فاتن فاروق عبد المنعم - كشف..

منذ هبوط آدم على الأرض وهو مولع بالكشف، قد يسعى إليه سعيا حثيثا وقد يكون مباغتا دون تدبير منه كانه على موعد معه، وهو بطبيعته فضولي التكوين وإلا ما حبس نفسه بالساعات أمام عدسة ميكروسكوب تريه ما لا يراه بعينه المجردة، ولا ركب الأهوال في مجاهل الطبيعة كي يحظى بمزيد من الكشف، ما يعني أن الكشف بالنسبة إليه غريزة تؤرقه فلا يهدأ أبدا لأنه دائم التطلع لكل جديد يلوي رأسه تجاهه كطفل بلغ السعي مؤخرا يصول ويجول دون كلل كي يستزيد بمعرفة ما خفي عنه، والكشف لا يكون دون أن تكون المسافة صفر، ولكن هنا
المسافة صفر بين نقيضين، لحظات خاطفة يبتهج فيها أحاد للوهلة الولى، قبضوا للتو على خصمهم، سرعان ما ينتشر الخبر فيفرح شيعتهم بنصر الله، ويغتم عدوهم متجرعا آلام الحسرة وخيبة الأمل، فقد انتفخ مكونه الأجوف ببديهيات لم يعد يناقشها لأنها من المسلمات لديه لذا كان الألم مضاعف أحدث رضوضا وكدمات معنوية، محسوسة غير مرئية، كيف حدث هذا متجاوزا مؤسساتهم المدجنة بكل الممكنات والتي هي بين عدوهم ضنينة كأنها صنعت لهم وحدهم، هكذا هم يعتقدون أنهم الفائقون وليس المتفوقين الذين استعصوا على المساس من عدوهم عديم المؤسسات، فقط تجمعات صغيرة تكنى بكل سوء، بإمكانات محدودة وأعداد وجيزة، اجتهدوا وصنعوا ما استطاعوا من أسلحة بدائية.
دارت رحى المعركة غير المتكافئة بين النقيضين فكان الصعود والترقي من نصيب الفرقة الأقل حظا في كل شيء ليصاب الطرف الآخر بالصدمة الممزوجة بالذهول المفضي إلى التداعي حد الترنح والنحيب والعويل فكان من السهل عليهم اصطيادهم وحدانا وزرافات من المسافة صفر، كيف وهو الجيش الذي لا يقهر؟!
لحظات فارقة غيرت المسلمات فارتسمت الدهشة على الوجوه وتأهبت العيون والآذان لكل جديد، فلم يكن يجتذبهم أكثر من مباغتتهم بالأسر بين الفنية والفنية، مشهد يذيب ما تعارفوا أو نشأوا عليه في مرابعهم، كيف يتم اصطيادهم بهاتيك السهولة كأنهم في فلاة موشاة ببكارتها الأولى.
هاهم الآن بين أيديهم، وجوه عليها غبرة ترهقها قترة، كيف لا وهم بين أيدي الإرهابيين الذين يدينون بدين الإرهاب!!
أولئك الذين ورثوا جيلا بعد جيل كلمات توصيفية عمومية لهذا الفصيل من البشر مثل البربر، الهمج، الكفرة، الأجلاف، الجهلاء، الظلاميون، ميراث طويل تلقونه منذ نعومة أظافرهم في مرابعهم ومجتمعاتهم حتى امتزجت تلك المفاهيم بعظامهم ولحومهم فلا تبرحهم ولا يبرحونها، فمن يقدر على تخليصهم منها سوى الله، المبدع الأول الذي يبهرنا دائما بصنيعه.
الآن هم ماثلون بين أولئك الذين اجتباهم الله وصنعهم على عينه، أولئك الذين ينتمون لدين ذكوري ويحتقرون المرأة!!
بكاء وأنين وارتجاف الأجساد واصطكاك الأسنان، ملحمة جنائزية اشتركوا فيها كفرقة مدربة، عبأوا فضاء الأمكنة بمجملها وكأنها جاءتهم محتشدة بخوفهم الذين لو تركوا له لنهش لحومهم وعظامهم حتى الفناء ولكن أولئك الذين تغشوا أقنعتهم باحوا لهم بكلمات الطمأنة من معجمهم الفريد بنبرات هادئة ولسان عربي تارة، ومعجمي تارة لإفهامهم مبتغاهم وتقشير سوء الظن العالق بنفوسهم فتهدأ سريرتهم، يبثونهن الأمن الذي يفتقدنه، يجترحون اللطف كي يزيحوا لباس الخوف والجوع عنهم، فيطعمونهن الطعام على حبه لا ينتظرون جزاء ولا شكورا، يفعلون ذلك فقط امتثالا لتعاليم استقوها من لدن حكيم عليم.
مازالت الريبة تعتمل في صدورهم إزاء هذا السلوك الذي يناقض ما استقوه عنهم، فكيف يتم اجتثاث النمط الذي تجذر داخلهم، تراجع خوفهم تدريجيا وببطيء وارتسمت أمارات الصمت المتهدج المترقب "للتالي" الذي يتحسبون له فما زالت الريبة تعتمل في نفوسهم، العسكريون منهم يعلمون تراتيبية الموقف حتى لو عوملوا بالحسنة أما النساء على مختلف أعمارهن يخشون عاقبة المسافة صفر، ولما لا فهم بين يدي الإرهابيين الذين سيقتاتون أجسادهن!!
ولكن تعاقب الأيام وتوالي لطفهم معهم أبدل خوفهم أمنا، فاقتسموا معهم جميعا حياتهم بما هو متاح من ملابس وطعام وماء وعناية صحية وممكنات حياتية عادية مع احترام خصوصية النساء، فهن في حد ذاتهن لسن هدفا في الأسر ولكنهن ورقة رابحة يكسبون بها على الموائد المستديرة.
خلف تلك الحجب تقبعن يغشاهن الملثمون أينما ولين وجوههن، الأيام الأولى كانت رتيبة، شاهت بخوفهن وترقبهن وارتيابهن حتى قتل الكشف غير المتعمد ريبتهن وتأصل كشفهن، كانوا يساعدونهن حتى تصبح حياتهن ممكنة غير مستحيلة بل وتبرقشت نفوسهن بقطرات الأمل بهيجة الألوان باقتراب تحررهن.
على مهل ذاب الجليد بينهن وبين حجابهن فأضحت المسافة صفر تدبير إلهي للتعارف عن قرب دون وسيط غير أمين يملي عليهن ما ينبغي أن يعتقدوه في الآخر المخالف، فشل اللثام في أن يخفي الابتسام الممزوج بأصواتهم مع المزاح البريء أحيانا ومداعبة الأطفال أحيانا أخرى، بينما هن تراودن قابل الأيام عن نفسها والتي حتما سيبثونها تجربتهن الفريدة.
المسافة صفر أصهرت ركام المتآمرين ولكنها مشوبة باللثام الذي يخفي الوجوه، تتمنين في سرائرهن أن يميطوا اللثام كي ترين هذه الوجوه الفواحة بالنقاء فيعلق بالذاكرة ملامح الوجوه مع الأصوات، ربما لا يرونها مرة أخرى، تبا للحواجز التي اصطنعت على أعين عباد الشياطين.
كثيرا ما يحدثونهم بلطف عن وجوب الاهتمام بنظافتهم الشخصية خوفا من مداهمة مرض لا يتناسب مع إمكاناتهم الطبية الضنينة، الأمن أولى من غيره كي تقر النفوس وتنعم بكل درجات النوم وهم الآن في أأمن موضع في هذه البقعة المضطربة.
المسافة صفر محت الرهاب الذي استقوه، والتجربة الحقيقية تصقل الذات بمفرداتها دون الأكاذيب المخلقة وتصبح كالطود العظيم داخل النفس لا تمحى إلا بالموت، موت كل فضيلة، حتى حانت اللحظة المنشودة بالعودة إلى بيوتهن فتبادلن مع سجانيهن أسمى آيات الود والإكبار والاحترام، فكيف يجل الأسير سجانه؟!!
فلما انطلقن تحكين عن سيرة سجانيهن الشهباء هددهن أحد رجال الدين إن لم تلتزمن الصمت وتنتهين عن ما تقولن فسيعرف كيف يخرصهن؟ فما الذي أثار حفيظة الأوغاد الذين عجزوا عن حجب ضوء الشمس العفية؟ هل هو نقض ركام أكاذيبهم؟ أم اختراق منظومة زيفهم؟
قاداتهم يتصدرون الشاشات بلباس أسود، وجنودهم يحتمون بالمجنزرات والمدرعات مرتدين الحفاضات خوفا من الإرهابيين الذين يباغتونهم من المسافة صفر بخفيف النعال والثياب كأنهم في نزهة خلوية، فيصبحوا بين خيارين لا ثالث لهما إما الأسر المذل أو الموت الذي قد يكون رعبا أحيانا دون إطلاق أية تنهيدات تريح الصدور، بل إزهاق الأرواح المأسورة داخل أجساد تكرهها، فالمسافة صفر تعني الحسم المؤقت الذي حتما سيفضي إلى الحسم الدائم.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى