د. ندى مأمون إبراهيم - الطبيب "الماركة"..

في العيادة ليلًا...حيث نال مني التعب والتثاؤب عند آخر مريض .
فتاة في العقد الثاني من العمر تجلس قبالتي ، ترتدي عباءتها، وتترقب بعينيها الحائرة خلف نقابها، نتائج الفحوص المخبرية.
التفت أحدثها بجدية وشيء من التعاطف :
- كما توقعت لقد نال مرض الذئبة الحمراء ، من الكلى ...وعلينا أخذ عينة ومشاركة طبيب مختص في علاج الكلى، لبحث خطة علاجك ...لا تقلقي، سأقوم باستشارة الطبيب "فلان "
وما أن نطقت اسمه، حتى صاح مرافقها في بهجة عارمة، وهو يرجع بكرسيه إلى الخلف ...ويقلب المسبحة التي بين يديه في نشوة، ويقول :
يوووه ..د." فلان "عندكم "والله إنه كفو ،، أبد ما في مشكلة، حولينا يا دكتورة ".
وتملكتني الدهشة من حماسه العجيب لهذا الطبيب، وكأني أحدثه عن بطل أسطوري، منقذ ،من قصص ألف ليلة وليلة !
شقيق مريضتي هذا ،شاب عشريني نحيل ، يعصب رأسه <بشماغ> بني اللون، يضاهي لون سترته التي يرتديها فوق ثوبه العربي الداكن...ويضع رجلا على رجل، وساقيه النحيلتين تسبحان وسط صندل كبير، يبدو لي أنه قد أخطأ اختيار مقاسه...
منذ بدء المقابلة مع شقيقته ، التزم صمته، لم أسمع له صوتا ، سوى صوت مسبحته التي لا تكف عن الدوران كالبندول، يمنة ويسرة في يده ....لم أنتبه له حتى فاجأني حماسه.!
سألته :
- هل تعرف "د.فلان " ؟
رد علي بحماس أكبر :
-د. "فلان" أحسن دكتور ...أبد .. "لكزس 2016 "
ورفعت حاجبي دهشة من غريب تعليقه ،وقلت في نفسي ( لكزس !!!! و ١٦ !!!) ..
لكنه لم يمهلني الاستغراق في دهشتي، وقال لي :
- "حولينا يا دكتورة"
والتفت إلى أخته يحدثها :
"ما دام د. فلان طبيبك ، راح يسنعنا"
لقد سرق هذا النحيل دوري في طمأنة المريضة ...وشرح الخطة العلاجية ، يكفي أن أنطق اسم فلان ،حتى يزول قلقها !!
وشعرت ببعض الغيرة- ولا أخفي ذلك- من ثقته المطلقة في "د.فلان " اللكزس" .."الماركة!" .
قمت بإحالتهم ...وخرجا من عندي ....
وذلك النحيل يعرج في صندله الواسع، تاركا من خلفه أسئلة لم يسعفني الوقت كي أستخلص إجابتها ....
ما هو سبب معرفة هذا الشاب بدكتور "فلان" ...
والسؤال الأهم لماذا هو" لكزس" ...ولماذا "موديل 2016"؟
ابتسمت، وأنا أتخيل "د.فلان " ...هذا الطبيب " اللكزس"
،تلك السيارة تشبهه ...
طبيب شاب في منتصف العمر ...حاد الذكاء دائم البحث عن الجديد في مجاله، ولا يهدأ من ملاحقة المؤتمرات العلمية واكتساب كل ما هو جديد ومبتكر ....هو يشابه تلك السيارة اليابانية ،التي ليست بالقديمة جدا، ولا الحديثة جدا..
سيارة صنعت تاريخها بنفسها حينما قررت الظهور أول مرة في بداية التسعينيات ... قلبت موازين" التكنولوجيا "رأسا على عقب ... وما زالت ،كما هو حال الياباني صانعها، في تجدد مستمر ...
اتكأت على الكرسي ، وأخذت أفكر في جملة ذلك النحيل ...ماذا لو كان بقية المرضى ، يرونا كما يرانا ذلك الشاب ...سيارات.... لكل منا "ماركة " وفئة معينة؟ ...وياله من تشبيه ...وأطلقت العنان لمخيلتي ...
قد يكون بيننا ذلك الطبيب "الفورد" ... الذي ما أن تراه حتى تشعر بالعراقة والفخامة في ذات الوقت ...يتحرك بمحرك أسطوري ..كما ذلك المحرك الأمريكي الذي يسكن قلب" الفورد" ويدوم إلى ما يشبه الأبد ...
طبيب أخذ وقتا طويلا في تأسيس اسمه والمحافظة عليه ... ذو علم قديم راسخ ...ونظرة ثاقبة قادر على البقاء جيلا بعد جيل كما هو ...كلما فركه الزمن ، زادت هيبته وخبرته .
وطبيب "حافلة مرسيدس" قلما تراه يسير بمفرده ،إذ لا بد أن ترى من حوله صغار الأطباء، وهم يتبعونه بشغف دائم ...كطفل يلزم ثوب أمه ...وهو يحملهم معه كما تحمل" الحافلة المرسيدس" ركابها... لا يريد السير في حيز ضيق ...فعلمه قد لا يسع قلبه وعقله فقط ...لا يكل عن نقله إليهم ...وتتسع روحه ، بقدر عدد المقاعد الكثيرة فيها .
وهنالك الطبيب " السنتافي" المهيأ لكل الظروف، لا توقفه وعورة الطريق، ولا كثرة مطباته ..يثق بمحركه، ولا شيء آخر ...تجده في حال استعداد فطري لتقديم المعونة لكل مريض ...سريع التأقلم ...ولا يقلقه تغير الفصول، ولا الإدارات، ولا المشافي، ثابت على أرضه مندفع بجميع حواسه كما تندفع السيارة رباعية الدفع نحو الهدف .
وذلك الفاخر "اللامبورغيني " الذي تجده أنيقا على الدوام مثل تلك السيارة الإيطالية الفاخرة ...قليل الكلام ...قليل الظهور ...ولكن إن ظهر أسكت.
رسم لنفسه قالبا وسعرا منذ البداية، وهو غير متوفر لكل المرضى ... فمرضاه يشبهونه " لامبورغيني" مثله! محدودي العدد ...أنيقي الملبس قليلي الكلام والظهور مثله .
وطبيب آخر هو مثل "الكورلا" لا يتطور، وإن تطور الزمن ...أبى أن تمر عليه الحداثة ...يعجبه لقب الطبيب فحسب ..كما يعجب "الكورلا" لقب سيارة فقط ...
هو خارج المنافسة ...يزحف ببطء،
لا يكترث بعدد "السلندرات "في ملف خبرته...هو طبيب، وذلك اللقب يكفي ...
وذلك " اللادا" ... المنغلق على نفسه ...صلب محيطه مثل هيكل تلك السيارة الروسية القاسية ...يغرق في القسوة على المرضى، وعلى من حوله ..ولا يعطي غيره، لذة انتقاده ...يرخص سعره بيده ... لا يبهرك في شيء...ولا شيء يميزه .
و طبيب آخر مثل " الرينو كابتشر" ... يدخل البهجة ، حيثما حل ،سلس في تنقلاته وعباراته ...وكما تعتمد تلك السيارة الأوربية الألوان الزاهية ...
يعتمد حس الفكاهة ولون المرح ...تجده لا يكترث للمنافسة لأن لديه ختماً خاصاً يميزه ...
فلا يهمه" الفورد ولا السنتافي ..ولا حتى اللامبورغيني" ...المهم أن يبتسم، ويبتسم مريضه ...
تلك الجملة العفوية من فم ذلك الفتى ،لم تكن ذات وقع عفوي على مخيلتي على الإطلاق ...
هل يصنفنا مرضانا ؟ ... هل لكل منا سعر... ومواصفات؟
تجذب المرضى إلينا أو تنفرهم؟
وهل يقارنون بيننا وبين فئات السيارات المختلفة في السوق، كما فعل هذا الشاب ؟
هل نحن " ماركة " ؟
تساءلت وأنا أخشى أن أجد من أحدهم إجابة ...
أي سيارة "وماركة" سوف أكون في نظر مرضاي ؟
أتمنى أن لا يكون نصيبي "الكورلا " ...
لا أريد أن أصبح "كورلا"...
أكرر ...
أنا لست " كورلا.

<انتهت>


د. ندى مأمون إبراهيم . 2018

* مفردات.
* كفو = كفء
* راح يسنعنا= يقوم بواجبه نحونا على أكمل وجه.
* أبد= بمعنى لا عليك .

-2023




تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى