الى الكوخ محاطا بأصدقائي . يرددون الأغاني . ويطلقون الزغاريد . ويصفقون . فلما انحنيت للدخول الى البيت .. وكان بابه واطئا – عندها وجدت نفسي أسبح في نهر (نايف ) البالغ من العمق أكثر من مترين .. فاستيقظت من حلمي وأنا أزاول السباحة في النهر .

– أين زنبيلي ؟

– أين أشيائي التي اشتريتها لي وللآخرين ؟

– وا حسرتاه : جرفتها مياه النهر السريــــعة .

– ماذا أقول لأهلي وللنسوة جيراننا ؟

خرجت منهكا . مبتلا . خجلا , محبطا .. أندب حظي العاثر : ثم ردد مع نفسه :

– لا أعرف ماذا أفعل ؟

– هل كان ذلك كله حلما في الخيال ؟

ومن بعيد لاح لي معلم مدرسة القرية , الأستاذ ( ابراهيم ) يمتطي حصانه عائدا بعد انتهاء الدوام . وعندما اقترب مني دهش :

– ماذا حصل لك يا محمود ؟

– رويت له القصة كاملة .. ضحك , وقال :

– ينبغي على الأنسان أن يكون واقعيا .. مما يجعله صادقا مع نفسه والمجتمع .أما الخيال واحلام اليقظة فكالسراب تبصره العيون ولكنه بعيد لا يروي الظمأ .

– أو ما علمت يا محمود أن ألأماني لا تنال بالتمني وما كل ما يتمنى المرء يدركه ..

– استيقظ يا محمود واعتمد على واقعك ..

– اشكرك يا أستاذ .

– وأردف المعلم قائلا : يالها من صدفة طريفة, فاليوم كان موضوع الدرس في القراءة العربية للصف الخامس هو قصة خيالية عنوانها ( الراعي والجرة ) فبطلها مثلك – إلا أنه شيخ كبير – سرح في عالم الخيال فكسر جرته المملوءة سمنا فسال على لحيته وملابسه , فلم يحصد من خياله إلا الوهم .

– إسأل أحمد .. تلميذ من أقاربك ليقصها عليك فتتعظ .

– هل أوصلك الى بيتك ؟

– شكرا , المسافة قريبة ..

رجعت أدراجي أصيد في المنى حلما نمت بأفقه متوهما ..

استغرب الجميع الذهول المبهم الذي انتابني .

اجتمعنا حوله , فسرد لنا قصته .. وحلم الرمال الهاجعات على الظمأ .. ولكنه بقي ظمآنا ..وكان السراب أطياف حلمه اللذيذ .

– ضحك أحمد .. لقد قرأناه اليوم – ياعم –

– ماذا قرأت ؟

– هل تعرف صاحب الجرة ؟

– أجابه محمود باستغراب :

– كلا : لم أعرفه .

فرواها له .. وأضاف أحمد :

– وماذا تقول أخيرا يا عم ؟

– أقول وأني على يقين بأن التمني رأس مال المفلسين .



* عن الزمان

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى