عبد الفتاح القرقني - شطحات

قبيل الغروب بزهاء ساعتين ، أزمعت بثينة على ريّ مغروسات الحديقة الذّابلة الّتي لم تسقها الأمطار طيلة أسبوع في سيّد الفصول . شاطرها ابن خالها قيس الرّأي ملبيّــــــــــا و مطيعا فأسرع إلى مساعدتها في خفّة و رشاقة و كلّه أمل أن تستعيــــد هذه الحديقة المنزليّة نضارتـــــها و رونقها و بهجتها.
هذا قيس ذو العشرين ربيعا و ذو الشّعر الأصفر المرصّف في انتظام و العينين الزّرقاوين يقتلع الأعشاب الطّفيليّة بالمعزق و يسوّي الأحــــواض و الجداول بالمشط جذلان ، قد تلألأ العرق الغزير على جبينه فأزاحه بكمّ قميصه البنيّ . و تلك بثينة الفتاة الممشوقة القوام و القمحيّة البشرة تسقي الأشجــــــار و الورود بواسطة مـــــــرشّ ورديّ و هي باسمة الثّغر ،منفرجة الأسارير تنشد موشّحات أندلسيّة بصوتها الرّخيـــم .

و بعد إتمام عمليّة السّقي، أهدى لها قيس وردة حمراء و هو يكركر بضحكاته الرّنّانة الصّافية فتسلّمتها و البشر طافح على محيّاها ثمّ باسته بوسا لطيفا على خدّيه النّاعمين بعد الالتفات يمنة و يسرة للتّأكّد من خلوّ المكان . و طوّق هو بدوره خصرها الضّامر بذراعيه المفتولين و انكبّ على ثغرها في قبلات طويلـــة ، ملتهبــة مشفوعة بهمــس أرقّ مـــن همـــــس الموج : « هذه أجمل الهدايا إليك يا ابنة عمّتي » .

يا لها من نشوة عارمة تحيي النّفوس الولهانــــة و تورق هياما فتيّا ، نقيّا بين طالب في بداية دراسته الجامعيّة و تلميذة في شعبة الآداب مهتمّة بالفكــــــــــر و اللّغات !

نطّــــت بثينة نطّا سريعا مضبوط الإيقاع و رتعت في أرجاء الحديقــة كغزالة مذعــــورة و هـــــــي تزمّ شفتيــــــــــها و تختلس النّظر إلى تنّورتها الزّرقاء المبلّلــــة. و لشدّة لهيب الهيام سكبت ما بقي في المرشّ من ماء على ثياب قيس و هي ترقص رقص فراش بديع أثناء هومــــه و حومه بين الزهور المزدانة في يوم مشمس جميل تفتّقت أزهاره البديعة و تضوّع أريجها في الآفاق .
أيّها القارئ المبجّل في هذه اللّحظات الحرجة قد يسرح خيالك الخصـب و يجنّح بك في عالم الرّومانسيّة الحالمة أو في رحاب الحضرة داخل زاوية سيدي بن عيسى ذات القيّة الخضراء أين تعالى الإنشــــــاد الدّينيّ و اشتدّ النّقر على الدّفـــــــــــــوف و البناديـــــر و تصاعد البخور نديّا . كأنّ هذه الشّطحات الغراميّة شطحات صوفيّة قد اكتنفها صفــاء روحيّ و إجلال و طهر و إن التحـــتم الجســــــــدان في فتوّة و تمازجت الأنفاس و تعتّقت القبلات بشهد الرّضـــــــاب و صرخت الأحاسيس و تعانقت عناقا متآلفا ، متناغما و سرت في مواطن ناعمة من الجسم سريان النّار في الهشيم .
مالت الشّمس إلى مغربها أرجوانيّة اللّون معلنة عن نهاية نهار أغرّ في حياة حبيبين اكتويا بأولى لواعج الهوى و صواعقه . إنّها تتهادى في مشيتها كعروس في ليلة زفافها و قد حفّت بها في ذلك الأفق البعيد فسيفساء من الغمام الرّماديّ المشوب بحمرة . ها هي تختفي على مهــــل رويدا رويـــــــدا في أنفة و إباء خلف ديار فخمة ، شاهقة تدلّ على ثراء أصحابها في ضاحية سيدي بوسعيد .
خفّ قيس إلى حقيبته كالموتور فقلّب و بعثر ما فيها من ملابس رأسا على عقب دون العثور على سروال نظيف يرتديه . هاج و ماج و ضرب كفّا بكفّ و طاف في أنحاء الغرفة غاضبا ، مكسور الخاطر في ريبة من أمره لا يدري ما يفعل .
آنذاك كلّمته بثينة بصوت خفيض :
- « ماذا دهاك ؟ هل جننت ؟ »
- « أنا في أتمّ مداركي العقليّة فكلّ ما في الأمر أنّ سروالي يقطر ماء .إن أبقيته على جسدي سأصاب بالزّكام أو بنزلة صدريّة »
- « ارتد سروالا آخر »
- « لا أخفي عليك أنّ كلّ سراويلي قذرة فأنا بصريح العبارة و دون لــــــفّ و دوران لم أعتد غسل الملابس و أنّ من يقوم بذلك هي أمّي بيّض الله وجههــــــــا و جازاها خير جزاء . »
افترّ ثغر بثينة عن ابتسامة عريضة كشفت عن أسنان مرصّفة ، ناصعة البيــــــــــاض و تموّج في عينيها العسليّتين عتاب خفيف عجّلت لترجمته إلى كلام معسول ساحر :
- « كيف تسمح لنفسك بترك سراويلك وسخة و أنا أشرف مرّتين في الأسبوع على تنظيف الملابس بواسطة الغسّالة الأتوماتيكية ؟ »
- « لا أريد أن أتعبك يا بلسم روحي ».
- « تعبي في سبيل إرضائك راحة يا ابن خالي العزيز »
- « يا ملاكي ما دمت مصرّة على غسل ملابسي القذرة فأنا لا أخالف لك أمرا »
- « البس سروال أخي مروان ريثما أتكفّل بتنظيف ملابسك في الغد صباحا بحول الله »
- « في الإبّان و دون تأخير مع الرّجاء أن لا يكـون فضفاضا مدعاة للسّخرية لأنّ أخـــاك بديـــــن و أنا نحيــف »
أثناء السّمر ، استنجدت بثينة بقيس في تحليل قصيد عجبت فطمة من نعتي لها للشّاعر الضّرير بشّار بن برد .
عجبت فطمة ُ من نعتي لهـــا
هل يُجيدُ النعْتَ مكفُوفُ البَصَرْ
بنْتُ عشْـــــرٍ وثلاثٍ قُسِّمَــتْ
بين غصـــــنٍ وكثيبٍ وقمــــر
دُرَّة ٌ بحْرِيَّـــــــة ٌ مكْنُونــــة ٌ
مازها التّاجــرُ من بين الدّرر
أَذرَت الدَّمع وقالتْ وَيْلتِـاه
من ولُوع الكفِّ رَكَّابِ الخَطر
أُمَّتَا بدّد هــــــــــذا لُعبــــي
و وشاحي حلّه حتى انتشــر
فدعيني معـــــــهُ يا أمّتـــــا
عَلَّنا فِي خلْوَة ٍ نقضي الوطرْ
أَقْبلَتْ مُغْضَبَــة ً تَضْرِبُــــها
واعتراها كجنونٍ مستــــــعر
بأبي والله مــــــا أحسنـــــه
دمع عينٍ يغسلٌ الكحــل قطر
أيّها النوامُ هبّــوا ويحكــــم
واسْألُونِي اليوْمَ ما طَعمُ السَّهرْ
كان الشّرح شافيا و ضافيا نفذ إلى المعاني المستبطنة في هذا الشعر الغزليّ الفريد من نوعه و ألقى بظلاله الوارفة عليهما فهما عشيقان مبتدئان يلتمسان طريقهما في حــــــذر و خفر اجتنابا للمجون و غواية الشّيطان .
و ما إن تسلّلت يد قيس إلى ضفيرتي الشّعر الخرّوبيّ النّاعم ثمّ إلى النّهدين النّافرين ، المتمرّدين حتّى اهتزّت بثينة اهتزازا عنيفا كاهتزاز النّخل عند تعرّضه لريح صرصر عاتية و قالت له و الانفعال باد في صوتها:
- « دعك من هذه السّلوك الصّبيانيّ فأنا أنبذه »
- « حاضر فأنا منذ ولوجي هذا المسكن الفاخر و أنت قد سلبتني راحتي فغدوت لا أفكّر إلاّ فيك و لا أطلب وجها إلاّ وجهك فأنا أجهل إن كنت تحسّين بذلك و تغاضيت عنه أو أنّك لا تحسّين بذلك على الإطلاق »
- « أنت تعلّقت بي تعلّق الغارق بحبل النّجاة أمّا أنا فما زلت صغيرة لا أفكّر إلاّ في الاجتهاد و المثابرة كي أكون متميّزة في دراستي »
- « ما ذنبي إذا عشقتك عشقا عظيما ؟ و ما ذنبي إذا دخل حبّك قلبي فأصبح السّيّد المطلـــق ؟»
- « و ما ذنبي أنا إذا كنت أعتبرك مجرّد أخ فالحبّ الّذي يحكي عنه الشّعراء في قصائد غزليّة خالدة ما زال لم يغمر قلبي و لم يدغدغ وجداني و لم يخطر لي على بال »
- « إنّ حبّي الفيّاض إليك أبى أن يبقى مكتوما في مهجتي فها هو متفجّر من عينيّ و قلبي قبل أن يتدفّق في سخاء من لساني و شفتيّ ».ا
- « بوحك بما يختلج في صدرك من حبّ جارف لي بلبل فكري و أزعج عواطفي »
- « إنّ قلبي ينفطر و يتفتّت ظمأ إلى قطرات من الحبّ يجود بها قلب محبّ كقلبك »
- « لا تتكدّر فالحبّ في هذه الآونة طفق يعزف على أوتاري أنغاما عذبة ، ممتعة أطربتنــــي و أسكرتنـــي و أنعشتني و أرقصتني جذلا و طربا .»
و بعد إقدام و إحجام ،تأجّجت نيران الحبّ و اتّقد لظاها فطوّقت رقبة قيس ذراعان ناعمتان ، عطرتــــــــان و التصق خدّ دافئ بخدّه الورديّ و تردّد صوت قبلات منغّمة مزّق صمت منتصف الليل . إنّها قبلات خالدة تعادل خطّ الاستواء بحرارتها و وهجها .
و بينما كان الحبيبان في خلوة يتذوّقان باكورة الحبّ في لذّة عارمة إذ دخل مروان إلى الغرفة خلسة فلمحهما في وضع مستراب تميّز بالضّمّ الشّديـــــــــد و التّقبيل العنيف .كم تعاظمت دهشته و أذهله الخطب فتطاير الشّرر من عينيـه و نفرت عروق رقبته و تصلّب وجهه في حزن غاضب كاد يتسبّب له في انهيار عصبيّ أو جلطة دماغيّة مجهولة العواقب !.خرج من حلقه صوت كأنّ الرّعد يقرع الآذن فيصمّها :
« من ألطاف الله أنّني أقبلت في الوقت المناسب حتّى لا تتماديا في الخطيئـــــة و في تدنيس الشّرف . أيّها الأحمقان ، ما المداعبة الّتي أبصرت جزءا منها إلاّ ضرب من الطّيش لضجّها بالنّزوات و إثارتها للشّهوات »
لم يتوان مروان عن دفع قيس دفعا عنيفا كاد يشجّ رأسه و يهشّم عظامه ثمّ أمطره بسيل من الشّتائم : « يا قليل الحياء ، يا زعيم الأنذال ، يا أشباه الرّجال و لا رجال لقد ملأت قلبي قيحا و شحنت صدري غيظا بتصرّفاتك الحمقاء . كيف تسمح لك شهامتك إن كانت لك شهامة بالتّغرير بفتاة في سنّ المراهقة . اغرب عن وجهي أيّها الشّيطان المارد . اغرب عن وجهي فأنا لا أتحمّل رؤيتك » .
مروان في ثورة و جنون يرغي و يزبد قد تناثر لعابه و اتّسمت حركاته بكثير من التّسرّع و العبثيّة . ها هي الكتب و الكرّاسات تحلّق في الفضاء مذعورة ثمّ تهوي هنا و هناك صريعة كالعصف المأكول ، ملتويّة الأطراف كأوراق الخريف .
و تتوالى الصّفعات الموجعة على وجه بثينة النّاعــــم دون شفقة فيشـــقّ نحيبـــــها المتعالي الصّمت المطبق و الجدران الكلسيّة و تخرّ هذه الفتاة المسكينة مغشيّا عليها على زربيّة مبثوثة . ها قد هبّ أفراد الأسرة إلى حجرتها مذعورين متعطّشين لمعرفة الحقيقة : هذه الأمّ مرتجفة الأوصال، فاغرة الفم تسكب على وجه ابنتها الدّائخة ماء الزّهر و ذاك الأب يتلو عليها في رصانة و وقار المعوّذات ثمّ يسرد عليها أدعية مستفيضة جادت بها قريحته و هو رافع ذراعيه و جاث على ركبتيه . أمّا إخوتها قد أجهشوا بالبكاء إلى أن احمرّت مآقيهم و خنقتهم العبرات ..
و ما إن استفاقت بثينة من الإغماء حتّى التمست من شقيقها في حياء أن يعفو عنها بصوت خافت ، متهدّج لا يكاد يسمع:
- « اعذرني عمّا صدر منّي من زلاّت فأنا في فترة المراهقة »
- « يا لك من بلهاء فأنت قد فقدت السّيطرة على عواطفك و وهبت جسدك إلى ذلك الوحش الكاسر »
- « لا أسمح لك بإهانتي فأنا شريفة أصون عرضي كما كانت أمّي توصيني »
- « إيّاك من ذنوب الخلوات و من ذنوب العناق و القبلات »
- « لا داعي لهذا الكلام المخجل الّذي يندى له الجبين »
- « اجتهدي في دراستك و لا تضيّعي وقتك في سفاسف الأمور»
- « ومتى كان الحبّ أعزّك الله من السّفاسف ؟»
- « نحن الآن في الهزيع الأخير من الليل قد بدأ النّوم يبسط جناحيه علينا فللحديث بقيّة في سهرات قادمة بحول الله »
- « نعم الرّأي لكن أنصحك أن تثق بي و أن تتجنّب قدر الإمكـان التّشنّــــــــــــــــــــــــج و التّسرّع »
- « معذرة على هذا الظلم و معذرة على التّعنيف و الاحتقار و الإذلال »
- « لا تحزن و لا تبتئس فأنت أخي الأكبر في مقام والدي أكنّ لك في أعماق فؤادي فيضا من الاحتـــــــــــرام و التّقدير »
و آوى كلّ فرد من أفراد الأسرة إلى فراشه يلتمس نوما هادئا ، مطمئنّــــــــا لا تكدّره الأحلام المروّعـــــة و المزعجة فما حصل اليوم هو مجرّد إنذار مبكّر يدعو هذه العائلة الأصيلــــــة و المتآلفـــة إلى اليقظــــة و فتح باب الحوار على مصراعيه دون تزمّت و انغلاق من أجل الخوض في مسائل هامّة تعنى بحياة الأبناء العاطفيّة كالحــــــــــبّ و البلوغ و المراهقة .
أمّا بثينة لم تعرف كيف قضّت ليلتها فهي قد امتدّت على سريرها الوثيـــــــر هامدة ، جامدة دون أن تنبس ببنت شفة أو تأخذها سنة من النّوم . انتابها حزن عميـــــــــــق و حيرة مقيتة فكأنّ أفعوانا أهوج ينهش قلبها الملتاع و يخنق أنفاسها و يشلّ حركتها : في المقلتين عبرات شحيحة و في الحنجرة عبارات سجينة و أنات خافتة و في الصّدر حبّ وليد و تبرّم من الاستبداد و الإهانة .
اجتاحها سيل جارف من الأسئلة في هجوم صاعق فاق الغزو المغوليّ للعراق :« من أنا ؟ هل تفجّر جسدي نعومة و حسنا و إغراء ؟ هل الحبّ كما قال ابن حزم الأندلسيّ أنّ أوّله هزل وآخره جدّ ؟ هل هو مباح في الشّريعة الإسلاميّة ؟ هل قلوب العشّاق بيد الله عـزّ و جلّ يقلّبها كما يشاء ؟ أيعتبر التقبيل البريء من الكبائر حتّى يقابل بالنّهر و الزّجر ؟ ... آن الأوان أن أنحت حياتي حسب قناعاتـي في ظلّ توجيهات عائلتي الّتي آمل أن لا تحدّ من حريّتي و أن لا تفلّ من صلابة عزمي . هل سيتواصل الحبّ بيني و بين قيس أم سيتعرّض لنكسات و انكسارات ؟ أين أنت يا قيس ؟ لن أنام قريرة العين هذه الليلة إلاّ بعد الاطمئنان عليك ».
ها قد أوجست بثينة خيفة و توقّعت ما لا يحمد عقباه فهرعت إلى غرفة الضّيوف و هي حزينة ، مضطربة ، حائرة . تفحّصت المكان ببصر من حديد : كان سرير قيس خاويا عليه مرمدة بها أعقاب سجائر و قرب الصّوان ملابس ممزّقة إربا إربــــــــا و هاتف جوّال أحمر مفكّك الأوصال : « يا قيس هل أصابك مسّ من الجنون ؟ إلى أين رحلت في هذا اللّيل المظلم ، البهيم ؟ هل تظنّ أنّ أخي طردك بترديده لعبارة اغرب عن وجهي ؟ لا أعتقد ذلك لأنّ شقيقي خاطبك و هو في حالة غضب شديد و لا يفكّر أبدا في طردك . في المستقبل لن أسمح لأيّ كان من أفراد عائلتي بأن يهينك أو يحتقرك فأنت و الله ضيف معزّز مكرّم ».
أسرعت بثينة من جديد إلى فراشها و جلست منعطفة على نفسها و قد فاض من مقلتيها دمع غزيز غير منقطع كأنّه ينبوع دائم التدّفّق في جوف الصّحراء .
و لمّا طال الانتظار أطلّت بثينة من خلال بلّور النّافذة فأبصرت نور الفجر يمدّ أمامها لسانه و بعض النّجوم المتناثرة في السّماء . و ما هي إلاّ ساعة أو بضعة من ساعة حتّى أصغت بثينة إلى وقع أقدام في الحديقة تك تك تك تك فتنفّست الصّعداء و ابتهج وجهها بابتسامة عريضة و لمعت في عينيها ومضات بهيجة من الأمل .



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى