د. وفاء الحكيم - حَافَّــةٌ...

أخذني ومضى بي إلى هناكَ بخطاهُ المتوثبة ونبضاتِ قلبِه الوَجِلَةِ يتلفِتُ بارتباكٍ ويُسارعُ الخَطوَ كَي لا يرانا أحدٌ يمنِّي نفسَه بلحظةٍ يسرقُها من عمر الزَّمنِ نصبحُ فيها عرايا ونتَّحدُ بالكون كانتْ الشَّمسُ على استحياءٍ تدق بابَ الأفق ، والهواءُ ينسابُ هادئاً مسالماً لا يعكِّر صفوَه أحدٌ يتحسسني كلَّ مسافةٍ ليتأكدَ أنَّني معَهُ لم أبرحْ مكانَ الاختباءِ ويمعنُ في تخيُّل هروبِنا بعيداً عن أعين الرُّقَباءِ فتظللُ وجهَهُ ابتسامة ٌ حالمةٌ
عندما وصل إلى حافة البحر تنهَّدَ بارتياحٍ وظلَّ يتأملُ المكانَ حولَه ويتخيَّرُ لنفسه مكاناً يثبِّتُ قدمَيه فيه كانتْ قدماه ثابتتَيْنِ عند النقطةِ التي اختاراها بعدما أمعنَ في التفكيرِ كثيراً واستراحَ لاختيارِهِ.
وأصبحَ واقفاً عند نقطةِ الالتقاءِ حيثُ الأزرقُ الشَّفِيفُ يأتي ليسكبَ زُرْقَتَه على تلك الحصى والقواقعِ وأخضرِ الطَّحَالِبِ المتمازج ببعضِ مياهٍ ساكنةٍ على الأرض.
عندما تيقَّنَ أنَّهُ عند نقطةِ الالتقاءِ تماماً ابتسم لنفسِهِ فَرِحَاً تيَّاهاً وتيقَّنَ أنَّهُ سيخوضُ معركَتَهُ منتصراً بلا أدنى شكٍّ..
كلُّ الأشياءِ : المدى والحصى، استكانتي ونزقَه ، تمردَه وصمتِي ، ابتسامتَه واستفهاماتي ، نظرةَ عينَيْهِ وجسدي...قد انسجمتْ جميعاً في لحظةٍ واحدةٍ وأصبحنَا كلُّنا توتراً ناعماً متناغماً حدَّ البوحِ والألمِ .
عندئذٍ أخرجَني من مكاني ونزعَ عنَّي كلَّ أوراق ( السلوفان) التي تغطيني وتحجبُني عن أشعةِ الشَّمسِ وأصبحتُ عاريةً تماماً أرتعشُ إذ رأيتُ هذا المدى المترامي يغريني بنزقِ الدخول فيه نحو العمقِ دون لحظةِ تردُّدٍ واحدةٍ تعيدني إلى الوراء ولو قليلاً وتركني لأسبحَ بعيداً بعيداً كانت عيناهُ مثبتتَيْنِ عليَّ لكنَّه أبداً لم يحاولْ أن يحميني من قوةٍ لا علمَ ولا تجربةَ لي بها.
تركني لمكرِ الهواء ولسعةِ الموج وجبروتِ الشمسِ الآتيةِ تجرفني للبعيد.
ويأخذني البعيدُ :: يأخذني دون لحظةِ تفكيرٍ أو تردُّدٍ وأنا لم تكن لديَّ تجربةٌ عن احتواء المدِّ وجبورتِه الصَّامِتِ فاستسلمتُ دون مقاومةٍ...
ويجرجرني المدُّ وينسكبُ فيَّ وأتلاشى في ضياءٍ وعتمةٍ ، مقاوَمةٍ وتساؤلٍ ، انهزامٍ ولذةٍ ، وأبدأُ في الخَفق إذ كنتُ أطمئن أنه بجانبي يبادلني خوفاً بخوفٍ دفءً بدفءٍ خفقاً بخفقٍ.
وأحرِّكُ نفسي بعيداً أو أتحركُ دونَ وَعْيٍ أو مُنتهى الوعي وكأنَّني موجاتٍ تتسارعُ في مدى ليس له شطٌّ ...!
بالخيط يشدُّني فأعلو: بالخيط يشدُّني فأهبطُ...!
ما لِهذا الرجل يرخِي لي الخيطَ على الغاربِ لأعلوَ حدَّ البعاد ولأهبطَ حدَّ الحزنِ والواقعِ..؟؟؟
أتراهُ يتلاعبُ بي أم يلاعبُ المدى بي ..؟
أم يثبِّتُ لنفسِه قدرتَه الواهمةَ على الركضِ صوب البعيدِ حيث المستحيلُ يجلس هناك يرنو إلينا ..!
كنتُ بين سطوةِ المدى وثباتِ قدمَيْهِ على الحصى أتمايلُ أتهدْهَدُ أنتفضُ أرتخي أقتربُ للأمامِ أتراجَعُ للوراءِ أستلقي لاهثةً على جانبٍ متنافرٍ لا يسيطرُ عليه بطرف الخيط .
يغريني هذا المدى البعيدُ بالاقترابِ منهُ يتوسَّل إليَّ ويستحلفُني بالبقاء يواعدني على وفاءٍ لا يعرفُه أحدٌ عند حافَّةِ البحر..!
أما هو فراحَ يشدُّني بعنفٍ وكأنَّني لا أعنيه كثيراً وإنَّما كلُّ ما يعنيه أنْ يُثْبتَ جَدارَتَه أمامَ هذا الطوفانِ الهادرِ...
وكأنما معركةٌ بينه وبين المدِّ لم تُحْسَمْ بَعْدُ..!
أنسحبُ من المدى المبعثرِ إلى مدى ضيِّقٍ عند يديه المتشبثتَيْنِ بي الممسكتين بطرفِ الخيط.
أخذني المدى ..عصفَ بي..أطاحَ بي ..زَلْزَلَنِي..ثمَّ أهاجَ روحي..هَدْهَدَنِي..ثم غدرَ بي..سلَبني مقاوَمتي..ثمَّ أسكرني شَرِبْتُ من زُرْقَتِه فثَمِلْتُ ـ تملكتني النشوةُ فعطشتُ لما تبقَّى من ألقٍ لمْ أذقْ آخرَ قطرةٍ منهُ.
وحينما تيقَّن بقربِ هزيمته انحازَ لكبريائِهِ فشدَّ الخيطَ بعنفٍ على حينِ غِرَّةٍ لأعود إليه فاصطدمتُ بالصخرةِ التي هناكَ وانقطعَ الخيطُ من يَدِهِ.
فظلَلْنَا عند الصخرةِ البعيدةِ أنا والمدى كائنَين نتحركُ سويَّاً.
أمَا هُو فقد لَمْلَمَ باقي الخيطَ وعادَ وحيداً...!

د/ وفاء الحكيم

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى