المقاهي عبير درويش - مقاه صنعت أدباء .. أدباء صنعوا مقاهي

في مقهى «ريش» أنتجت كثير من الكتب وفي مقهى «الحلمية» انقسم الشعراء بين مؤيد ومعارض لإمارة شوقي للشعر
في أغلب المدن العربية والعالمية، هناك مقاه صنعت أدباء، ومقاه صنعها الأدباء وكانت محور ابداعاتهم.
«الشرق الأوسط» تجولت بين هذه المقاهي وروادها بحثا عن الأجابة عن ذلك السؤال: كيف يمكن للمكان أن يصنع موهبة وينمي تجربة فيولد أديبا هنا وشاعرا هناك؟ وما الذي يتحدث فيه هؤلاء الأدباء حينما يتواجدون جميعا بالمقهى، كيف كانت حياتهم وعلاقتهم ببعضهم وبالبشر من رواد المقاهي، وكيف أثر كل هذا في ابداعاتهم؟
* بيت الأدباء
* في ميدان طلعت حرب بوسط القاهرة شيد مقهى «ريش» عام 1908، أحد الرعايا الفرنسيين وقتها ويدعى هنري بير، على غرار اشهر مقاهي باريس التي مازالت قائمة الى الان وتحمل اسم «كافيه ريش» وبنفس طرازها المعماري المميز وديكوراتها أيضا، والغريب ان اسم «ريش» تحمله عدة مقاه في أكثر من مدينة عربية، مثل بنزرت بتونس والقسطنطينية بالجزائر وكزابلانكا بالمغرب، وتتشابه في طرزها المعمارية وديكوراتها مع المقهى الموجود في القاهرة.
وفي عام 1919اشترى مقهى ريش ميشيل بوليدس من أشهر تجار اليونان بالقاهرة وكان يهوى الأدب والفن، فأجرى توسعات بالمقهى وأقام مسرحا أمامه وأحاطه بحديقة بها مكان ثابت لعزف الموسيقى، تعزف فيه الموسيقى العالمية والعسكرية في أوقات محددة، فأصبح المقهى مكان تجمع الفنانين والأدباء والشعراء والمثقفين فعلى مسرح كافيه ريش عرضت الكثير من الروايات لعزيز عيد ومحمد عبد القدوس، وغنت أم كلثوم أولى حفلاتها عام 1921، وفي الاربعينيات شهد المقهى الاتفاق على انشاء أول نقابة للموسيقيين بالعالم العربي.
ويقول مجدي ميخائيل المدير الحالي للمقهى وأول مالك مصري لها: على مقاعد هذا المقهى جلس الضابط جمال عبد الناصر يخطط لثورة يوليو، وكتب على احدى طاولاته الشاعر العراقي عبد الوهاب البياتي الكثير من اشعاره، وفي الاربعينيات والخمسينيات كان أشهر رواده طه حسين والعقاد ولويس عوض وسليمان نجيب وتوفيق الحكيم، وفي الستينيات كان أشهر رواده ادوارد الخراط ونجيب سرور وجمال الغيطاني والشاعر أحمد فؤاد نجم وأمل دنقل فقد كان المقهى بمثابة مكان اقامتهم، فإذا أراد شخص مقابلتهم كان عليه ان ينتظرهم هنا، وكتب هؤلاء الكتاب والشعراء الكثير من كتبهم واشعارهم عن هذا المقهى ودوره الثقافي والسياسي وما يدور فيه من مناقشات، منها كتاب نجيب سرور الذي صدر عام 1977 تحت عنوان «بروتوكولات حكماء ريش» وللشاعر أحمد فؤاد نجم قصيدة شهيرة عن المقهى قام بتلحينها وغنائها الشيخ إمام عيسى.
ويروي الروائي محمد البساطي ذكرياته مع مقهى ريش.. قائلا: انتقلنا الى مقهى ريش مع انتقال أديبنا نجيب محفوظ اليها، فقد كانت جلساته في بداية الستينيات في كازينو صفية حلمي بميدان الأوبرا في ذلك الوقت، وكنت قد قصدت هذا المكان لأول مرة لأرى نجيب محفوظ، ولم أكن قد نشرت أول أعمالي بعد، وعلمت انه يذهب هناك كل يوم جمعة، وأخذت أتردد على المقهى وألف الى الناس، وبعدها بدأت في نشر أولى قصصي بملحق جريدة المساء الذي كان يشرف عليه عبد الفتاح الجمل وكان دائما ما يحصل على القصص والأشعار من أصحابها أثناء جلوسنا على المقهى، ويأخذنا النقاش وننتقل الى مقهى الريحاني بشارع عماد الدين ونقابل هناك يحى الطاهر عبد الله، وأمل دنقل، وابراهيم أصلان، ثم تعرفنا على مقهى «ايزافتش» بميدان التحرير، وكنا نسمع أن صاحب المقهى يوغسلافي الأصل ويرون عنه بعض الحكايات، حتى انني استوحيت مشاهد كثيرة من وجودي في هذا المقهى وصاحبها في روايتي «المقهى الزجاجي». ويكمل البساطي: «انتقل نجيب محفوظ الى ريش، وكانت له جلسة كل خميس هناك يرافقه فيها ثروت أباظة، وكان أجمل ما في هذا المقهى انها مفتوحة على الشارع من خلال ممر طويل، واذا أراد أي شخص رؤية أي كاتب أو شاعر فعليه أن يسأل عنه في ريش فإن لم يكن موجودا دلوه على مكانه، فأصبحت ريش بمثابة بيت للمبدعين، وأصبح العاملون بالمقهى من أهلنا، أحيانا لا يكون مع أحدنا نقود فيطلب بعض المشروعات وأطعمة ويسدد ثمنها عندما ينشر قصيدة أو قصة أو غير ذلك. ومن الطريف أن الكتاب والأدباء الجدد لم يتشجعوا على الدخول الى ريش قبل أن تنشر لهم بعض الأعمال، فكان بعضهم يقترب من بعيد لينظر خلسة الى الجالسين في المقهى ويراقبهم فإذا ما نشر أول أعماله تشجع للدخول للمقهى، ومن هؤلاء جار النبي الحلو وسعيد الكفراوي، ولم تكن ريش قاصرة على الرجال فقط فكان هناك عدد من المثقفات أيضا يأتين الى ريش خاصة يوم الخميس عندما كان يأتي نجيب محفوظ، ومنهم عطيات الأبنودي والناقدة وداد حامد الباحثة في الفنون الشعبية.
وأتذكر يوم ان قرر الرئيس السادات عقد معاهدة السلام مع اسرائيل وكتب ابراهيم منصور على جدران المقهى «شعب مصر لا يؤيدكم في الذهاب للقدس» وكانت المظاهرات تملأ الجامعات، وفي هذا اليوم قابلت ابراهيم فتحي وتوجهنا لنجلس بالمقهى، وهنا وجدنا الشرطة بانتظارنا بسبب ما كتبه ابراهيم منصور.
ويتابع البساطي ساهمت مقهى ريش في اصدار مجلة جاليري 68، فعلى مقاعدها فكرنا في اصدار مجلة ننشر فيها ما يكتبه جيلنا منذ بداية الستينيات وكان بعضنا قد بدأ صيته يذيع، فجمعنا من كل منا مبلغا من المال لاصدار المجلة التي اسميناها «جاليري 68» وجعلناها مجلة غير دورية حتى لا نحتاج الى تراخيص لا صدارها، وأوكلنا أمانة صندوقها الى جمال عطية ابراهيم، لأنه كان موظفا أيضا ولا يخشى من احتياجه للنقود مثلنا كلما تأخر نشر قصيدة أو قصة، واخترنا لهذه المجلة هيئة تحرير مكونة من ابراهيم منصور، وادوارد الخراط، وأحمد مرسي الشاعر والرسام، وصدر من المجلة سبعة أعداد فقط وتوقفت لأن نقودنا القليلة لم تقو على الصمود أمام مطالب الطباعة والتوزيع للمجلة.
ويكمل البساطي: كنا اذا أردنا مقابلة أنور المعداوي أو رجاء النقاش أو عبد القادر القط أو أبو المعاطي أبو النجا نذهب الى مقهى «باراداي»، حيث يجلسون هناك يتناقشون في الأدب ويحكون أخبار الشخصيات العامة والسياسية وما لا يستطيعون كتابته، وكنت أحيانا أذهب بقصة لي نشرت ليقرأونها فأجدهم قد قرأوها، وكانت المقاهي الأدبية بالنسبة لي ملهمة لكتابة عدد من قصصي ورواياتي، ففي مجموعتي القصصية «ساعة مغرب» التي صدرت عن دار الهلال هناك قصة بعنوان «حديث آخر الليل» وصفت فيها مقهى الريحاني وصفا دقيقا، وقصة أخرى بعنوان «أنت أيضا» تدور أحداثها في مقهى البستان الذي يشهد كل أحداث القصة من بدايتها حتى نهايتها، أما رواية «الليالي الأخرى» فكان مركزها الرئيسي مقهى ريش تخرج منه الأحداث وتعود اليه. وفي نظر الكاتب محمد مستجاب المقاهي الأدبية مثل البكتريا منها النافع ومنها الضار، فسادة المقاهي قد لا يكون لديهم بيت ينامون فيه عندما تغلق المقاهي أبوابها، وأعرف أحد الشعراء الكبار كان يبحث عن مقهى تسهر حتى الصباح فلا يجد غير مقهى محطة القطار، لأن ظروف الحرب في الستينيات والسبعينيات كانت تحظر على المقاهي ان تبقى فاتحة أبوابها بعد منتصف الليل، ولم يكن مسموحا سوى لمقهى محطة القطارات بالبقاء مفتوحة طوال الليل لخدمة رواد القطارات التي لا تنقطع، لكن يبقى أفضل ما في المقاهي الأدبية هو معرفة أخبار الناس التي لا يصلح الكتابة عنها أو نشرها، فالحياة الخاصة للنجوم والأدباء والسياسيين مليئة بالمحزن والمفرح الذي يمكن الكتابة عنه بشكل آخر.
* مقهى الأفغاني
* بالاضافة الى مقهى ريش اشتهرت مقهى «البوستة» بميدان العتبة بالقاهرة، وترجع شهرته الى الشيخ جمال الدين الأفغاني الذي اتخذه -خلال فترة اقامته بمصر- مكانا للقاء تلاميذه ليتمكن رواد من المقهى الاستماع الى آرائه وآراء تلاميذه والمشاركة في الحوار، فقد كان الافغاني يجلس في صدر المقهى وتتألف حوله نصف دائرة من تلاميذه الذين يتسابقون الى القاء اسئلتهم عليه، ويروي انه كان يمضي الليل بالمقهى حتى طلوع الفجر فيعود الى داره بعد أن يدفع لصاحب المقهى ثمن كل ما طلبه جلساؤه من مشروبات، وكان من بين هؤلاء التلاميذ الشيخ محمد عبده، والشاعر محمود سامي البارودي، والسياسي سعد زغلول، وعبد الله النديم المناضل الوطني، وابراهيم الهلباوي ويعقوب صنوع الذي أدخل فن المسرح الى مصر.
وهناك أيضا مقهى دار الكتب الذي أخذ شهرته من ركن الشاعر أحمد رامي حيث كان أبرز رواد المقهى من موظفي دار الكتاب التي تقع أمام هذه المقهى، فقد كانوا يتسللون الى المقهى من العاشرة والنصف الى الحادية عشرة صباحا، وهي نصف الساعة المخصصة للراحة، حيث لم يكن مسموحا لهم باحتساء الشاي أو التدخين داخل دار الكتب، وكان الشاعر أحمد رامي من موظفي دار الكتب، وكان له ركن خاص يتبادل فيه الضحكات والكلمات مع أصدقائه رواد المقهى من موظفي دار الكتب، ومن قبله كان الشاعر حافظ ابراهيم يجلس على نفس المقهى غارقا في كتابة قصائده، واعادة تبديل بعض مقاطعها وكلماتها، ثم يطلب من الرواد الهدوءالتام ليقرأها على اصدقائه أمثال عبد العزيز البشري وحفني ناصف والبابلي وغيرهم.
* كتابة المقاهي
* وحول صخب المقاهي وهل يصلح لالتقاط لحظة الكتابة والاسترسال فيها يقول الروائي ابراهيم اصلان هناك ثلاثة أنواع من المقاهي، الأولى هي مقاهي العابرين الموجودة بوسط القاهرة والميادين العامة والشوارع الرئيسية يجلس عليها من ينتظر موعدا، أو طالب الراحة بين الذهاب الى أكثر من مكان في نفس اليوم، والثانية هي المقاهي الشعبية الموجودة داخل الأحياء الشعبية وهي ليست للعابرين، وانما للمقيمين داخل هذه الاحياء والمعروفين لبعضهم البعض ولصاحب المقهى، ويقصدها يوميا عدة أجيال من سكان المنطقة، وتعتبر بمثابة منتدى اجتماعي يلتقي فيه جيل الكبار وجيل الشباب يتبادلون الحديث حيث لا تتحمل البيوت استقبال هذه المنتديات يوميا، وهي تقوم بدور لا يقل خطورة عن مقاهي المثقفين وهي النوع الثالث من المقاهي الذي يجتمع فيه الأدباء والكتاب والمثقفون مع القراء، ومن تلك المقاهي مقهى ريش الذي اشتهر بيوم الجمعة ولقاء الاستاذ نجيب محفوظ، حيث يتبارى المثقفون يوميا في اكتشاف الكتب وقراءة ما كتبه أحدنا ومناقشته فيما كتبه، حتى ان المثقفين كانوا ينتهون من قراءة الروايات والشعر والقصص قبل أن تطبع وتنشر وكان الجميع يتحمس لما يكتبه أحدنا كما لو كان من انتاجه، وكنت التقي كثيرا ابراهيم منصور وجميل عطية ابراهيم عندما بدأت في نشر أولى كتاباتي، وفي نفس الوقت في بداية الستينيات كنت من المترددين على مقهى «ايزافتش» الذي كان يؤمه مجموعة من الأصدقاء يغلب عليهم الطابع السياسي، والمقهى يقع بميدان التحرير بوسط القاهرة، أما المقهى الذي كتبت عليها أغلب رواية «مالك الحزين» فمقهى «فنكس» بشارع عماد الدين بالقاهرة الذي كنا نشهد فيه لقاء شبه يومي مع الراحل عبد الفتاح الجمل ومحمد البساطي واشتهر المقهى بيوم الأحد، حيث يجتمع عدد كبير من الأدباء العرب والمصريين للنقاش والحوار وعرض انتاج كل منا على الآخر.
ويتابع أصلان وبالنسبة لي كان مقهى «فنكس» قريبا من مبنى وزارة الاتصالات حيث كنت أعمل موظفا هناك، وكنت أسكن وقتها في حي شعبي يملأه الضجيج، ولذا كان المقهى بالنسبة لي مكانا مناسبا للكتابة، وهذا المقهى كان يتسم بالاتساع وقلة رواده العاديين، ويفصل الجالس داخل المقهى عن الحركة خارجه حاجز زجاجي، وكنت اختار لنفسي منضدة بعيدة بالقرب من الزجاج لأبدأ في الكتابة، فالحركة خارج الزجاج تقطع صمت المكان بالداخل، وهذا يستنفر عندي احساس المقاومة التلقائية لردع هذا الذي يهدد لحظة التركيز في الكتابة، مثلما يجلس الكاتب على شاطىء البحر، حيث يقطع صوت الماء حاجز الصمت، فيجعل الكاتب يركز أكثر في الكتابة لمقاومة ذلك الشيء الذي يهدد لحظة التركيز.
