د. محمد عبدالله القواسمة - أطفال غزة

في غزة الآن، مع معركة "طوفان الأقصى" لا يسمع الطفل وهو في بطن أمه دقات قلبها وتنهيداتها وتراتيلها؛ إذ تُعيق سمعه آهات أمه وصراخها، ويضيق صدره وهو يسمع أزيز الطائرات وهدير القذائف ودوي الصواريخ، وإذا جاء إلى الحياة يستقبله أهله بفرح مغلف بالصمت والوجوم؛ فيخجل من صراخه الذي أطلقه ليعلن عن خروجه سالمًا.

في غزة لا يعرف الأطفال الألعاب الإلكترونية، مثل ألعاب المغامرات والأكشن، ولا يعرفون الألعاب الشعبية التي عرفها أجدادهم، مثل: شد الحبل، أو الحجلة، أو الغميضة، أو بيت بيوت. إنهم لا يعرفون غير لعبة الحرب والقتال، يلعبونها بشظايا القنابل والدبابات والسيارات المحطمة، ولعبة الإسعاف التي اكتشفوها من خلال مشاهدة رجال الدفاع المدني، وهم يحملون الجرحى والقتلى، وينقلونهم إلى المستشفيات.

في غزة، الأطفال يشاهدون المدارس والبيوت والمستشفيات وهي تُهدم، ويعانون الخوف والرعب من مشاهد الدموع والدماء، وترتجف أجساد بعضهم وهم يخرجون من تحت الردم أحياء، أو مشوهي الوجوه والأطراف. ويتخوفون أن يأتيهم الموت قبل أن يبلغوا مرحلة الصبا والشباب.

من الصور التي تهز القلوب لأطفال غزة صورة ذلك الطفل الذي أخرج من تحت الأنقاض، وهو يبتسم في وجوه من أخرجوه، وصورة لآخر يشكر المسعف وهو يحمله إلى المستشفى، وآخر يلقن أخاه الشهادتين وهو يحتضر، وآخر ينتظر أباه أن يخرج سالمًا من تحت الأنقاض، ويأتي لزيارته في المشفى.

صور كثيرة من الحزن والبطولة والصبر سطّرها هؤلاء الأطفال. هل ينسى الناجون منهم ما حدث؟

قي غزة من كتبت له الحياة من الأطفال بعد هذه المعركة سيتمنى أن ينمو ويكبر سريعًا؛ ليغدو رجلًا تُلقى على عاتقه مسؤولية الرجال. إنه لن ينسى ذكريات الحرب القاسية، وتلك الأيام التي عانى فيها من الجوع والعطش والمرض، ورأى الموت يفترس أهله وأصدقاءه وأحبابه، وسيدرك أن أرضه محتلة، وسيتعرف إلى من كان سبب مأساته، وإلى من كان وراء هذه المصائب التي عايشها.

هذا الطفل الفلسطيني الذي نشأ وترعرع في الحصار، وعاصر الحرب والدمار، وتعرض للقهر والجوع، ستتحول ذكريات الحرب لديه إلى طاقة تمده بالعزيمة، وتمنحه الشجاعة، وتخلق في نفسه التحدي والإصرار على الوجود، والتشبث بالحق الذي هو الوطن والشرف والعقيدة، ويتابع خوض معركة أجداده حتى النهاية.

مثل هذا الطفل كم هو مرعب للأعداء! لأنه حين يكبر سيسأل عن أهله كيف قضوا، وعن أرضه كيف استبيحت، وعن مقدساته لماذا دنست؟ وسيدرك ما جرى لأهله ووطنه ومقدساته فيترجم هذا الإدراك إلى فعل مقاوم لتحقيق العدالة، ومحاسبة عدوه. إن الذي يعيش المأساة في طفولته يكون أقوى في المطالبة بحقه من غيره ممن لم يعشها.

يُبين الصحفي سايمون تيسدال في صحيفة" الغارديان" اللندنية ما يفكر به الأطفال الناجون من هجمة إسرائيل على غزة حين يكبرون نحو الذين سمحوا بهذه الهجمة، فيرى أنهم" يحملون الحزن والخوف والشعور بالذنب والغضب والاغتراب، وسيسألون عمن قتل إخوانهم وأخواتهم وآباءهم وأصدقاءهم، ولماذا فعلوا هذا، وسيسألون عما فعله العالم لوقف القتل، وستلاحقهم الذكريات المرة من الدم والدموع، ويطالبون بالعدالة، وسيحاول البعض، كما فعل الكثيرون في الماضي، تحقيق العدالة بأيديهم، عندما أتيحت لهم الفرصة"

يدرك الأعداء هذه الحقيقة بأن أطفال غزة حين يشبون عن الطوق لن يغفروا لعدوهم جرائمه، ولن يتنازلوا عن أرضهم وكرامتهم. لهذا كانت غولدا مائير رئيسة وزراء إسرائيل السابقة التي تكنى أم إسرائيل الحديثة تتميز من الغيظ حين ترى امرأة فلسطينية حاملًا، أو ترى طفلًا يدرج في الحياة، حتى إنها صرحت بأنها تتمنى كل صباح أن تصحو فلا تجد طفلًا فلسطينياً على قيد الحياة.

لا عجب أن توجه إسرائيل في معركة "طوفان الأقصى" قواها التدميرية؛ لتهدم البيوت على رؤوس النساء والأطفال. إنهم يزرعون الحقد في قلوب الأطفال، ويعتقدون أن الحياة لهم ولأطفالهم؛ فهم شعب الله المختار وغيرهم حيوانات يجب القضاء عليهم. آن لإسرائيل أن تدرك بانها لن تنعم بالهدوء والسلام بقتل أطفال غزة، فـ"من يزرع الشوك لا يجني الورد". وأن عدوانها الغاشم لن يُغيّب الحقيقة في أذهان الناجين من الأطفال بأن هذه الأرض لهم ولأهلهم الذين سقوها بعرقهم ودمائهم.


د. محمد عبدالله القواسمة

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى