فاتن فاروق عبد المنعم - ميثاق العبودية

سعينا على هذه الأرض المنداحة محسوب بدقة يتراوح بين التخيير والتسيير، لكل منا ورده وله مريد يجثو على ركبتيه بين يديه امتثالا، وكلنا يختار مريده على قدر علو همته، هذا هو الميزان الذي به نقاس، من بني جلدتنا صقور مستنفرة تجول بعيونها الثاقبة على الخريطة تجري مسحة على تلك الحواضر التي سطرت أمجادا بلغت الثريا وهي التي كانت مريدهم ومقصدهم ذات يوم فبلغوها بعد أن رقوا إيمانيا مرقى اليقين، فلما زاغت القلوب وتشتت الأذهاب وغابت الأهداف العليا تقزموا وتقطعوا حتى أصبح مريدهم كسرة قديد وشربة ماء، فما كان من الصقور إلا العزم على نفض الخنوع و شحذ الهمم لتعود فيصبح مريدها الثريا، كأن الله اصطفاهم كي يزيحوا ركام الزيف وأكام الهزيمة ويستنهضوا الهمم مرة أخرى ويطلقوا شرارة بدء التحرير بالقضاء على نمور من ورق ظننا أمدا طويلا أنهم مانعتهم حصونهم.
قبل مائة عام أبرم عباد الشيطان ميثاقا لعبوديتنا لهم قسرا في السر والعلن، دبجوا ديباجته بنهج قشيب لم نألفه من قبل، بعد أن غبنا عن الركب ردحا من الزمن، فتحنا أعيننا على جديد لم نره من قبل فانتابتنا ملامح الدهشة والانبهار بهذا الجديد الذي تفيض به المطابع والصور والشاشات ولا تغيض بأنواعها القديم منها والحديث ليأسرنا رونقه ورشاقته حتى ساقونا عراة لا يطرف لنا جفن بعد أن أحنينا هاماتنا لغير الله وجفت دماء وجوهنا وأصابنا الذبول والأفول، فتغشانا فرسانا كفرسان الأساطير يجيدون الإتيان بالقلعة بجانب البحر، يمزقون غير هيابين ميثاق العبودية على مرأى ومسمع من الجموع الهادرة لبني آدم كي نعيد اكتشاف أنفسنا مرة أخرى فأسقطوا فسطاط الشيطان الهش بكل مكوناته وتفاصيله سقوطا مدويا وكأنه بيتا من بيوت العنكبوت وأخذ الطوفان عدوهم وهم ظالمون، فلله دركم.
كان لزاما عليهم خلق أرضا جديدة، براح جديد، ينداح لهم، بها ينقضون التيه الجبري، ويفضون بكارة الحرية الموصدة، يستدعونها إلى ديمومة الممارسة، كالحوريات لا تملهم ولا يملوها، ذلك الموطيء المختار الذي اصطنعوه على أعينهم فجعلوا عدوهم يرى العذاب وتتقطع به الأسباب، طليعتنا التي اصطفاها الله اختانوا عدونا ولم يختانوا أنفسهم، سيماهم في أفعالهم كما هي في وجوههم، تتنزل عليهم سحائب الرحمة، يشقون دربهم بصبر وأناة كي يبهروننا ويقهروا عدوا ضاق به الغرور ذرعا، مثل دمية من المطاط الرقيق بحجم ديناصور يكفي ثقبها بإبرة صدئة فينهار بنيانها الزائف لتصبح أثرا بعد عين، امتثلوا لأمر خالقهم ودخلوا عليهم الباب، ولكن قبل انطلاق الشرارة أعدوا عدتهم في الخبأ متخذين من الهادين الأول مشعل هداية ينير أنفاقهم.
عالمهم الموازي بدأ بحلم اتسع له الأفق، مسرح كل حلم، فرأه قريبا ورآه آخرين بعيدا بل مستحيلا، ثم الرسم على ورقة بيضاء، انتهكوا بياضها بأقلامهم البسيطة مثل كل أدواتهم، بسيطة محدودة، تلك التي لم يستطيعوا الحصول على ما هو أعلى منها، دبروا أمرهم بليل بعيدا عن الأعين، فهذه أرضهم ولكن عدونا وعدوهم ضيقها عليهم بما رحبت، وحصدوا الخزلان تلو الخزلان حتى أيقنوا أن بني جلدتهم يبتغون عندهم العزة، يرون أنفسهم مدركون بينما في حقيقة الأمر هم مكبلون بأصفاد الران والأقفال على قلوبهم، أقعدتهم وأعجزتهم، القلوب هي موطن الهمة التي إذا تعلقت بالله صفت وسمت واقترنت بالثريا، وإذا تعلقت بغير الله تدنت وورثت بلادة الفهم وضحالة العلم ورسوخ الجهل وتحقرت واقترنت بالثرى، وهم لم يقبلوا بأقل من الثريا كي يقاوموا دناءة الهمم التي أوردتنا موارد التهلكة، الكلفة باهظة والقعود كلفته أبهظ.
ذلك الفتى يمضي مع والده منذ سنوات عمره القليلة التي بلغ فيها السعي وإخوته وجيرانه وكل سكان حيهم، أفواجا أفواجا من أكناف مسرى نبينا الذي بارك الله حوله إلى المساجد لصلاة الفجر، أولى أمارات علو الهمة، علق في جب اللاوعي العميق لديه دبيب نعالهم وحفيف ملابسهم وأصوات التسابيح والتهليل أثناء السير كأنهم يسعون إلى صلاة الجمعة، كانوا يشعرون أن الملائكة تحف شغاف قلوبهم، فإذا بلغوا المسجد اصطفوا للصلاة ثم الذكر ثم درس العلم الشرعي وهذا الأخير فرض عين على كل منهم كي تشف النفوس وتزول عن أعينهم الحجب التي تراكمت على قلوبهم فيروا ما لا يراه غيرهم، ذلك أن المؤمن يرى بقلبه قبل عينيه.
والده الأربعيني مع صحبته المختارة يعمل في غسق الليل في حفر الأنفاق، خبأ يختبئون فيه، بأدوات بدائية شاقة مجهدة، تلك الأرض المصمتة بمنعهتا الربانية يتحسسون صلابتها قبل أن يفرغوا حشاها بصبر وأناة، يصنعون لهم موطيء قدم فيها، تحديا لصلف عدو غشوم، هذا العمل الشاق قوى الأجساد وخشن الأيدي وأغلظ جلدها وأبرز عضلات الأذرع والسيقان وأخمص البطون، مات والده فورث عمله وهو في الخامسة عشر من عمره اقترن بعالم هؤلاء الرفاق المختارون كي يصنعوا السفينة مرة أخرى فيسخر منهم الوالغين في الفتن كما سخر قوم نوح منه وهو يصنع سفينة في الصحراء، يوسعون المدى بلا نهاية، يتسرون بتلاوة القرآن بالقراءات السبع، كل منهم بحسب ما اختار بأصوات جلت وتجلت، ولا مانع من الدروس والعظات أثناء العمل الذي لا يتوقف لزوم الحفاظ على ديمومة غسل القلوب، يطربون أسماعهم بما يختارون من الشعر الذاخر، منهم من يقطره من معينه الذهبي بعاطفة مشبوبة تواقة إلى الحلم الذي رسموه بأقلامهم، ومنهم من يستدعي نتاج شعراء آخرين فتنوا بجمال منطقهم، خمس سنوات من الحفر مارسها الفتى مما أصبح في ظهره علامة، انحناء يقترب من الحدب.
في تلك السفينة، الأنفاق، حياة آهلة، نهج قشيب خلقوه في زمن الغربة الثانية، مرتدون لمسوح السلف الصالح، شباب نالوا حظا وافرا من التعليم ترجموه في تدبيج الخطط وصناعة أسلحتهم بإمكانيات بسيطة، يعلنون بدء نهاية قرن الشيطان الذي أثقل كاهل الأمة، وآخرين نالوا حظا أقل من التعليم ولكنهم يشيدون معا بنيانا مرصوصا يشد بعضه بعض، خلية متينة القوائم والأركان، يوقنون أن لا غنى عن هذا وذاك فلكل منهم دور يقوم به، نفوا عن ألسنتهم العجمة التي فرضها علينا المحتل لدرجة أن منا من يفخر بأنه لا يجيد العربية مبطنا احتقارها بينما هو لا يعلم أنه دون الحقارة نفسها بملايين السنين الضوئية، هذه الأنفاق كخلية نحل وهم أعضائها، لكل منهم دور مهم، ولم يدنسها آخرون ممن اختاروا تدني الهمة، إنها فكرة عمل البطارية الكهربائية بقطبيها السالب والموجب داخل محلول، فإن كانت مادتا القطبين غير نقية مخلوطة بمواد أخرى تحولت هذه المواد إلى أقطاب ثانوية تضعف من قدرة الخلية، لذا الحرص على نقاء العنصر مطلوب وهو ما فعلوه ولم لا وهم ينشدون الكمال، فاختلعوا أنفسهم من وهدة الفتور وانتقوا أعضاء خليتهم بمقياس دقيق يظهر نقاء كل عضو فكان النجاح المبهر حليفهم بهم يشفي الله صدور قوم مؤمنين رغم الضحايا، رغم بطش عدو لا يرقب فيهم إلا ولا ذمة، إنهم القابضين على جمر الصبر في زمن الفتن، ولكنهم يعلموا أن عدوهم يألم كما يألمون، فلماذا يحجموا عن إيلامهم؟! إنهم مفتاح كل خير ومغلاق شرور كثر عصفت بنا وأدمت قلوبنا، إنهم الطير الأبابيل، بدأوا بالحجارة والزجاجات الحارقة ثم صورايخ بدائية الصنع قال عنها أحد المنافقين المخنثين والذي نفق حديثا أنها تشبه "لعب الأطفال" تضرهم ولا تفيدهم، وأين هم من التقدم الهائل للعدو، وما كان ربهم نسيا فلم يتوقفوا عن تطوير أدواتهم فكان الانتصار الدائم حليفهم، فأثلجوا صدورنا، حياهم الله.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى