من أعلى نقطة في قصره الذي لا يخفي قِدَمَه كان يرى النهر. قادماً من مسافات بعيدة. كان يتابع النهر هذا، وهو ماض ٍ إلى مسافات بعيدة، إلى ما وراء الأفق المنظور. كان هذا دأبه مذ وعى نفسه. ليس هذا فحسب، إنما كان يسمع صوته وهو في غرفة نومه الخرافية بوساعتها وجدرانها السميكة وسقفها العالي، وشبابيبكها الكبيرة التي تريه مساحة واسعة من السماء. كان يسمع هدير النهر ، كما لو أنه داخل غرفة نومه، وفي بعض الحالات كان يشتد، تبعاً لحركة جريان النهر ورفْده بمياه إضافية سنوياً .
لم يكن هناك من يضاهيه خبرة بهذا النهر، وهو بعرضه، وهو في مشهده الأفعوانياللافت، يقطع سهولاً، تلالاً وجبالاً، وبعمقه المحسوب. لا يتذكر منذ متى بدا اهتمامه بهذا النهر الذي يلاصق قصره. سوى أن الذي يعرفه جيداً، هو أنه يمتلك مكتبة ضخمة خاصة به في قصره، ولها فرع كبير في غرفة نومه، تضم كل ما له صلة بالنهر: جهة التربة، علاقة الماء بالتربة،محتويات النهر، والتغيرات التي تطرأ عليه. ما ينتشر يكون على ضفتيه من نبات وشجر. ما كُتِب عنه من قصص ، روايات، أشعار، وكتابات أخرى للرحالة وسواهم، ولوحات فنية، وأناشيد، حتى التعليقات العادية، ومنها الخبرية، لها تصنيف مختلف، يساعده في ذلك خبراء وموظفون مكلفون لهذا الغرض حيث يمدّونه يومياً، بكل ما هو مستجد، فتزداد مكتبته اتساعاً، وفي بعض الحالات كان يستغرب مما يجري، ويتوقع أنه قد يأتي يوم، لا يعود في الإمكان إضافة ولو كتاب واحد إليها، وقد استغرقت أمكنة مختلفة في قصره، حتى ممراته.
كان ذلك مجال قلقه.
كان التفكير في النهر مع الزمن يؤرّقه، ويمنعه من النظر إلى البعيد، والنوم بعيداً عن الكوابيس .
لم يدع ذلك يمر دون مساءلة بينه وبين نفسه: ماالذي يقلقه؟ ولماذا يقلق؟ طبعاً كان النهر مصدر قلقه الوحيد. كان ملؤه ثقة من القصر والمواصفات الدقيقة التي بنيَ بها.
هو يعرف طبيعة التربة ومن خلال أفضل الخبراء ذوي العلاقة في العالم، بمقدار ما يعرفه من منبعه إلى مصبه .
مجرد نهر..! هكذا كان يقول.. لكنه مع الزمن، أدرك أن شيئاً ما يحصل.. وجرّاء تفكير متواصل بينه وبين نفسه، توصَّل إلى قرار غير مسبوق: ضرورة تغيير مجرى النهر.. لا بد من إبعاده عن قصره، ليستطيع النظر وهو في راحة بال، ويمكنه النوم دون منغصات.
استدعى ذات صباح باكر من هم على بيّنة بشئون النهر، وأصدر أمره الذي لا رجعة عنه: إبعاد النهر بتغيير مجراه عن القصر، بدعوى أنه يشكل خطراً عليه وعلى المدينة، ومن باب الأمان، لا بد من تنفيذ أمره لمصلحة البلاد .
لمن يكن من اعتراض !
بدأت الحسابات الدقيقة، ووضِعت الخرائط المطلوبة، وتم الاستعداد للبدء بالعمل كما هو المطلوب..
شوهدتجرّافات ضخمة، آليات مرافقة، عمال ومهنيون من الاختصاصات كافة في محيط النهر، وفي النقطة المقررة للدفع بالنهر إلى مسافة معلومةوبدقة .
بوشر العمل. كانت أصوات الآليات والجرافات، والعاملين في المكان يتردد صداها في محيط المدينة وأبعد. لا بل إن خبر محاولة تغيير مجرى النهر تناهى إلى الجهات الأربع، وسلّطت أصوات كثيرة على هذا القرار التاريخي والمفاجئ من كثيرين .
كان يراقب كل شيء من قصره، بالعين المجردة تارة، وبمنظاره المقرب تارة أخرى ، وتصله الأخبار المتعلقة بالعمل تباعاً .
كان يشعر بارتياح مما يراه ويسمع به بصدد النهر. وكان يتابع سحب الغبار المتصاعدة من محيط النهر، وهي تغطي ماءه .
كان العمل يجري على مدار الساعة. لقد خصّصت ميزانية ضخمة لهذا الغرض .
صوت هدير النهر كان يخف مع الوقت، ويتلاشى في بعض الأحيان .
لقد جرى الحفْر عميقاً، لبناء حاجز بيتوني مسلح، وبناء على حسابات هندسية دقيقاً، لتلافي كل ما هو ممكن حدوثه. وهذا الحاجز الموصوف بأرضيته العريضة، وسماكته وقوة المواد الداخلة فيه، كان يعلو مع الزمن، إلى أن ظهر حاجباً رؤية النهر، وهو يدفع به إلى الجهة المرسومة على الخريطة .
كان هناك مكافآت توزَّع على المعنيين بهذه العملية، ليكون العمل أكثر دقة .
في زمن قياسي، نفّذت الخطة التي أُعِدت في مكتب خاص ملاصق للقصر، وبإشرافه المباشر.
من أعلى نقطة في قصره، رأى النهر، وقد ابتعد عن قصره.
صار في مقدوره أن ينام بعيداً عن هدير النهر.
لم يشعر بسعادة وراحة بال وهو يتنفس الصعداء، مثل شعوره بما جرى، ولأول مرة في تاريخه. لقد أصبحت سلامة القصر أولاً، والمدينة مضمونة. مقولة رددها بينه وبين نفسه كثيراً . طبعاً كان هناك احتفال مهيب بهذه المناسبة، غطتها وسائل إعلامه السمعية والبصرية، وتناولت على وصف ما جرى أقلام كثيرة لها خبرة في إضاءة مثل هذه الحالات، وهي محل ثقة القصر.
اعتبِر ذلك يوماً تاريخياً، وإنجازاً وطنياً في سجل البلاد .
لم يعد يسمع صوت هدير النهر. لم يعد يراه من مسافة قريبة، أو يشعر بأمواجه وهي تضرب الجدران الصلبة لقصره .
لقد انتهى أمره! هكذا قال بينه وبين نفسه .
في ليلة تالية، استيقظ على غفلة، كما لو أن هناك من يوقظه من نومه. هو نفسه من استيقظ مصدوماً بما يحس ويسمع. كان هناك ارتجاج في أرضية القصر، لم يسلم من تلك الهزة التي أحدثها انهيار الحاجز البيتوني أمام قوة الماء المتجمعة وراءه، وضغطه عليه، وهو يندفع بسرعة، حيث تردد صدى انهيار الحاجز ذاك، وهدير النهر إلى ماوراء محيط المدينة من الخارج ..!
لم يكن هناك من يضاهيه خبرة بهذا النهر، وهو بعرضه، وهو في مشهده الأفعوانياللافت، يقطع سهولاً، تلالاً وجبالاً، وبعمقه المحسوب. لا يتذكر منذ متى بدا اهتمامه بهذا النهر الذي يلاصق قصره. سوى أن الذي يعرفه جيداً، هو أنه يمتلك مكتبة ضخمة خاصة به في قصره، ولها فرع كبير في غرفة نومه، تضم كل ما له صلة بالنهر: جهة التربة، علاقة الماء بالتربة،محتويات النهر، والتغيرات التي تطرأ عليه. ما ينتشر يكون على ضفتيه من نبات وشجر. ما كُتِب عنه من قصص ، روايات، أشعار، وكتابات أخرى للرحالة وسواهم، ولوحات فنية، وأناشيد، حتى التعليقات العادية، ومنها الخبرية، لها تصنيف مختلف، يساعده في ذلك خبراء وموظفون مكلفون لهذا الغرض حيث يمدّونه يومياً، بكل ما هو مستجد، فتزداد مكتبته اتساعاً، وفي بعض الحالات كان يستغرب مما يجري، ويتوقع أنه قد يأتي يوم، لا يعود في الإمكان إضافة ولو كتاب واحد إليها، وقد استغرقت أمكنة مختلفة في قصره، حتى ممراته.
كان ذلك مجال قلقه.
كان التفكير في النهر مع الزمن يؤرّقه، ويمنعه من النظر إلى البعيد، والنوم بعيداً عن الكوابيس .
لم يدع ذلك يمر دون مساءلة بينه وبين نفسه: ماالذي يقلقه؟ ولماذا يقلق؟ طبعاً كان النهر مصدر قلقه الوحيد. كان ملؤه ثقة من القصر والمواصفات الدقيقة التي بنيَ بها.
هو يعرف طبيعة التربة ومن خلال أفضل الخبراء ذوي العلاقة في العالم، بمقدار ما يعرفه من منبعه إلى مصبه .
مجرد نهر..! هكذا كان يقول.. لكنه مع الزمن، أدرك أن شيئاً ما يحصل.. وجرّاء تفكير متواصل بينه وبين نفسه، توصَّل إلى قرار غير مسبوق: ضرورة تغيير مجرى النهر.. لا بد من إبعاده عن قصره، ليستطيع النظر وهو في راحة بال، ويمكنه النوم دون منغصات.
استدعى ذات صباح باكر من هم على بيّنة بشئون النهر، وأصدر أمره الذي لا رجعة عنه: إبعاد النهر بتغيير مجراه عن القصر، بدعوى أنه يشكل خطراً عليه وعلى المدينة، ومن باب الأمان، لا بد من تنفيذ أمره لمصلحة البلاد .
لمن يكن من اعتراض !
بدأت الحسابات الدقيقة، ووضِعت الخرائط المطلوبة، وتم الاستعداد للبدء بالعمل كما هو المطلوب..
شوهدتجرّافات ضخمة، آليات مرافقة، عمال ومهنيون من الاختصاصات كافة في محيط النهر، وفي النقطة المقررة للدفع بالنهر إلى مسافة معلومةوبدقة .
بوشر العمل. كانت أصوات الآليات والجرافات، والعاملين في المكان يتردد صداها في محيط المدينة وأبعد. لا بل إن خبر محاولة تغيير مجرى النهر تناهى إلى الجهات الأربع، وسلّطت أصوات كثيرة على هذا القرار التاريخي والمفاجئ من كثيرين .
كان يراقب كل شيء من قصره، بالعين المجردة تارة، وبمنظاره المقرب تارة أخرى ، وتصله الأخبار المتعلقة بالعمل تباعاً .
كان يشعر بارتياح مما يراه ويسمع به بصدد النهر. وكان يتابع سحب الغبار المتصاعدة من محيط النهر، وهي تغطي ماءه .
كان العمل يجري على مدار الساعة. لقد خصّصت ميزانية ضخمة لهذا الغرض .
صوت هدير النهر كان يخف مع الوقت، ويتلاشى في بعض الأحيان .
لقد جرى الحفْر عميقاً، لبناء حاجز بيتوني مسلح، وبناء على حسابات هندسية دقيقاً، لتلافي كل ما هو ممكن حدوثه. وهذا الحاجز الموصوف بأرضيته العريضة، وسماكته وقوة المواد الداخلة فيه، كان يعلو مع الزمن، إلى أن ظهر حاجباً رؤية النهر، وهو يدفع به إلى الجهة المرسومة على الخريطة .
كان هناك مكافآت توزَّع على المعنيين بهذه العملية، ليكون العمل أكثر دقة .
في زمن قياسي، نفّذت الخطة التي أُعِدت في مكتب خاص ملاصق للقصر، وبإشرافه المباشر.
من أعلى نقطة في قصره، رأى النهر، وقد ابتعد عن قصره.
صار في مقدوره أن ينام بعيداً عن هدير النهر.
لم يشعر بسعادة وراحة بال وهو يتنفس الصعداء، مثل شعوره بما جرى، ولأول مرة في تاريخه. لقد أصبحت سلامة القصر أولاً، والمدينة مضمونة. مقولة رددها بينه وبين نفسه كثيراً . طبعاً كان هناك احتفال مهيب بهذه المناسبة، غطتها وسائل إعلامه السمعية والبصرية، وتناولت على وصف ما جرى أقلام كثيرة لها خبرة في إضاءة مثل هذه الحالات، وهي محل ثقة القصر.
اعتبِر ذلك يوماً تاريخياً، وإنجازاً وطنياً في سجل البلاد .
لم يعد يسمع صوت هدير النهر. لم يعد يراه من مسافة قريبة، أو يشعر بأمواجه وهي تضرب الجدران الصلبة لقصره .
لقد انتهى أمره! هكذا قال بينه وبين نفسه .
في ليلة تالية، استيقظ على غفلة، كما لو أن هناك من يوقظه من نومه. هو نفسه من استيقظ مصدوماً بما يحس ويسمع. كان هناك ارتجاج في أرضية القصر، لم يسلم من تلك الهزة التي أحدثها انهيار الحاجز البيتوني أمام قوة الماء المتجمعة وراءه، وضغطه عليه، وهو يندفع بسرعة، حيث تردد صدى انهيار الحاجز ذاك، وهدير النهر إلى ماوراء محيط المدينة من الخارج ..!