رضا أحمد - كلّ ما يخطو في بالك...

احتفظت بإيماني مؤقتًا
مثلما تحظى اليرقات بليْل ثقيل
قبل أن تفطن إلى أن لها أجنحة.
1-
لأنّ النهر يرتدي قناعه الودود
حين تميل إليه وتشرب،
لأن المظلات ليست الإجابة الوحيدة هنا
لوجود المطر،
ولأننا في مدينة فقيرة؛
الفضلات التي صُنعنا منها
في طريقها إلى المجارير
والعربات المصفّحة للسّجون.
المومس تصعد بحذائها الرياضي
على سلّم المجد،
تعلق مريولها الممزّق في قصبة صيد،
وفي كلّ مرة تلتقط رجلًا ساذجًا
تربطه على عمود إضاءة؛
مدينة من أولياء الأمور المشنوقين نحن.
الرّجل الذي أثّثَ بيت أحلامها مسمار
لا شجرة بلوط.
ما لم تره تحت قميصها الشّفّاف
يمكن أن تدركه لاحقًا
حين تخفّ خطواتها عن العشب
ويجنّبها النيل سؤال طلبة التشريح
عن كل هذا الليل المهدور لتستحم امرأة.
حين صارت عربة خربة
وضعوا في حقيبتها قنينة بنزين
وخريطة موسمية إلى دار عجَزة،
ببضع خدوش في الوجه ومصابيح مكسورة
ورم بطول "البنكرياس" وتليّف الكبد
وشم قطة تتمطى على كتفها الأيسر
وذاكرة صدئة لا ينبت فيها إلا الشّوارع المظلمة
ورائحة البول والعفن
تركوها تحت كوبري في ساعة الذروة
وكتبوا على ظهرها:
"للبيع أو الاستبدال،
بحالة مستقرة
واستعمال طاقم طبي"
مع تنويه بضرورة حفظها في درجة حرارة الغرفة.
***
تُرى ما طعم التفاح حقًّا
باللغة البرتغالية؟
2-
أعرف كيف بدأ البحر
وأفكر في الحب
ذلك الهيكل المالح الذي يتخلل أطيافنا الرخوة
ليجعلنا قادرين على السير فوق الماء
خطوة واحدة
ويفر منا بكلّ جبن الحياة،
أسير دون وصاية ظلّ
ودون مطاردة جسد ينتظرني؛
ريشة تتراقص بين محفات الهواء
لتنقل إلى الناس سيرة طيرها الذبيح.
عذابي الوحيد
أنني تسكّعت مع الفئران في صغري،
رأيتها تكيل التهم والصّفعات لبعضها
وحين كان عليَّ الاختيار تودّدت إلى القطّ.
الحبّ الذي قسموه بيننا
لم يكن أقلّ ظلمًا من نظرتك
وأنتَ تلومني على عيني المفتوحة حين تقبلني
ولا أكثر عدالة من وردة
يتقاسمها عرسٌ ومآتمُ،
كنتَ مرآة تغربل ملامحي من الوقت والحزن
وأنا حجر أدوّن عليه سيرتنا القصيرة،
أنتَ غارة تتمشى بسمومها في جسدي
وأنا زنزانة، أكتب عليها اسمك وتصير ملكي إلى الأبد،
كنتَ التفاتة صياد
وأنا رصاصة ترافق وحدتكَ إلى الموت.
احزم الشمس بين كتفيكَ
اصمدْ
تَحرَّ صدأ الأغلال
اترك جذوركَ تتداعى
واصعد
أكون لكَ؛
الأكثر ألمًا
ألاّ تتزاور زهرة وعطرها على الحدود
بسبب سياج.
أهديتك قلبي
نجمة مشحونة منذ الأزل بنظرات التائهين،
أغنية تردّدها حورية على مسبح
بجوار رجل يلفظ آخر إيمانه
ويغرق عاريًا في عينيها،
أهديتك قلبي
وكم أتمنى أن يصير أثقل حجر
قفز في صدرك واستقرّ هناك إلى الأبد.
شكرًا لأنك هربت
أنا أيضا لديّ إرثي الطويل من الخيانة
وموسيقى خفيفة تصحبني وقت الندم؛
لا شك في أننا ابتلعنا التفاحة باكرًا
حتى قبل أن تلمس اسمك على لساني
وأذوب في ليل عينيكَ،
الناجي الوحيد الغائب عن سهمي
تركته الريح يواري قلبه في قرص "أسبيرين"
ويدفن ظله في التراب،
ينزع اسمي من طلاسم المعابد،
يلتهم رقائق السراب بمعدة فارغة
ويفتش في إسفلت يتواطأ مع خوفي
عن أنثى حقيقية تغادر دارها دون حذاء.
"""
والشّعر ما الشّعر غير أن تقف عند الشاطئ
وتقول: أريد بابًا يدخلني إلى البحر.
3-
كي تمدّ يديكَ
لأبعد غيمة تحاول الفرار من الضّباب،
لكلمة خائفة في فم جنديّ يحتضر،
لقطة وحيدة تتسلى بتحطيم أعشاش الطيور،
لمعجزة تخشى الهرب من الكتاب المقدّس
لصدفة تجمعك وحبيبتك في عقد انتفاع؛
عليكَ أن تصير شاعرًا
وتنتسب إلى مجموعة فيلة خزفية
جوار سرير أرملة
تبيع يقظتها الكاملة بقصائدَ على ألواح العاج.
الشّاعر يطفئ كل القناديل
لتضيء له فراشةٌ
الطريقَ إلى مقبرة المعرفة.
***
أهو الحب؟
شهقت امرأة بردانة تستردّ أنفاسها الجائعة
من سترة رجل غريب.
4-
صوتكَ لا يحمل نكهة واحدة
أتذوّقه على مهل
ولا أقتنع بصدق حواسي،
يتسلل إلى غرفتي الآن
يلتصق بشفتي؛ أكاد أبتلع الليل الغافي تحت رئتيك
ونجومًا تلمع خلال سعالك المتوعّك
لا أظنني عرفت ملمسَ القطيفة إلا حين دثرتني أنفاس "سيناترا"
ولم أدرك كيف سيصبح بالزنجبيل مذاق فطيرة التفاح
حتى جربت انتزاع نجمة من صدر "شادية"
والآن ماذا عنك
كيف تمزق طبقات صوتي ببحّة تنهدك
وتغرق الشمس سريري
حين تقول: أحبكَ، لكني لا أجيد طريقة الاعتراف.
***
الزمن لا يضيف إلى ملامحنا بهارات كافية
لتلتهمنا النظرات بشراهة مضنية أو ذاكرة عنيفة
تحفظ لنا حقوق التبرج الوقتي.
5-
فائض القيمة معادلة لا تخاطب ودّكَ؛
ماتت وردة على عتبة كتاب
وعاش سوارٌ ذهبيّ
في معصم مومياء على رفّ متحف،
مات الملك "لير"
وعاشت قطة محظيّة
لفتاة مشرّدة في رواية أخرى،
كلّ نوبات هلعي تناصر قضايا مستهلكة
تعرض علينا في التليفزيون،
اقترب من الحكمة وأخبرني:
مَن يعتني بجثة كلب
سوى ضباعٍ كانت تخشى نباحه منذ قليل؟
***
النافذة ضمادة الحائط؛
أنظرُ كل مرة إلى الشارع من جُرحٍ مفتوح.
6-
السماء تلاحقنا في أنفاق "المترو"
وخلف أجمة السّلاح
تحطّ على رأس مطربة الأوبرا بصوتها الوحشيّ
وعلى كتف بائع غزل البنات
تعبئ صغارها في سندويتشات وتهرب؛
تنزع قميصها الأزرق لتجري أسرع
نهداها صغيران،
كدمات بنفسجية،
برق ورعد؛
رجل قاسٍ يستخدم عصاه هناك.
تنزع شرائط شعرها البيضاءَ وتجري
الرياح الشمالية قاسية
الرياح الجنوبية جافة
والرياح الشرقية تحمل صورة حديثة لامرأة
في إعلان مرطب،
تنزع سروالها الداخلي الصغير،
نقف؛
ثمة ماء يسقط
والبعيدون ناس يُصلون ليمضي في طريقهم،
الذين وقفوا تحت الماء بقمصان مفتوحة
بنوا قبورهم في الصحراء بعيدًا.
***
تذكر اسمك الذي اطّلع عليه ملاك الموت،
اسمك المضيء في إيصالات الإيجار والكهرباء
واسمك المحفوظ في معطف "مندل" بين بذور البازلاّء،
تذكر اسمك وارتجف.
7-
الخوف كتابك، كتيبتك وكبيرك
لن يتورّع أن يزيد حصتك من الموت بذبحة
حين تنظر إلى وجهك ينقصه قناعًا
كان يجعلك وديعًا،
لن تعرف قيمة الحزن إلّا عندما تبيعه بالتجزئة
وحين ينفد رصيدك الاحتياطيّ من الجبن
وتجد الموتى يسبحون في كفّك
بشواربَ مجدولة بالغضب ولا قوارب نجاة هنا،
قف ببضاعتك في إشارات المرور
وتمنَّ أن يغنيك صوتكَ المتعب عن سؤال نجمة
عالقة في مسيرة شحاذين،
وحين تبتكر خطيئة
تودّد إلى الحب باسمها البعيد
وتذكر جمالها المؤذيَ
لا تجعلها تشعر بالفضيلة أو المواساة
حين تجمع أشلاءك في منديلها وتبكي،
أين إزميلكَ المنهك في نحت ملامح أبيك
من تمثال "أفروديت" المصلوب في حقل ذُرَةٍ
يخيف العصافير والفئران والليل،
النسوة اللاتي اختلى بهنّ الحب
لم يتنزل عليهنّ الوحي
لكن شعرن بنشوة تراتيل السّماء في أجسادهن
وعرق العيون المرتابة بين دلالة النصّ ولذّة الكتابة.
***
بالعودة إلى الحب العذري
لستُ أدري ما ينقصني لتصبح لي
أو ما أريده لأصير بكَ كاملة؟
8-
بالتوابل طعمك دافئ
بالمكسّرات ينقصني بعض الملح والفلفل؛
يجمعنا كيس عملاق بغلاف أزرق
يمسكه طفلنا الأول،
لديك هذا الوله
وهذه المراوغة المفتوحة على حديثنا
بلا نيّة للاعتراف أو الهرب،
لدينا ضربة صغيرة من الحظّ
بمنديل أبيض
علامة تجارية تباع بثمن بخس لمؤسسة الزواج.
ابتسامة جارنا الأخرس
ومشية زوجته العرجاء
يشبهاننا أحيانا
وأحيانًا يلتهم آخرون وحدتهم دون محسنات طعم
ويخطئون في تذكر أين وضعوا قلوبهم أوّلَ مرة.
أحسنت صناعة قلبك
أهديته إليّ
لم أستطع ضمّه ولا سحقه كجوزة فارغة
أو مواجهة ضجيجه،
محظوظ أنتَ...
سنلتقي مجدّدًا بلا ملابسَ
بلا تكلفة مواصفات منضبطة للخلود في علاقة
بتذكرة واحدة إلى فراش خفيف
فوق سحابة دخان أو روشتة دواء،
يمكنك تقبيلي طوال الوقت
فرك خصلات شعري على وجهك
صناعة مقبرة عميقة في قلبي بمفكّك
لا تزول إلى الأبد
وتجعلني امرأة قبيحة في عيون الرجال.
أريد أن أكون قاسية
لئلا أخسر خوفي
وشعوري عند كل هزيمة
أن العيون كلها ركضت بعيدًا
وأموال المرابين صارت هادئة في جيوب الغيب.
جسدي فراغ يأخذ استدارته من لمساتك،
فمي هوّة بطلاء دمويّ،
والمرآة التي تأخذ جزءًا من روحي كلما نظرت إليها؛
خيوط براقة على نول
تغزله امرأة ضريرة لتصنع عيونًا بحجّة غياب.
موعدنا حين يقضم النيل قُبلة الحياة
من نزهة عاشقين
ويصير للّيل أغنية
نعرفه بها حين ترقص نجومه الفالس
ويتخلى القمر عن وجهه المتجهّم،
وحين تتخفى في حضنك كل أمنياتي
عن رجل لا يناديني باسمه
عندما يحضر لي الطعام أو أهجره.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى