زينب هاشم شرف - خيانةُ الذئب

إنه يشحذ شفرته لذبحي بإتقان.
وأنا مرتاحةٌ على مقعدٍ خشبي أعرج في مطبخه الدافئ.
إنه أكثر غرف منزله حميمية لفريسة ومفترس.
إنه مسرحٌ لحدثٍ جديد على كوكبنا التائه.
- هل أنت متأكدة من رغبتكِ في إتمام الأمر؟
- طبعا، لكن يمكنني الاستفادةُ من آخر ليلة لي في الاستماع إلى معلّقة محمود درويش وتناول خمس ورقات عنب.
- إنها في الثلاجة.
مرر يده الضخمة على رقبتي الباسقة، فأمسكتها وقبلتها.. ثم نهضت لتسخين الطعام..
ما كنت لأترك ورم الدماغ يقتلني هكذا ببطء.
الموت في معدةِ رجل غريب هو موتٌ من نوع خاص وله نكهةُ جنون تلائمني..
لستُ امرأة عادية!
أنا ليلى! بكل ما للاسم من معنى!
كان هذا التشخيص الحميد كفيلا بأن يدفعني إلى ترك بلدي والسفر شمالا نحو هذه الغابة المعزولة.
لم يكن لدي شيء يربطني بأي شيء.. لا وظيفة، لا زوج، لا أطفال، لا إخوة ولا أخوات..
بعتُ السيارة الآيلة للخراب.. وارتديتُ جناحا.
كلهم وجدوا المعنى، وبقيتُ معلقة كفقاعة صابون في غسالة الكون.
قد أكون وجدتُ المعنى على الإنترنت.. حين نشرتُ تغريدة:
" أبحث عن مَنْ يأكلني"
في البداية تلقيتُ العديد من الردود والرسائل التي فسرتْ التغريدةَ بشكل منحرف، وحده هو فهمني فأرسل تعليقا:
" لدي مسلخ،فرن ومعدة"
ثم بعث بعنوانه ورقم الاتصال في رسالة خاصة.
وها أنا أجلسُ مرتاحةً على غيمةٍ سكرانة في مطبخ رجلٍ وحيد ومجنون.. كما أنا.
قضينا يومين نتعارف ونتبادل الآراء الفلسفية كي تتوطد العلاقة بين الآكل والمأكول:
- أنا أرفض أن أموت كما يشاء القدر الذي دس لي ورما في دماغي، أنا لن أموت تحت المشرط في غرفة الجراحة، لن أموت كما يشتهون.
- أنت تموتين كما تشتهين.. وأشتهي.
- أنت تفهمني.
- كان يمكن أن نكون حبيبين كما ترين!
- لن نكون.. اتفاقنا أن نجرّب شيئا جديدا، والحُب موضة قديمة، الترند والهبة حاليا أن نتذوق لحم البشر أو نذيقه للآخرين!
- إيه…
- إن أكبر لعنةٍ تعيشها كائنات الكوكب هي لعنةُ الانفصال، أن نولد في أجساد منفصلة بعد أن كنا روحا واحدة، فأنا وأنت والشجرة والقط والسحلية شيء واحد، كائن عظيم واحد تم تمزيقه بين ممالك الكائنات الحية خلال مليارات السنين، وما السلسلة الغذائية سوى روحٍ تقضم نفسها وتبكي بتلذذ!
- لكِ رؤية غريبة للوجود يا ليلى!
- الورم الذي عاش في دماغي سنوات دون أن أدري كشف لي عن ما لا ترون، وإلا ما معنى أن يقوم أحدهم بتصميم نظام غذائي بحيث يضطر فيه الفرد لتناول فرد آخر؟ لكني مختلفة عن كل فردٍ، أنا الفريسةُ التي تختار فارسها، أقصد .. مفترسها.
- أنا فارسُك؟
- لا تتصيد يا يوسف!
- أتعلمين شيئا ليلى... يقال بأن الرجل يقضي حياته محاولا العودة إلى الرحم، وحسب فلسفتكِ: الكائن الحي يقضي حياته محاولا العودة إلى الكُل، إما بالتزاوج أو التلامس، الاقتراب، أو الاغتذاء..
- بالضبط! أنا سأكون جزءا منكَ، حين أسكن فُرنَكَ، معدتَكَ ثم حديقتَك.. سأقضي على شعور الغربة القاتل إلى الأبد حين أذوب في الروح الكلية، في الآخر.
- ...
- قُلْ!
- لولا ورمك القاتل لدعوتكِ لِتكوني جزءًا مني بطريقة ألطف!
- هاهاها، الحب أعنف طريقة للقضاء على الشعور بالغربة، لو تعلم!
.....
كان مترددا، مشتهيا، جائعا، متحمسا وخائفا.. بلعاب يسيل من جمجمته الكبيرة ودموع في اليد اليمنى.
أعرف أنني لن أشعر بالألم، فهذا موت رحيم مقارنة بما ينتظرني من عذاب الموت البطيء لو حاولت العلاج..
لقد وثقت به.
إنه يسدي إليَّ خدمةً ويهبني لذة عابرة ونهاية سعيدة ولو وهمية، فقد لا تكون هناك روح كلية أنا عائدة إليها عن طريق أمعائه..
كانت النوافذ ترتعد، والصقيع يجمد عروق نظام التصريف في الخارج.
دم الشمس يهرب من أذرع السماء.
قام بإصلاح الكرسي الأعرج وأنا جالسة على الطاولة أتفرج وأؤرجح قدميّ، أذيب ورق العنب وراء شفاهي الممتلئة..
"بحرٌ لأيلول الجديد
وأنت إيقاع الحديد
...
فلتمطر"
أحب أن يكون هذا آخر صوت أسمعه هنا في الغابة الثلجية الخضراء بعيدا عن كل بحرٍ..
كنت جاهزة ومستسلمة..
وقعت ورقة اعتراف أعدّها لي بنفسه.
لم أقرأ
وجهه هادئ..
يخدرني
يقبلُ جبهتي
أختفي
يختفي الوجود
ثم أستيقظُ في غرفةٍ بيضاء ورأسي ملفوفٌ بالقماش الأبيض، وأرى أول ما أرى وجهه الأسمر.

____
زينب هاشم شرف
٢٩ أيلول ٢٠٢٣

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى