فاطمة مندي - قُبلة الندم

في صباح يوم كئيب، زارنا ضيف، ثقيل علي قلبي.
تودد إلى والدتي لازمها فترة طويلة من الزمن، عانت الأمرين في معيته. ننفق
من معاش ابي، ونقطن شقة فخمة، مازلت في المرحلة الابتدائية.
كانت أمي ذلك الحضن الذى يحتويني، لا أدري أنها كانت بحاجة الى ذلك الإحتواء أكثر مني، هي ذلك الملاك الذى يحملني إلى آفاق من السعادة، لا يدركها غيري، لا ادرى أنها قد هبطت على الأرض بعد أن فقدت جناحيها وتعبت من التحليق علينا وحيدة فى سماء العطاء وعشق الأبناء، كنت اريدها وردة عطرة زاهية دوما؛ لكن لم ادرك أنها حتما ستذبل من قسوة الألم! تمنيتها دوما نادية فارهة حاضرة أمامي، لتنفيذ اوامري و رغباتي، دوما كنت أحلم أن يظل هذا الجسد جميلا متماسكا، تساقطت أوراقها
وذبل عودها واقتلعت رياح المرض أشجارها،
وأصابها الجفاف والتشقق، اردتها هادئة ناعمة رقيقة وماحولها صاخب خشن متدنِ، اردتها واردتها واردتها ونسيت أنها بشر.
لقد غافلنا هذا الزائر اللعين وقضى علي والدتي، لقد فارقت الحياة استسلمت
لقدرها الصامت مع مرض
لاهو افلتها ولا تركها تعيش بسلام، قضت نحبها.
كانت تذكرني وتشدد علي مسامعي أن اجتهد؛ لكي أكون طبيبة، وتذكرني أنها وصية والدي لها.
ها هي قد رحلت وتركتني التحف عتمة الليل بمفردي، كانت سندي وظهري الذي تعرى بفراقها، لي أخ وحيد متزوج، يسكن بعيدا، لم يكمل تعليمه، اكتفي بالتعليم المتوسط (دبلوم)، امتهن مهنة بسيطة لا تكفي لسد حاجاته، بعد وفاة امي مكث معي في شقتنا، كي يوفر الإيجار، كما اعتمد علي معاش والدي في أمور حياته، ساقتني زوجته أمامها وكأنني بهيمة، وشربت كؤوس من العذاب وألوانه، مررت نفسي أنا الطفلة الصغيرة، لم اهتم أن أقص علي أخي ما تفعل، بل شغلت نفسي بما هو أهم، دراستي وأمنية أمي وأبي، كنت اتناول طعامي الذي يكاد لا يكفيني، لم أهتم، كنت اقوم بأعمال المنزل المختلفة ولا أبال، كنت اتخطى كل هذه التفاهات، نعم هي كذلك بالنسبة لي هي تفاهات؛ لأنني ارنو إلي هدف اكبر هو أن اصبح طبيبة، نعم طبيبة. تقدمت السنين وتفوقت في الصفوف، والمراحل، ووصلت الي الثانوية العامة، وعلي اعتابها، جاءني خنجر مسموم من زوجة أخي.
قالت له في حدة
_ لن تكمل تعليمها، تكتفي بالدبلوم مثلك.
رفض أخي مطلبها،
لكنها هددته إما طلاقها أو الثانوية العامه،
مبررها أنهم يحتاجون الي مصاريف كثيرة، واولادها أولى بتلك المصروفات، مع أنها زينت يديها واصابعها بالذهب، بعدما كانت تأتي لوالدتي شاكية ضيق ذات اليد، وكانت والدتي تكيل لها من مخزوننا، بل وتعطيها أموالا كثيرة، لأن معاش والدي كبير، يكفينا ويزيد، وكانت والدتي تدخر لي من الجهاز كل ما هو غال وثمين، ووضعت لي وديعة باسمي لا تستحق الصرف إلا عند بلوغي السن القانونية.
للأسف أخذت كل ما ادخرته امي لي بعيدا عن الوديعة، لم أبال، والأن وضعت اخي في اختيارين، أكمال تعليمي كما ارادني ابي أو طلاقها، وهي أم لأربعة اولاد.
طأطأ أخي راسه الي الأرض وحدثني بمفردنا
_وترك لي الإختيار، إما أن اتعلم واحرمه من صغاره، أو اترك له صغاره واكتفي بالدبلوم.
ولكنه اقترح علي اقتراحا آخر؛
قال لي
_ سأدخلك المدرسة الفنية ثم تدرسين الثانوية كما تريدين، دون علمها؛ فزوجتي لا تعرف القراءة.
وافقت علي هذا الاقتراح، وكنت انهل من العلم، كما الجوعان الذي لم يذق الطعام منذ عدة أيام، اهملت المدرسه الفنية، بل تكررت مرات رسوبي بها، كانت غطاء لإكمال دراستي في الثانوية ثم الي الجامعة،
وكثيرا كانت تتساءل في تهكم
_ هي المدرسة دي مش هتخلص بقى.
كنا نبرر لها كثرة خروجي بأنني من كثرة رسوبي اذهب إلي الدروس الخصوصية، وكانت تصمت لأن هذا كان خيارها.
ذات يوم أخذ ابنها حقنة بنسلين (مضاد حيوي)،
ازرق لونه وكاد أن يفقد حياته، كان يعاني من حساسية ضده.
نظر لي أخي باستعطاف كان يعلم أنني قادرة علي إنقاذه، وكانت هي تعشق هذا الابن تحديدا ؛ لأنه ذكي جدا ولماح ومرح ومتحدث لبق، رغما عن أخي قال في توتر وهو يحمل ابنه
- اتصرفي يا دكتورة، وبدون أن انتظر أو اتردد لحظة احضرت حقنة مضادة لحساسية البنسلين، وانقذت بها ابن أخي.
فما كان من امه إلا أنها مدت يدها وشدت قدمي بقوة رغما عني وطبعت عليها قبلة الندم.
فاطمة مندي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى