خرج الرجل من بيته دون أن يخبر زوجه بوجهته، وصل أمام الباب ورن الجرس الكهربائي، يُمسك بكيس بلاستيكي به أدوات وظيفته الجديدة، نظر الابن من شرفة البيت في عجب شديد وسأل:
من أنت؟!
بصوت أوهنه الزمن أجاب:
المزيّن.
سأله في عجب مستغربًا:
ومن طلب منك الحضور؟!
بسرعة بديهته أجاب :
أخوك الذي يقيم في القاهرة توصَّل بي هاتفيا.
نزل الابن سريعًا، واختصر السلم الطويل في قفزتين، فتح الباب ولأول مرة يجيب بالإيجاب:
نعم، استيقظ قبل قليل.
صعد الرجل بطيئًا؛ بعدما انتصف عقده السادس من العمر، دخل إلى غرفة الأب وقال مشيراً بإصبعه إلى الابن:
أستأذنك أن تجلب لي هذا الكرسي الخشبي الثقيل؛ ليكون قريبًا من مقبس الكهرباء.
بصوت جَهوَري صاح الابن بانفعال شديد قائلاً:
اصبر -يا أخي- حتى أحضر لك ما أفرشه على الأرض، هل تظنها زريبة؟!
ذهب يبحث عن ملاءة أو مفرش فلم يجد؛ وعاد بأوراق من جريدة قديمة يحتفظ بها والده؛ حتى يتذكر أيامه الأخيرة في منصبه الوظيفي.
أخرج المزين فوطة صغيرة لفها حول رقبة الشيخ باحترافية، كما التقط في خِفة معجون حلاقة الذقن وماكينة الشعر الجديدة، ثم شرع في أداء عمله، كأنه يمارسه بحب وسعادة منذ عقود. شعر بالضيق الشديد من كثافة شعر رأس هذا الشيخ الكبير ولحيته والتهاب فروة رأسه؛ فظلَّ يهمس ويتمتم بكلمات حاول الابن جاهداً أن يفهمها، لكن دون جدوى!
وقف الابن يراقب الحلاق، وشعر بالدهشة حين سأله:
هل عندك مقص يا ابني؟
تعجب الابن في ذهول قائلًا:
ابنك؟! حلاقين آخر الزمان! وهل يعمل الحلاق دون مقص؟! أين معداتك؟!
أجاب الرجل معتذرًا :
نسيتها، لا تؤاخذني.
زفر الابن بضجر ومد يده بالمقص قائلا:
تفضل، ولا تنس مرة أخرى!
بدأ الحلاق في إزالة شعر رأس الأب، ولم يستطع أن يكتم ضحكه؛ مما أثار غضب الابن ودهشته، وسأل:
ما الذي يضحكك يا أبي؟!
باغته الحلاق حين قال:
دعك من ضحكه، أخبرني أخوك هاتفيًّا أنك ستدفع أجر الحلاقة خمسة جنيهات.
باندفاع وثورة قال:
ماذا تقول؟! هل تظن أننا نتسول؟!
مدَّ يده بورقة من فئة المائة جنيه، والتقطها الحلاق من يده، وقبَّلها قبل أن يضعها في جيبه، ويمطر هذا الشيخ بالدعوات قائلًا :
- ما يدخل جيب الأسد لا يخرج منه أبدًا.
استيقظت الأم العجوز بمجرد سماع صوت الحلاق الذي تألف نبرته للغاية، رحَّبت به في حفاوة؛ فتعجب الابن، لكن العجب زال عندما قالت:
إنه عمك الشيخ إبراهيم، صديق والدك وزميله في عمله قبل التقاعد!
اندفع مبررًا ما حدث وقال:
هو من قال إنه حلاق!
بلهجة آمرة عاتبت ابنها قائلة:
اذهب واصنع له كوبًا من الشاي أو القهوة.
اعترض الشيخ إبراهيم قائلاً:
لا أشرب أي شيء؛ فقد منعني الطبيب منها. وعلى العموم، يا أفندي، لو كنت تفهم في أصول الضيافة؛ إذًا لكنت سألت من البداية!
أجاب مدافعًا عن نفسه:
أنت لم تقل إنك صديق والدي!
وضع يده على الجرح قائلا:
لو كنت قلت لمنعتني كما تفعل مع كل أصحابه!
شعر الابن بالضجر من طريقة كلام الشيخ إبراهيم وقال:
لماذا تتحدث معي بعصبية شديدة هكذا ؟!
بانفعال شديد وبصوت مرتفع أجاب:
لأنه من المستحيل أن يتخفى كل أصحابه في زي حلاق حتى يتمكنوا من زيارته!
شعر الابن بالارتباك وقال معتذرًا:
أنا آسف.
وقف منتصبًا، واستند إلى الجدار، ثم وضع كفه الأيمن على كتف هذا الشاب وقال ناصحًا:
لا تعتذر، بل اسمح لأصدقاء والدك بزيارته؛ شهران متتابعان يأتي الضيوف إلى بيتكم بعد أن يقطعوا مسافات طويلة، رغم مرض معظمهم، ومع ذلك تمنعهم من دون سبب أو عذر!
طأطأ رأسه في انكسار وقال متعهدًا:
لن أمنع أحدا مرة ثانية، أعدك.
أوضح له الضيف سبب إصراره على زيارة بيتهم وقال:
- تدرج والدك في العمل حتى صار وكيلاً لوزارة التربية والتعليم؛ وتعلَّمنا الكثير على يديه، وله فضل عظيم علينا جميعًا؛ فلو وضعوا فردة واحدة من حذاء والدك في كفة، ومائة رجل في الكفة الثانية لرجحت الأولى!
اصطحب الضيف إلى باب البيت، فانطلق الرجل عائدًا إلى بيته متمنيًا أن يعمل هذا الابن بنصيحته، وصل الشيخ إلى زوجه، تعجبت بشدة من رؤية ما معه من أصناف الفاكهة المختلفة؛ فسألت:
من أين اشتريت كل هذه الأصناف يا شيخ إبراهيم ؟!
تبسم الرجل ضاحكًا من قولها وأجاب:
- عملتُ اليوم بمهنة جديدة، لم أرد للولد المائة جنيه؛ لعله يتذكرها كلما طال شعر والده، أو نبتت ذقنه!
من أنت؟!
بصوت أوهنه الزمن أجاب:
المزيّن.
سأله في عجب مستغربًا:
ومن طلب منك الحضور؟!
بسرعة بديهته أجاب :
أخوك الذي يقيم في القاهرة توصَّل بي هاتفيا.
نزل الابن سريعًا، واختصر السلم الطويل في قفزتين، فتح الباب ولأول مرة يجيب بالإيجاب:
نعم، استيقظ قبل قليل.
صعد الرجل بطيئًا؛ بعدما انتصف عقده السادس من العمر، دخل إلى غرفة الأب وقال مشيراً بإصبعه إلى الابن:
أستأذنك أن تجلب لي هذا الكرسي الخشبي الثقيل؛ ليكون قريبًا من مقبس الكهرباء.
بصوت جَهوَري صاح الابن بانفعال شديد قائلاً:
اصبر -يا أخي- حتى أحضر لك ما أفرشه على الأرض، هل تظنها زريبة؟!
ذهب يبحث عن ملاءة أو مفرش فلم يجد؛ وعاد بأوراق من جريدة قديمة يحتفظ بها والده؛ حتى يتذكر أيامه الأخيرة في منصبه الوظيفي.
أخرج المزين فوطة صغيرة لفها حول رقبة الشيخ باحترافية، كما التقط في خِفة معجون حلاقة الذقن وماكينة الشعر الجديدة، ثم شرع في أداء عمله، كأنه يمارسه بحب وسعادة منذ عقود. شعر بالضيق الشديد من كثافة شعر رأس هذا الشيخ الكبير ولحيته والتهاب فروة رأسه؛ فظلَّ يهمس ويتمتم بكلمات حاول الابن جاهداً أن يفهمها، لكن دون جدوى!
وقف الابن يراقب الحلاق، وشعر بالدهشة حين سأله:
هل عندك مقص يا ابني؟
تعجب الابن في ذهول قائلًا:
ابنك؟! حلاقين آخر الزمان! وهل يعمل الحلاق دون مقص؟! أين معداتك؟!
أجاب الرجل معتذرًا :
نسيتها، لا تؤاخذني.
زفر الابن بضجر ومد يده بالمقص قائلا:
تفضل، ولا تنس مرة أخرى!
بدأ الحلاق في إزالة شعر رأس الأب، ولم يستطع أن يكتم ضحكه؛ مما أثار غضب الابن ودهشته، وسأل:
ما الذي يضحكك يا أبي؟!
باغته الحلاق حين قال:
دعك من ضحكه، أخبرني أخوك هاتفيًّا أنك ستدفع أجر الحلاقة خمسة جنيهات.
باندفاع وثورة قال:
ماذا تقول؟! هل تظن أننا نتسول؟!
مدَّ يده بورقة من فئة المائة جنيه، والتقطها الحلاق من يده، وقبَّلها قبل أن يضعها في جيبه، ويمطر هذا الشيخ بالدعوات قائلًا :
- ما يدخل جيب الأسد لا يخرج منه أبدًا.
استيقظت الأم العجوز بمجرد سماع صوت الحلاق الذي تألف نبرته للغاية، رحَّبت به في حفاوة؛ فتعجب الابن، لكن العجب زال عندما قالت:
إنه عمك الشيخ إبراهيم، صديق والدك وزميله في عمله قبل التقاعد!
اندفع مبررًا ما حدث وقال:
هو من قال إنه حلاق!
بلهجة آمرة عاتبت ابنها قائلة:
اذهب واصنع له كوبًا من الشاي أو القهوة.
اعترض الشيخ إبراهيم قائلاً:
لا أشرب أي شيء؛ فقد منعني الطبيب منها. وعلى العموم، يا أفندي، لو كنت تفهم في أصول الضيافة؛ إذًا لكنت سألت من البداية!
أجاب مدافعًا عن نفسه:
أنت لم تقل إنك صديق والدي!
وضع يده على الجرح قائلا:
لو كنت قلت لمنعتني كما تفعل مع كل أصحابه!
شعر الابن بالضجر من طريقة كلام الشيخ إبراهيم وقال:
لماذا تتحدث معي بعصبية شديدة هكذا ؟!
بانفعال شديد وبصوت مرتفع أجاب:
لأنه من المستحيل أن يتخفى كل أصحابه في زي حلاق حتى يتمكنوا من زيارته!
شعر الابن بالارتباك وقال معتذرًا:
أنا آسف.
وقف منتصبًا، واستند إلى الجدار، ثم وضع كفه الأيمن على كتف هذا الشاب وقال ناصحًا:
لا تعتذر، بل اسمح لأصدقاء والدك بزيارته؛ شهران متتابعان يأتي الضيوف إلى بيتكم بعد أن يقطعوا مسافات طويلة، رغم مرض معظمهم، ومع ذلك تمنعهم من دون سبب أو عذر!
طأطأ رأسه في انكسار وقال متعهدًا:
لن أمنع أحدا مرة ثانية، أعدك.
أوضح له الضيف سبب إصراره على زيارة بيتهم وقال:
- تدرج والدك في العمل حتى صار وكيلاً لوزارة التربية والتعليم؛ وتعلَّمنا الكثير على يديه، وله فضل عظيم علينا جميعًا؛ فلو وضعوا فردة واحدة من حذاء والدك في كفة، ومائة رجل في الكفة الثانية لرجحت الأولى!
اصطحب الضيف إلى باب البيت، فانطلق الرجل عائدًا إلى بيته متمنيًا أن يعمل هذا الابن بنصيحته، وصل الشيخ إلى زوجه، تعجبت بشدة من رؤية ما معه من أصناف الفاكهة المختلفة؛ فسألت:
من أين اشتريت كل هذه الأصناف يا شيخ إبراهيم ؟!
تبسم الرجل ضاحكًا من قولها وأجاب:
- عملتُ اليوم بمهنة جديدة، لم أرد للولد المائة جنيه؛ لعله يتذكرها كلما طال شعر والده، أو نبتت ذقنه!