د. محمد عبد الله القواسمة - في اختبار إنسانيتنا

عندما تنظر إلى القطة بأنها إنسان له مشاعر وأحاسيس، تضمها إلى صدرك، قد تحتويها في بيتك، تعاملها كما تعامل عزيزًا عليك: ابنك، أو صديقك، أو شقيقك. وعندما تراها على حقيقتها مجرد قطة تعاملها كأنها حيوان لا يفكر ولا يشعر، تتجنبها، وتجعل بينك وبينها مسافة ما، وتحاذر أن يصيبك منها مرض، أو أذى، أو تسلبك شيئًا، أو تتلف لك بعض ما تملك. وربما تعاقبها بالطرد، أو القتل أحيانًا إذا ما تمادت في حيوانيتها. أما إذا نظرت إلى القطة بأنها أدنى من كونها حيوانًا، أي أدنى من حقيقتها فإنك تهملها، ولا تهتم بوجودها كأي شيء في الطبيعة.

هكذا فإننا نتعامل مع ما في الوجود من إنسان وحيوان ونبات حسب نظرتنا إليه؛ فنحن نعطي الشيء حقه إذا نظرنا إليه كما هو في حقيقته، ونُعلي من شأنه إذا نظرنا إليه بأنه مثلنا، ونقلل من قيمته إذا نظرنا إليه بأنه أدنى منا منزلة.

بهذا الفهم يمكن أن نفسر محبتنا وتقربنا واهتمامنا بعناصر الوجود، فيغدو القط صديقًا مؤنسًا، والكلب إنسانًا وفيًا، والورود بشرًا تبادلنا همسات الحب والعشق، ويغدو الجماد امتدادًا لنا، يتأسى لألمنا، كسيف مالك بن الريب ورمحه اللذين يبكيانه بعد رحيله في قوله:

تذكّرتُ مَنْ يبكي عليَّ فلم أجدْ سوى السيفِ والرمح الرُّدينيِّ باكيا

أو كما تجاوب النسيم العليل مع ما عاينه الشاعر ابن زيدون في مدينة الزهراء الأندلسية في حبه لولادة بنت الخليفة المستكفي:

إِنّي ذَكَرتُكِ بِالزَّهْراءَ مُشتاقاً وَالأُفقُ طَلقٌ وَمَرأى الأَرضِ قَد راقا

وَلِلنَسيمِ اِعتِلالٌ في أَصائِلِهِ كَأَنَّهُ رَقَّ لي فَاعتَلَّ إِشفاقا

لعل النظرة المؤنسنة للأشياء هي التي كانت السبب في ظهور المذهب الرومانسي في الأدب والفن؛ فما الرومانسية في مجملها إلا أنسنة ما في الطبيعة من حيوان ونبات وجماد، وهي النظرة التي قادت الإنسان إلى منابع الحب والحنان، وارتقت به إلى مقامات الصالحين، وجعلته يراجع مواقفه تجاه الفقراء والضعفاء. فكانت ثورة على طريق الحق، ونبذ الكراهية.

في المقابل توجد النظرة المُحيْونة ليس للجماد والنبات فحسب بل للإنسان أيضًا. وهي التي تؤدي إلى الكراهية والقتل. فحين ننظر إلى البشر بأنهم كائنات غير إنسانية، حشرات، أو حيوانات إنما نبتغي من وراء ذلك تجريدهم من الحقوق الإنسانية، فهم في نظرنا أشياء لا قيمة لهم، ويحق لنا أن نحتقرهم، نذلهم، نزجهم في السجون، نقتلهم.

هذه النظرة لمسناها في الحرب الأخيرة على غزة التي انطلقت باسم طوفان الأقصى؛ إذ وصف وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت الفلسطينيين الذين اندفعوا إلى أرضهم في بلدات غلاف غزة مطالبين برفع الظلم عن أهلهم، وحماية مقدساتهم، وإطلاق أسراهم من السجون بأنهم حيوانات بشرية، وهو بهذا يبيح لقواته قتل هؤلاء المقاومين، وتدمير مدنهم وقراهم بلا رأفة أو رحمة. هذا يوضح الاندفاع الجنوني لقوات الاحتلال الإسرائيلي لقصف المنازل، والمخابز، والمستشفيات، والمدارس، والكنائس، ومراكز الإيواء وتدميرها على رؤوس من فيها، وأكثرهم من النساء والأطفال دون اهتمام بالقوانين والمواثيق الدولية والإنسانية.

ما نريد قوله في النهاية: إن إنسانيتنا تُختبر في تعاملنا ليس مع الإنسان فقط بل في تعاملنا مع الحيوانات والنباتات والأشياء أيضًا. وهذه الإنسانية تتآكل أو تتلاشى عندما ننظر إلى الآخرين، لأي سبب من الأسباب، بأنهم ليسوا بشرًا مثلنا، بل وحوش لا تاريخ لهم، ولا ثقافة، ولا حضارة، وأن لنا الحق في إبادتهم وظلمهم وتجويعهم. وإذا كان الصحيح أن ننظر إلى الأشياء والناس نظرة موضوعية فإن الأصح والأفضل أن تكون نظرتنا إنسانية تنطلق من خلال الحب الذي يجعل لحياتنا معنى، ولوجودنا قيمة. الحب الذي يتغلغل في الروح فنتعرف بواسطته إلى ذواتنا. الحب الذي يعزز إنسانيتنا، ويدعم بقاءنا على هذا الكوكب.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى