د. محمد الهادي الطاهري - المقهى قاعة انتظار

في المقهى، في انتظار منتصف النهار، وما يترتب عليه من ازدحام مروري لا يليق بمدينة مثل مدينة الكاف، جلس قريبا مني ثلاثة شبان يافعين من تلامذة الثانوي. كانوا بلا هواتف تشغلهم. لا يعني ذلك أنهم من أبناء الفقراء فملامحهم كلهم تدل على أنهم من أبناء الطبقة الوسطى وكانوا يتحدثون بصوت مسموع وبعفوية وصدق ولا شيء في اسلوب حديثهم يوحي بالتصنع. نادل المقهى لم ينتبه إلي ولم يأتني بقهوتي. قد يكون منشغلا عني فأنا لست من زبائن هذا المقهى وأغلب رواده شبان يافعون ومسافرون ينتظرون مواعيد سيارات الأجرة . شعرت بشيء من الغربة وبعض القلق الناجم عادة عن حالة الانتظار.ومما زاد في امتعاضي أن حديث الشبان الثلاثة عن مدرستهم وأساتذتهم فيه الكثير من السوء وتخيلت نفسي معنيا بهذا الحديث فاضطربت وبدا على وجهي التوتر. أحد الثلاثة انتبه الى حالي وظن توتري من غفلة النادل عني فقال بأدب: عمٌي، النادل هنا لا يطوف على الطاولات. فهل آتيك بقهوة. قلت بأدب :شكرا بني. لا تزعج نفسك. وفهمت أني غير معني بحديثهم السيء عن الأساتذة فتنفست الصعداء . واصل الثلاثة حديثهم الحر بالعفوية نفسها وانتقلوا بسلاسة من موضوع الدراسة إلى مواضيع أخرى. صحيح أن كل موضوع لا يأخذ منهم سوى دقيقتين أو ثلاث ولكنها بدت لي كلها مواضيع كبرى لا تشغل في العادة إلا القليل. تحدثوا عن اينشتاين وفيزيائه وأثرها في الفكر الحديث وعن ألمانيا النازية وانهيارها وعن قوة أمريكا العسكرية وتدحرجها المستمر وعن صعود قوى عالمية منافسة وعن الصين وثورتها الثقافية القديمة وصعودها الالكتروني المعاصر وعن المطبعين من العرب وعن المقاومة. كانت أحاديثهم كلها في شكل برقي خاطف بلا انفعال ولا توتر. هم لا يتجادلون ولا يناقش بعضهم البعض. يكتفون بتبادل المعلومات على أنها حقائق. نظرت في ساعة الهاتف فإذا هي تشير إلى منتصف النهار. لمحوا قفزتي المفاجئة فانتبهوا إلى حالهم. لقد حان موعد الحافلة . وانصرفنا كلنا. كان المقهى قاعة انتظار .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى