ميسلون هادي - غيْبة..

(غيْبة) عجوز ناحلة لا ترتدي لوناً زاهياً، ولا تشتري ثوباً تطير حوله الفراشات، أو تحط عليه الورود، فتلك علامات مزعجة تجعل نظرات الناس ترتطم بها، وتنتزع سطوراً من روحها لا تريد لأحد أن يراها.. أخذت الاحتياطات اللازمة لمنع حدوث طارئ في حديقتها، أو دخول لص إلى بيتها، فمدت الأسلاك الشائكة فوق جدرانه، وأغلقت جميع منافذه الخاوية على عروشها، بل فعلت ما هو أكثر من ذلك، فوضعت حواجز كاملة حول ممراته وأبوابه ونوافذه، حتى غدا أشبه بصندوق مغلق ذي أبعاد عملاقة.

كان المفروض أن يغني ناظم الغزالي في عرسها، إلا أنها قالت لعريسها قبل حفل الزفاف بيوم واحد: كلها عشرة أعوام، أو ألف عام، وتندثر هذه النفايات البشرية من الأرض.. فلماذا تدعني أقضي الليل في فندق المطار قبل يوم القيامة. خطر في باله أن يناور قليلاً لإقناعها، فأخبرها أنه سيأخذها معه نحو شرق الأردن، لكي يجري بحوثاً علمية على طين البحر الميت، ويجرب معها فوائده العظيمة لشد وتنقية وتنعيم البشرة بكل أنواعها.. قالت له وهي تنهض من مكانها كالوحش، لكي تخضه من ياقته:

– وأين هي كيلوباترا؟، وأين هو أنطونيو؟، أو أين هم أبناء الملك هيرود؟؟.

محمد البستاني اقترح عليها، في العيد الصغير، أن يصعد لتكريب النخلة، لأنها شاخت وأصبحت كالأسد العجوز الذي تدلت فروته المتسخة على الأرض.. نظرت له نظرة طويلة، وبدت كأنها تدخل في حلم مفزع جداً.. وعندما فتحت فمها، وجم البستاني، وفقد بصره فجأة، فارتطم بباب الخروج، ثم وجد نفسه في مهب صرختها العاتية التي انطلقت كالريح:

– ماذا تقول يا غراب البين؟ أتظن نفسك تعمل في حدائق قصر الرحاب؟.

انطلق محمد بدراجته مرعوباً، واستدار بها على عجل، فاختفى قصر الرحاب خلف غشاء من الغبار والدخان، وسقطت النخلة العجفاء بالكامل على نحو غريب، إذ جعلتها الصيحة الجبارة تشهق آخر نفس متبق من توقيتها القديم، فمالت على حديقة جارها المعلم، واخترقت فتحة السياج، لتسحق مقصورة سيارته البيضاء بالكامل.

لديها زيارة سنوية واحدة للجيران في عيد الأضحى، وعندما تسمع (غيْبة) أحداً منهم يريد أن يتزوج تقول له (لا لا لا تتزوج)، وإذا عرفت أنه يريد السفر تقول له (لا لا لا تسافر)، أما إذا صادفته يخرج للنزهة، فتقول له بكلمة زجر قاطعة (لا لا لا تتنزه).. وظلت هكذا ترتدي ثوبها الكحلي الغامق، ولا تخرج من البيت إلا لجلب البقالة، أو رمي النفايات، أو استلام راتب والدها الراحل.. ولأن لديها نظراً خارقاً، فلا أحد منا يجرؤ أن يحدق فيها، أو يسخر من حركاتها، وإلا حوّلته إلى مشنوق يتأرجح في مكانه.

ذات عيد سألنا بعضنا البعض: ما هو السر في كلمة (لا) التي تكررها خالتنا غيْبة دائماً.. ألأنها لم تتزوج أو تسافر أو تتنزه في حياتها؟؟؟ قالت غيْبة: كلا ليس هذا هو السبب، لا نعرف كيف سمعتْنا، فتجرأنا وأعدنا سؤالنا بصيغة أخرى، وقلنا لها: ما قصتك يا خالة غيْبة.. لماذا تقولين (لا) على كل شيء نريد أن نفعله في هذه الحياة؟ لماذا؟. حقاً لماذا؟. صمتت غيْبة طويلاً.. تحركتْ ستارة النافذة.. اشتدت حركة الريح، وتساقطت أوراق الأشجار كلها على الأرض… فقالت غيْبة أخيراً ونظراتها الحامية مصوبة نحو سقف الغرفة: ألا لعنة الله عليكم.. آني شنو قصتي؟ لو أنتو شنو قصتكم.. كل شيء بدأتم به، انتهى ثم حزنتم عليه. كل حلم عشتموه، مات ثم بكيتم عليه، أما أنا فلم أبدأ شيئاً واحداً في حياتي، ولا مشيت خلف أشباح تظهر لي في المنام، فكيف أنقهر أو أحزن على شيء لم أبدأ أو أحلم به أصلاً.. ألا تعلمون أني أقف شهراً لكي لا أحزن دهراً.

(مُصيبة) هي غيْبة!! فآلاف التغيرات يمكن لها أن تحدث بين ليلة وضحاها.. ومئات الكوارث قد تشتعل لحظة بعد أخرى، غير أن (غيْبة) تعيش في ساعة الصفر منذ ولادتها؛ جوهرها لا يتغير، مظهرها لا يتطور، رصيدها لا ينفد، تجارتها لا تخسر، والهدوء عندها يفوق الوصف، فحتى القطط لا تتعارك قرب بابها.. والأوزاغ تخاف الدخول إلى بيتها لأنها ستخرج بأذناب مقطوعة.


ميسلون هادي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى