أيّ أفكار تدور في رأسك حين يلتحق جميع من درّستَ معهم سنوات بمعاهدهم مستبشرين باستئناف الدروس وأنت ممنوع لأنّك معفيّ من العمل بسبب مكيدة دبّرها لك البوليس السياسي وأحسن إخراجها بتواطؤ مع الإدارة والوزارة؟ عصفت برأسي أفكار غريبة. فكّرت وأنا في سيارة الأجرة أن أهجم على المدير الجهوي للتربية في مكتبه وأن أشبعه ضربا، وفكّرت في التسلل ليلا إلى منزل ذلك البوليس الذي ظلّ يراقب حركاتي وسكناتي طيلة سنتين ولفّق لي ما لفّق وفكّرت في طعنه بمقصّ الحلاقة أو دمغه بحجرة أو حتّى في عضّ أذنه اليسرى تلك التي يرهف سمعها لالتقاط أخبارنا ونحن جلوس في المقهى نلعب الورق أو نتبادل الحديث في ما لايعنيه ولا يعني الدولة التي يحرسها. فكّرت في ذلك وتخيّلت نفسي معتقلا يسوقني قطيع الشرطة إلى السجن فهالني الأمر وشطبت الفكرتين من رأسي ولم أنتبه إلى ما كنت فيه من الهلوسات إلاّ حين سمعت أصوات الركاب يستغيثون طلبا للنجدة والسائق يدوس على المكابح بشدّة من فرط المفاجأة والمقود بين يديه لا يميل لا يمينا ولا يسارا. لم أصرخ. لم أرتبك. وتعلّق بصري بالهاوية التي تتّجه نحوها السيارة. كنت أتهيّأ للسقوط أو الموت أو حتّى الطيران من زجاج السيارة وهو هشيم. السائق متمسّك بالمقود وساقه اليمنى على المكابح وصرخات الاستغاثة تزداد علوّا والفتاة الجالسة خلف السائق تماما تمسك بيديها كتفيه وتدعو الله أن ينقذنا. السيارة على مقربة من الهاوية. لا شيء يدور في رأسي. هل نقع؟ ربّما. أغمضت عينيّ. ظلمات خفيفة تخترقها صور باهتة تخيّلت أنّها صور أمّي وأبي وإخوتي يتلقّون خبر وفاتي بعد حادث مرور ويستقبلون المعزّين بعيون دامعة. وفتحت عينيّ. أين الهاوية التي كنّا نسير إليها؟ لقد اختفت. والسائق مستلق على ظهره لا يكاد يتنفّس وتلك الفتاة التي تركتها تدعو الله تضغط بقوة على صدره وتردّد دعوات أخرى وأنا كما كنت من قبل أسرّح النظر بعيدا من خلف زجاج السيارة المعطوبة والناس يسيرون أفواجا باتجاهنا. أهؤلاء هم المعزّون تركوا موكب العزاء وهرعوا إلينا ليطّلعوا على أخبارنا. لا يا سيّدي. هؤلاء رجال الحرس الوطني والحماية المدنية. لقد أوشكنا على الموت لولا ... لولاك يا سيّدي. لقد افتككتَ المقود من السائق وأدرتَه بقوة فانحرفت السيارة عن الهاوية ولاذت بالجبل. انظر. ها هي تعلق بما ارتفع من الأرض.