* أدباء عرب في مقاهي القاهرة
* لفتت مقاهي الأدباء بالقاهرة نظر الكثير من الأدباء والمؤرخين للكتابة عنها منهم الأديب التونسي «رشيد الزواوي» الذي صدر له أخيرا كتاب تحت عنوات «مقاهي الأدباء في الوطن العربي» عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، يقع في 235 صفحة، وهو موسوعة تحكي ظاهرة تلك المقاهي التي تحولت الى منتديات تجمع الأدباء والفنانين ويلتقي فيها الأدب النخبوي بالأدب الشعبي، وتنطلق فيها التيارات الأدبية والفكرية والفنية المختلفة، والتي يصفها الزواوي بأنها مكان المجتمع الذي ينشد دائما مصيره بعيدا عن المؤسسات، ويقدم الكتاب للقارئ أديبنا نجيب محفوظ الشاهد على هذا العصر وأحد أهم صناع تلك الظاهرة والمشاركين فيها. وفي مذكرات العلامة السوري محمد كرد علي التي كتبها عن حياته صفحات عن ندوات الأدب في مصر، يحكي فيها عن مقهى «متانيا» المواجهة لحديقة الأزبكية وسور الكتب المعروف آنذاك بسور الازبكية، والتي كان يلتقي فيها مع من سماهم جماعة دار العلوم كل مساء حيث يسمر أحمد السكندري ومحمد الخضري وعبد العزيز شاويش وحفني ناصف ومحمود دياب وحسن منصور ومحمد عبد المطلب وغيرهم من المثقفين، حيث كان يدور الحديث عن مسائل في الدراسات الأدبية واللغوية والتاريخية، ويذكر محمد كرد على أن التاريخ الأدبي حافل بالكتابة عما يدور في المقاهي، ولم يكن ما كتبه أبو حيان التوحيدي في كتابه «الامتاع والمؤانسة» غير اقتباسات من مجالس السمر التي كانت تدور في دار الوزير في قضايا الفكر والأدب، وحرص الأمير على مسامرة ذويه في تلك الليالي التي شهدها أبو حيان وسجل خلاصتها بأسلوبه البارع، ويتميز كتابه بانتقاله من موضوع لموضوع كما يحدث في المجالس عادة حيث يحكم الانتقال من موضوع لموضوع التلقائية غير المقصودة.
أما المقهى الثاني الذي تحدث عنه محمد كرد علي فكان مقهى «السلام» بشارع ابراهيم باشا بوسط القاهرة، والذي كان يحفل كل مساء باعضاء مجلة «البعكوكة» الأدبية، وهي جماعة، كان يرأسها وحيد بك الأيوبي، وتتألف جماعة المقهى من محامين واطباء واعضاء في مجلس النواب ورؤساء دواوين وصحافيين، ولا يجتمع فيها أقل من ثلاثين رجلا يوميا للتندر وتناقل الأخبار وأمور اللغة وغيرها.
* ليالي الحلمية
* ربما لم تكن الأحداث التي كتبها الكاتب السينارست أسامة أنور عكاشة في المسلسل التلفزيوني «ليالي الحلمية» بعيدة عما كان يحدث بالفعل في مقهى الحلمية التي كانت احدى ابطال المسلسل بحق، والتي شهدت وقائع هامة في التاريخ المصري والعربي منذ مطلع القرن العشرين.
يقع مقهى الحلمية في شارع محمد علي الصاعد الى قلعة صلاح الدين واعتبر ناديا أدبيا وسياسيا معا، فقد كان الشعراء حافظ ابراهيم ومحمد عبد المطلب وحسين شفيق المصري وأحمد نسيم من أهم روادها قبل 1919، ينشرون الشعر ويرون الطرائف، حتى هبت ثورة 1919، وصارت السياسة شغل الناس فارتفعت الخطب بالمقهى لمهاجمة الاحتلال، فيأمر الانجليز باغلاق المقهى، مما أثار الشاعر محمد الهواري في كتابة قصيدة يرثي فيها المقهى الذي تحول الى ناد في منطقة الحلمية نفسها قائلا:
سل الحليمتين ومــا قضـــــينا هنالك من ليالينا العـذاب وكن في دجــــاها أو ضحاهــــا كزهر الأفق أو زهر الرواى تمر الثـــــورة الكبرى علينــــا فنغشاها مع الأسد الغضاب ولا نخشى السهام ولا العوالي ولا الجند المدجــج بالحـــراب فنقضي حق مصـر وقد دعتنا ونرجع للحديث المســـتطاب فســـائل نادي الآداب عمـــــــــا تضمنه من الأدب اللبـــــاب قضينا ربع قرن في حمــــــاه نهبنا صفـوة أي انتهــــــــاب وينتقل الأدباء والشعراء الى مقهى آخر بالحلمية ويتزايد عددهم، ومنهم حسن الغايانتي وزكي مبارك وأحمد شفيع السيد وأحمد الزين، وكلهم يمثلون لونا خاصا من ألوان الشعر، فهم انصار الديباجة البيانية وعشاق الجزالة أحيانا والرقة أحيانا أخرى، وحين تحدث الناس عن مبايعة أحمد شوقي بإمارة الشعر انقسم أدباء الحلمية بين مؤيد للمبايعة يتزعمهم محمد عبد المطلب وبين معارض لذلك ويتزعمهم محمد الهواري، ثم ظهرت جماعة أبولو وناوأت انصار القديم، فناوأها شعراء الحلمية فكثرت الخصومة بينهما والأخذ والرد وسطرت المجلات والصحف الأدبية ألوانا من الشعر المهاجم والشعر المدافع بين الفريقين.
* المقاهي الملهمة
* وحول سر ارتباط المثقفين والأدباء بالمقهى يقول أسامة أنور عكاشة: المقاهي أماكن محببة جدا بالنسبة لي، وبالنسبة لأي كاتب أستطيع أن أرى اشكالا من البشر لا يمكن رؤيتها في مكان آخر، المقهى مليء بالقصص والحكايات، تنويعة بشرية شديدة الجاذبية، ولهذا فالمقهى تصنع جزءا كبيرا من تجربة الكاتب أو الفنان لأنها مادة سخية للشخصيات والأحداث والحكايات، أما بالنسبة للمقاهي الأدبيية بشكل خاص، والتي كنا نجوبها يوميا في الستينيات والسبعينيات ما بين ريش ذات الشخصية الفريدة، وانديانا وايزافتش وعلي بابا، وكازينو صفية حلمي كل يوم جمعة، حيث نجتمع مع نجيب محفوظ، ومقهى عبد الله بميدان الجيزة، و«سان سوسي» نتقابل فيها مع محمود السعدني وزكريا الحجاوي وأنور المعداوي وسليمان فياض، وغيرهم، وفي بداية حياة الكاتب والفنان تكون المقهى بمثابة فترة تكوين مهمة بالنسبة له، يقترب من الكتاب الكبار بخبراتهم الأدبية والفنية ويتعلم منهم، ويستطيع أن يقرأ ما كتبه عليهم ويعرف آوراءهم فيما يكتب، ويستطيع أن يستمع لما يكتبه زملاؤه من جيله وما يكتبه الرواد، كنا جميعا نفعل ذلك، أمل دنقل، وعبد الله خيرت، أما يحيى الطاهر عبد الله فكان يحفظ قصصه ليسردها لنا، دون أن يقرأ من أوراق، وهذا بعد ثالث للمقهى، فهي تتيح للكاتب تلقائية تلقي عمله لأول مرة من الجمهور العادي من رواد المقهى، ومن جمهور المتخصصصين من الكتاب والأدباء، اى جانب المثقفين، وردود أفعال كل هؤلاء يمكن أن تجعله يعيد النظر فيما كتبه، بالتعديل أو التغيير.
ويتحدث الناقد والمفكر محمود أمين العالم علاقته بمقاهي الأدباء قائلا: المقهي هي المكان المفضل لتجمع الكتاب والأدباء فأغلبهم ممن لا يمتلكون ثمن الاشتراك في نوادي الاغنياء، وعلاقتي بالمقاهي بدأت من خلال هوايتي كلاعب شطرنج محترف، ثم تعرفت على مقهى «عبد الله» حيث كنت أجلس مع الدكتور عبد القادر القط، وفي مقهى «ريش» كنا نلتقي مع الأدباء والكتاب، في جلسات مفيدة، تعرف الأدباء بعضهم ببعض، وينتج عن هذا التعارف والتآلف توجهات ثقافية متجانسة أحيانا، وتوجهات ثقافية مختلفة في أحيان أخرى، وأحيانا تتحول الاختلافات في الرؤى الأدبية والفنية الى خلافات حادة في صورة مساجلات أدبية، وفي الحالتين تساعد هذه التجمعات الثقافية في المقهى على اثراء الحياة الأدبية والثقافية بالجديد في الاتجاهات والرؤي.
ويتابع العالم هذه الألفة والمودة الثقافية ـ رغم الاختلاف ـ تلهم المبدع أو الأديب أو الكاتب، فأجواء الحرية هي التي تصنع الابداع، فعندما يرى أحدنا الآخر وهو يسمعنا قصيدته، أو يقرأ علينا ما كتبه نهرع اليه لنستفيد منه ونفيده، فالأدب رؤية جديدة للعالم، وهذه الرؤية الجديدة تلهم الآخرين لرؤية أخرى، وهذا ما كان يحدث في تجمعات الأدباء بالمقهى، فالابداع الجديد لأحدهم يفجر الطاقات الداخلية للابداع عند الآخر.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى