طيبه فاهم ابراهيم - لكمة الهوك..

خلال حياتنا، نلاقي صنوفا مختلفة من الرجال، اقوياء الشخصية بلا قوة جسد، واقوياء جسد بلا ادنى شخصية، أمناء وخائنين، أدعياء وصادقين ، شجعان وجبناء، وسواهم مما يصعب عدّه.
غير أن هنالك صنفا من (الرجال) ينطبق عليه ذلك المثل الشائع : (إن حضر لا يعد وإن غاب لا يفتقد)، اناس غريبو الأطوار، يمكن ان يصلحوا لكل شيء سوى أن يكونوا رجالا محترمين، قوم مهما حاولت التفكر في تصرفاتهم، فسوف تصل إلى الصفر بعد الدوران في حلقة مفرغة، منهم ذلك الشاب الذي اجهل اسمه، وكنت أسميه (عبد الباب)!!
وعبد الباب هذا، زاده الله بسطة في الجسم والطول دون اي شيء اخر ، ظل مرابطا عند باب النادي الذي اتدرب فيه، كأنه أحد اصنام قريش، ثم أخذ شيئا فشيئا يطلق العبارات التافهة الموجهة نحوي مثل : خسارة، اين البطلة، قبضة الفولاذ، وعبارات أخر كنت استقبلها باشمئزاز ، مع احتقار لصاحبها يزداد كل يوم، واحاول ان اتماسك لعلمي أن عراك المرأة مع رجل في الطريق سيجعلها في موقف حرج للغاية ينبغي اجتنابه، والمرأة الرياضية القوية ينبغي ان تكون أهدأ النساء، تتحلى بالاخلاق الرياضية اينما كانت، في الطريق والعمل ومع صويحباتها وفي عقر دارها كذلك...
لم أكن لاهتم بأمر هذا التافه لولا تماديه اكثر كلما مر عليه الزمن، ولا ادرك حقا ماذا كان ينتظر مني َوهو لا يلاقي سوى التجاهل ، لا ادرك ماهي اللذة من تلك النظرة المحتقرة لشخصه، وعما اذا ما كان لديه نزر بسيط من الكرامة الشخصية واهاناتي الصامتة المتواصلة والموجهة نحوه كالسهام اللاهبة..
ذات يوم وبعد تمرين شاق، خرجت عند الظهيرة متجهة نحو سيارتي، واحسست به يلاحقني وهو يناديني بإسمي، لم التفت له مطلقا، وحين بدأت بتدوير المحرك ، وقبل ان يتفوه بحرف، خاطبته بحدة قاتلة: اسمع يا هذا ، لا تنتظر مني ولو معشار حرف وربع كلمة ، وكل ما عليك هو أن تغرب عن وجهي تماما وأحذرك من العواقب ، أغرب فهنالك الف عمل بانتظاري، ولست متفرغة للرد على أشباه الرجال مثلك.
ومع هذه الكلمات ، انطلقت مسرعة ضجرة كارهة للموقف كله، فشهد الله اني لست من اللواتي يحببن جرح احد ، وحتى الاستفزازات بيني وخصماتي هي مجرد تحديات تنتهي مع نهاية النزالات، وهي نسوية خالصة.
تناسيت امره تماما، وتفرغت للدراسة والنشاط الاجتماعي وعملي الخاص في تدريب الفتيات، ثم عدت بعد اسبوع الى النادي لاتمم تدريبي، فهنالك بطولة محلية واخرى عربية بانتظاري، تتطلب مني تمزيق الحلبة بقدميّ وكيس الملاكمة بيديّ، حركة ولكما..
فوجئت به يدخل النادي، وصعقت حين وجدته قد عقد صداقة مع احد الاداريين الصغار ، وادركت ان عديم الكرامة هذا لم يزل يلاحقني، ثم تغاضيت عن الامر وغرقت في بحور التدريب التي تجعلني بمعزل عن الحياة الدنيا برمتها.
ما ان هبطت من الحلبة، حتى كانت كلماته نفسها:
خسارة.. بطلة الكون، وعلى نقالة، قاضية..
تركته وذهبت صوب داري وليس لدي ذرة طاقة، ارتميت عند الاريكة ولم أدرك شيئا، ووجدت بقربي عند اليوم التالي مدفأة، ويدثرني غطاء سميك، وادركت انه قلب الام الذي لم يزل يضمني بين طياته طفلة صغيرة مهما كبرت.. ذلك القلب العظيم سعة الكون كله..
عند اليوم التالي، وما ان دخلت النادي، حتى وجدت (عبد الباب) بانتظاري وهو يتوسط الجمع من مدربين ولاعبين ولاعبات، دون أن ادرك صفته وما يؤهله لدخول النادي.
انتهيت من ساعة تدريبي، وهممت بمغادرة الحلبة، لولا اني وجدته يقول ما لا يمكن ان يعقله انسان البتة:
سأكسر غرورك وكبرياءك، ستتذوقين القاضية وعذابها وانت التي قضيت على ابطال، لكمة واحدة مني سترسلك الى عالَم الغيب لساعات.
هنا، احسست ان هذا الكائن قد بلغ ذروة تماديه، فهاهو يتحداني في عريني، ويحاول السخرية مني بشكل لا يمكن السكوت معه ابدا..
دعوته لدخول الحلبة، ومن شدة إيماني بالنصر، أشرت له كي يلاكم دون قفازات لتكون ضربته أشد، وارتدي انا قفازاتي لاخفف عنه الضرب.
لم ينتبه احد لنا، وغلب عليه الظن العظيم انه سيفترسني اخيرا وها هي فرصته، بدأ بالكلام فَوجهت نحو فمه لكمة خفيفة اخرسته، حاول مرة اخرى وكانت لكمة اخرى منعته من النطق، وقلت له بحزم.
واجهني دَون ثرثرة...
هجم كالثور الهائج وهو يظن ان السيطرة على بطلة ملاكمة مثل اصطياد حمامة ، غير مدرك ما يخفيه عقلي من خطط لن يدركها، وما تخفيه قبضتي من قوة مهولة لا تخطر على باله..
جعلته يحاول الهجوم لدقيقتين ولم يك بأكثر من ثور هائج، بينما بقيت محتفظة بهدوئي، حتى حانت اللحظة التي اهجم، فوجهت له لكمتي هوك، الاولى على يمين وجهه افقدته توازنه ، واخرى على شمال الوجه سلبت قوته ، فجثا على ركبتيه فاقدا النطق تماما وهو ينظر نحوي، ودعوته للنهوض وحاول القيام ثم ترنح وسقط وكان كالسكير تماما، تدور به الدنيا ولا يعلم ما يصنع وهو مدمر ، تائه، خجل، مخزي، شبه ممدد، وشابة مثلي تقف قربه بهدوء وهي تنتظر منه ان يثبت وجوده على الحلبة لا ان يصبح متفرجا، لكنه لم يفعل شيئا سوى محاولة النهوض والسقوط بشكل تام.
لم اهتم لملامة بعض المحيطين، ولم استرق السمع لكلامهم، لكني خاطبته بصوت واطيء : كنت اظنك تافها، لكن كنت مخطئة، فانت اقل من تافه، وكان من الأفضل ان تؤتي بشقيقتك لملاكمتها بدلا عنك ايها الفارغ .
تركت الحلبة وعدت لداري، ومشاعر غضب تمازج الانتصار، والقيت بجسدي في سريري ومنظره وهو ممدد يثير في جميع مشاعر الاحتقار لبعض المحسوبين على الرجال، ثم وحين دخلت النادي بعد يومين لم اجد عبد الباب هذا، بل لم اجد الباب نفسه، ضحكت في سري حين تخيلت الباب لم يتم استبداله ، بل هرب من النادي، خجلا من ذلك الفارغ الفاشل الذي ظل يتسمر قربه، حتى نال جزاءه العادل ..

طيبه فاهم ابراهيم

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى