مقدمة مجيدة السّباعي
على ناصية حروف عبقة من مخمل بهي سرّج القاص الفذ (مصطفى الحاج حسين) قصصه القصيرة بعذوبة منقطعة النظير، سطر بها عصارة آلام مستضعفين كثر، سقوا كؤوس قدر مريرة أسقاما وخيبات وانكسارا. اختار القصة القصيرة فناً رائقا ممتعاً مسلّياً يتوجّه مباشرة للإنسان، يجوب مكامن الأسى يخاطب النبض والعقل والوجدان، مرآة تعكس حياة الناس فيراها المتلقي مصقولة تبين ما يجرّون من صخورٍ موجعة ثقال، سئموها حد القرف ، بها ترجم دفين طيات نفوسهم ،ولخص أعمق أفكارهم ، وطرح أبعد طموحهم، وجسّد أجمل أحلامهم. وظّف قصصه هذه سرداً نثرياً يجمع بين الحقيقة والخيال، فناً راسخاً واعياً عميقاً مركزاً مذهلاً ، يحتفي باليومي وبكل تفاصيله، تنصهر خلاله الذّات بالمجتمع، وبكلّ إشكالياته وكأنّه نقد فني للواقع الإجتماعي، مرّر به رسائل دالة وبثّ أقصى قناعاته داعياً للمساواة والحقّ ودفع الظلم والطغيان، يهدي به قصصاً مثقلة بالأوجاع، كلّ شخصية تحمل بين طيّاتها خبايا حياة شائكة وانفعالات خاصة، كيف لا؟ فالإبداع لا يتشكل إلا من رحم المعاناة، حقق ذاك بأسلوب منمق وسرد آسر ولغة أنيقة
وفصاحة مميزة، تندس إلى العقل بيسر ومرونة وذكاء. هو كاتب من العيار الثقيل، متضلّع في الحرف العربي الجميل قدير الحرف جميله
يركب سفين القص و الخيال فيستشفّ أغوار المواقف العميقة، ويقتنّص المفارقات الدّقيقة التي تحمل شحنات انفعالية، تحرّك النّاس و الحياة، فيمنح السّرد قوّة وحيويّة مذهلة، فلا يسع الشّخصية إلّا أن تحكي عن نفسها بنفسها، وتطرز الأحداث وتلونها بألوان قزحية وأيضاً تسدل عليها تأويلات لا تنتهي، بغية أن ينحت انطباع حقيقي في نفس المتلقي المتذوق، وبه يجني عبير الموعظة وشهد المتعة ووحدة الإنطباع. يزن مبدعنا جمله بميزان الذّهب يقتصدها فلا يرهلها، وبها يجسد صوراً بصرية دقيقة موازية للواقع المعاش ولدروب المكان، فيأتي سحر الحدث والمكان متناغماً ملتحماً وكأنهما واحد، هنا يؤجّج الدّهشة والتّشويق بحرفية واقتدار و خاصة عند القفلة التي تذهل بإيجازها وإضمارها تصدم بما حبلت به من مفاجآت غير منتظرة, إذا فتحت مزلاج قصصه منحت بسخاء آثاراً معرفية ووعياً اجتماعياً ينسيك مكانك ويمنحك لذّة قراءة لا متناهية، فتحسبه عاش وسط أبطاله، وانصهر في تفاصيل حياتهم، وقاسمهم الأسى دفعات، فتقرأها وتعود ثانية كمن يتفقد عبق الحبق بعد يباسه. أما لغته وعاء إبداعه جعلها ترتبط بالفكرة وبالإيحاء والإشارة لا بالوصف، ضمنها كل آليات القص المتين والحرف العتيد، رؤى وجماليات متعددة الأبعاد ودلالات مذهلة آسرة..
و في غمرة سكرات الألم رسم أبواب عدة تفضي للأمل العريض. هنا نستحضر قولة زكي مبارك المأثورة:
(إن الحياة هي كتاب الأديب، فالأدب يجب أن يكون من وحي الحياة، وإنه من الضروري أن نعيش الحياة حتى نكتب آيات الوجود.).
مجيدة السباعي
المغرب.
* (فشّة خُلق)..
ما بوسعِ المعلّم "عدنان" أن يفعلَ، إذا كان بيته يبعد كثيراً عن المدرسة التي يعلّمُ فيها؟!.. وعليه أن يستقلَّ حافلتينِ للنقلِ الدّاخلي!.. ثمَّ يتابع طريقه سيراً على الأقدام مدَّة دقائق!.
وماذا يفعل إذا عَلِمنا بأنّ الحافلة الأولى، التي سينحشر بداخلها، لا تأتي قبل السّادسة والنّصف؟!، ولا يصل إلى محطّةِ المنشيّة إلّا بحدودِ السّابعة، ثمّ عليهِ أن ينتظرَ الحافلة الثّانية!.. ولا وسيلةَ نقلٍ أخرى، يمكنه أن يستعملها، سوى "تكسي الأجرة" ويعجز راتبه بالتأكيد، عن تغطية نفقاتها!.
وما بيده إن حاول باستماتةٍ، ورغم كلّ الواسطات التي لجأ إليها، كي يعيّنهُ المُوجّه في مدرسةٍ قريبةٍ من سكنهِ، لكنّ المُوجّه يعتذرُ بحجّةِ أنّ لا شاغرَ لديهِ؟!.
ثمّ نوّهَ بأنَّ نقل الأستاذ "عدنان" من منطقةِ "عين العرب" إلى حلب، بعد، بحدِّ ذاته شيئاً عظيماً وغير قانوني، لأنّ دفعة زملائه في التّعيينِ، لم يصدر قرار نقلهم رغم أربع سنوات على غربتهم.
وما حيلته إن كان قد طلب من مديره، أن يعفيه من إعطاء الحصّة الأولى، كي لا يتأخّر على طلابه؟!.. لكنَّ السّيد المدير اعتذر، متذرعاً بالبرنامج المدرسي، الذي لا يمكن تغييره.
فكرة أن ينقل مكان سكنه، إلى منطقة أقرب، مرفوضة بالتأكيد، ذلك لأنّه يقيم وزوجته وابنتيه الصّغيرتينِ، في غرفة خانقة وضيّقة عند أهله، ولا مال لديه للإيجار أو غيره، فقد تزوّج بالتقسيط، ولم يزل يدفع من مرتبه ومرتب زوجته الأقساط المترتبة على عنقيهما.
السّيد المدير غارق إلى شحمة أذنيه بالبيروقراطية والاستبدادية، وهو في الحقيقة لا يصلح إلّا أن يكون محقّقاً، بارعاً في الطّعن والانتقام، ممّن يتجاسرون عليه، وممّن ينصاعون إليه أيضاً، فما من معلٌمٍ خدم في مدرسته، إلّا وكتب بحقّه أكداساً من التّقارير، واقترح بشأنه آلاف العقوبات والانذارات، مستعيناً (بالآذن.. الفراش) "عبد الفتّاح"، الذي أطلق العنان لأذنيه وعينيه ومنخاره، لرصد ما يحدث داخل أسوار المدرسة وخارجها.
فما إن يصل المعلّم "عدنان" إلى المدرسة ويدخل الصّف، حتّى يقتحم عليه الآذن الباب حاملاً استجواباً خطّياً من السيد المدير:
- (بيّن سببَ تأخرك المتكرّر يا أستاذ عدنان؟!.).
كان يرتبك ويحمرّ وجهه خجلاً أمام طلّابه، يجلس خلف طاولته، ليردّ على الاستجواب ويقدّم اعتذاراته الشّديدة التّهذيب، وكان ينسب تأخّره بالطبع إلى سوء تنظيم المواصلات، لكنّ المدير لم يكن يقبل هذه
الاعتذارات، فيبادر إلى كتابة تقرير مفصّل، بحقِّ المعلّم ويرسله برفقة الاستجواب، إلى المديرية، مع اقتراحات عديدة، منها إعادة الأستاذ
"عدنان" إلى الخدمة في الرّيف، إلى جانب الحسومات من راتبه.
وكان المدير الذي يتظاهر بعشقه للنظام، يسجّل ملاحظات التّأخير، في دفتر الدّوام، وكثرت الملاحظات من الموجّه بحقّه.
ضاق بمديره وتقاريره ذرعاً، وفكّر بتقديم استقالته، لكنّ دموع زوجته، ومنظر ابنتيه الصّغيرتينِ منعاه من اتّخاذ القرار، فماذا يمكن له أن يعمل إن استقال؟!.
واليوم وصل متأخراً كعادته، يبدو منزعجاً بسبب اقتطاع أكثر من ربع مرتبه الذي قبضه أمس، وما كاد يدلف إلى صفّه، حتّى اقتحمه الآذن "عبد الفتاح"، حاملاً الاستجواب الأزلي:
- (بيّن سبب تأخّرك المتكرّر يا أستاذ عدنان؟!).
تناولَ الورقة بعصبيّةٍ واضحةٍ، ولم تُخفَ هذهِ الحركة على "عبد الفتّاح" بالطبع، فقد تمكّنَ من رصدها وحفظها، جلس المعلّم خلف طاولته، وشرع في الإجابة، بعد أن تجرّأ وأشعلَ سيجارة، ممّا فجّر الدّهشة والاستغراب على وجه الآذن وعلى عينيهِ الثّعلبيّتينِ، ولم يعرف ما يفعل.. هل يهرع إلى السّيد المدير، ويطلعه على ما يحدث؟!.. أم ينتظر ريثما ينتهي المعلّم من ردّه، لكنّه في النّهاية فطنَ إلى ضرورةِ البقاء، كي لا تفوتهُ أيَّة حركة من تعابيرِ وجهِ المعلّم، الذي شرع في الرّد:
- السّيد مدير المدرسة ، المحترم:
نعلمكم عن سبب تأخّرنا لهذا اليوم..
أيقظتني زوجتي كالعادةِ، كان الفطور جاهزاً إلى جواري، ازدردتُ لقمتينِ على عجلٍ، ثمّ أشعلتُ سيجارة، لأنفثَ دخّنها على رشفاتِ الشّاي السّاخنة، كانت زوجتي تهمُّ بارتداءِ ملابسها، لتلتحقَ بمدرستها هي الأخرى، وقعت عيناي عليها، فأثارتني، مددّتُ يدي وشددّتُها، طوّقتها بذراعيّ، حاولت أن تتملّصَ منّي، جذبتها بقوّةٍ، قالت:
- سنتأخّر .
قلتُ:
- (طُز).
- سيقطعونَ عنّا الرّاتب.
هتفتُ:
- (طُز).
صاحت:
- ومديركَ.. ومديرتي!!!.
أجبتُ:
- (طُز).
- سترتفع بنا التّقارير.
- (طُز).
احتضنتها وصراخها ينبعث:
- مديركَ يا عدنان.. ومديرتي.. لن يرحمانا اليوم.
وكنتُ أهمسُ كالمحمومِ:
- (طُز) منهم.. واللعنة عليهم.. وعلى مدارسهم، وتقاريرهم، وأذانهم.. فليطردونا، وليقطعوا عنّا الرّاتب، بل ليقطعوا أعناقنا.. لكنّي لن أترككِ تفلتينَ منّي.
وهكذا يا سعادة المدير المبجٌل، أمضينا ربع ساعة من أروع لحظات العمر، استرجعنا خلالها تلكَ الأيّام الجّميلة، فأنا يا جناب المدير، كثيراً ما كنتُ أغفو، قبل أن تتفرّغ إليّ زوجتي بسببِ طفلتينا، أغفو وأنا على جمرِ الانتظار، لأنّكَ يا جناب المدير، سرعانَ ما تبرز أمامي لتذكّرني بضرورةِ النّوم باكراً، والاستيقاظ باكراً، لألهث خلف الحافلات.
أعترفُ بأنَّ سبب تأخّري اليوم، هو الاستهتار منّي واستسلامي لشهوتي، ويمكنكَ يا جناب المدير، أن تفعل ما تراه مناسباً، وليس بإمكاني سوى أن أردّد لجنابكم:
- (طُز).. والسٌلام.
وقرأ المعلّم "عدنان" الكلمة الأخيرة بتلذّذ عالي النّبرة. ففتحَ الآذن "عبد الفتاح" باب الصّفّ بقوّةٍ، وخرجَ مذعوراً، مسرعاً، راكضاً، لاهثاً، وكان الممرّ الضّيق الطّويل، وبوابات الصّفوف
والدّرج المؤدي إلى الإدارة، وسائر جدران المدرسة، والمقاعد، وقطع الطّباشير، وكلّ مافي المدرسة من أثاثٍ
تهتفُ خلفَ الآذن، وبصوتٍ جماعي، قويّ، يشقُّ عنان الصّمت، تلك الكلمة التي ارتفعت، حتّى ارتطمت بعيون السّيد المدير، وهو يقرأها فاغراً فمه على مصراعيه:
- (طُز).. (طُز).. (طُز).
حلب
* نقاد "تميم"..
صديقي.. لا أقصدُ الإساءةَ إليكَ في حديثي هذا.. فلن أُحدّثَ الآخرين عن شخصيتك، بل عن نموذجٍ أنت تمثّلُه، وإمعاناً منّي بالحرص على عدم التّشهير بك، فسوف أغيّر اسمكَ، وسأهدر خمسة عشر سنتيمتراً من طولِكَ، وأضيفُ إلى نحولِكَ عشرينَ كيلو، وإلى عمرِك خمسَ سنوات.
أعزائي..أرجوكم ألآ تهتمّوا بالشخصِ الّذي سأحدّثكم عنه، بقدرِ اهتمامِكُم بنموذجه، فتميم هذا ليس وحدَه من سلَكَ هذا الطريق في بلدنا، فهناكَ العشرات من أمثاله، وللتوضيح أقول:
- ليس الذّنبُ ذنبه فقط، بل ذنبنا أيضاً نحن البسطاء، الذين نصدّق كلّ مانراه، ونؤمن بما نسمع، لذا علينا أن نسخر من أنفسنا قبل أن نسخر منه، ونحاكم ضمائرنا وسلوكنا قبل أن نحاكمه ونحاسبه.
وقبلَ أن أبدأَ حديثي عنه، سوفَ أسحبُ وعداً منكم بعدم التّشهيرِ به، وإن تعرّفتم عليه من خلال الحوادثِ التي سأسردُها عليكم.
ترعرعَ تميمٌ في أسرةٍ غنيةٍ، محبوباً مدلّلاً، فهو الذّكر الوحيد لأبويه مع بناتٍ ستٍ. ولهذا السّبب بالذات فقد نشأ "تميم" طفولياً واتّكالياً، لا يكادُ يحتاجُ إلى شيءٍ إلاّ توفّر له، ولا يطلبُ أمراً إلاّ حصلَ عليه، ممّا كرّسَ في شخصيّتِه هاتينِ الصّفتينِ، وكثيراً ما كان يخرجُ على القواعدِ والأصولِ، فلا يرى معارضةً ولا يوقفه أيّ تأنيب، وهكذا كبر وهو لا يقدرُ أن يتحمّل أيةَ مسؤوليةٍ، وأقسم لكم إنّه حتّى اللحظة لايستطيع ُذلك وهو ابنُ خمسةٍ وعشرينَ عاماً.
وعند أدنى إبطاءٍ من قِبلِ أهلِه في تنفيذِ رغباته، كان يعصّب ويتمارضُ، فيُقلقُ الأسرة، الّتي تضّطرُ أن تنزل عند طلبهِ لكيلا يتأزّم.. ولكنّه تأزّم أيّها السّادة، وأقسمُ على ذلك فقد صار أنانياً إلى أبعد الحدود، وهو لا يدري أو ربّما يدري ولكن أعجبه حاله هذا.
كانت فرحةُ أهلهِ به لا توصفُ، عندما دخل الجامعة لكنّ هذه الفرحةَ سرعانَ ما أصيبت بمنغصات كثيرة، ذلك لأنّه ظلّ راسخاً على مقعده الدّراسيّ، في السّنة الأولى أربعَ سنواتٍ، أمّا تعليل رسوبهِ هذا فله أسبابٌ عديدة.. رفاقه يقولون:
- إنّه بدل أن بتابع دوامه في الكلّية، يداوم في المقصف.
أمٌهُ تقولُ:
- "تمتومي" هكذا تناديه كنايةً عن الدّلال، صغير بعد على الدراسة، ثمّ المستقبل بالنسبة "لتمتوم" مؤمّن له والحمد لله.
أمّا هو فيقول:
- الحقّ كلّه على أساتدةِ الكلّية، فهم أغبياء لا يعرفون أن يسألوا، ولا أن بصحّحوا، إنهم يناصبونني العداء.. وأنا أكرههم.
أمّا أقوال الآخرين عنه، فتنحصر في أنّه:
- لم يخلق للدراسةِ، لأنّه غبيٌ لا يفهم.
ولكنني أقول:
- إنّه ليس غبياً، وسوف ترون فيما يأتي.
"تميم" ممثلٌ، أو بالأصح يرغب أن يكونَ ممثّلاً، لذا فقد انتسبَ إلى فرقة المسرح الجامعي، وعمِلَ فيها لسنوات.
ولكنّه لم يحصل على أيّ دورٍ رئيسي
أو هام، وهذا ما آلمه وسبّب له عقدةً نفسيّةً، ترون نتائجها فيما يلي:
والآن أعرضُ لكم نقطةً جوهريّةً في حياة تميم، فهي لحظةُ الانعطاف الخطيرة، التي مرّ بها في الجامعة والواقع أنّ الغموض يسيطر على هذه النقطة بالذات.
فلا أحد يدري كيف اهتمّ "تميم" بالأمور الثقافية الجادة؟!.. وحضر أمسيات المهرجان الأدبي في الجامعة
؟!.. ولأوّل مرّة في حياته الجامعيّة، في ذلك اليوم، دخل "تميم" إلى القاعة
واستمع للشعراء الشّباب، بكلّ هدوء واهتمام، ولا أحد يدري أيضاً، كيف تسلّلت إلى رأسهِ ذي الشعر الكثيف والطويل والمفروق من الوسط على طريقة الفتيات، ذلك أنّه تربّى في صغرهِ تربية فتيات، حيث خرّمت أمّه أذنيهِ، ووضعت فيهما القرطَ، خوفاً عليه من عيون الحسّاد، لذلك ظلّ سلوكه حتّى اليوم قريباً من سلوك الفتيات.. أقول:
- لا أحدَ يدري كيف تسلّلت إلى رأسهِ، فكرةُ أن يكتبَ الشّعرَ؟!.. لذلك عاد إلى بيته مهموماً، يفكّرُ بطريقةٍ تصنع منه شاعراً، ممّا لفتَ انتباهَ والدتِه التي بادرته بالسؤال :
- مابكَ يا روحي "تمتوم" لا تضحك ولا تتعارك مع أخواتِكَ كعادتك؟؟!!.. هل ضايقكَ أحدَ الأساتذةٍ في الجامعة؟.
قال تميم:
- ماما.. أنا أريدُ.. بل قررتُ.. أن أصبحَ شاعراً.
- أنتَ شاعرٌ يا حبيبي تمتوم" ثمّ استدركت باستغرابٍ هذه المرّة:
- ولكن كيف؟!.. ماذا أستطيع أن أقدّم لكَ من أجلِ ذلك؟.
- تستطيعينَ يا أمّي.. بمساعدتكِ ومساعدةِ بابا، ممكن أن أكون أكبر شاعر في حلب.
ثمّ أردف:
- الشّعر يا أمّي شيء كبير، يكفي أنّ الشعراء أصحابُ مزاجيات عجيبة، وهي تستهويني.
رددت الأم باستغراب:
- مزاجيات؟!.. ماذا تعني؟!.. أبوك يقول عن الشعراء شحاذينَ.
قاطعها تميم، وكاد يهمّ بالبكاء:
- ماما.. عليكِ أن تقتنعي بكلّ شيء أقوم به، لا أريدُ معارضةً من أحدٍ، وإلاّ... وبدأت قسماتُ وجهه تتغيّر، ويداه النحيلتانِ ترتجفانِ ، كأنّه يهمّ بالبكاء.
فأسرعت الأم تقول، لتهدّأ خاطره:
- حسناً "تمتومي" لا تزعل، سوف تكون شاعراً.. أؤكد لك.
انفرجت أساريره فجأة، وأخذ يهتف في أرجاء المنزل، وهو يقفز:
- تعيش ماما.. تعيش أمّ تميم الشاعر العظيم.
لقد تلقّى أوّلَ اعترافٍ بشاعريّتهِ، قبل أن يخطّ حرفاً واحداً.
وفي اليوم التالي، دخل تميم المقصفَ
واتّجه إلى إحدى طاولاتِ شعراءِ الجامعةِ، متجاهلاً نداءتِ زملائهِ في المسرح الجامعي، الذين يتربعون على إحدى الطاولات.
ألقى التحيةَ على الشعراء، جلس بأدب جمّ، واتّجه بالحديث إلى أحدِ المشهودِ لهم بالشاعرية في الجامعة:
- أنا من المعجبين بشعرك.. أنت أفضل شاعر في الجامعة وأتمنّى التّعرف إليكَ عن قرب:
- أهلاً.. شكراً، قال ذلك بحرارة وافتخار
فقد وقع على معجبٍ به، وهذا ما يدغدغ كبرياء كلّ شاعر.
عند الانصراف، أصرّ "تميم" على
دعوة الشاعر "حسّان" إلى منزله، لتناول الغداء، وتمّ ذلك.
وكم كانت دهشة "حسان" من كلّ شيء رأه أو حصل معه ذلك اليوم.
فالمنزل فخم وأنيق ، والطعام فاخر يغصّبقطع اللحم اللذيذة و ......
فتح الباب، ودخلت امرأة لا تتجاوز الأربعينَ بكثير، تتبعها صينية الشاي، فالتفت "تميم" إلى حسّان، قائلاً:
- إنّها أمّي، وهذه أختي الكبرى"سوزان"
وتلك "رولا" الصّغرى.
وكان الترحيب حاراً بشكل واضح ، و
"تميم" يتابع حديثه:
- إنّه "حسّان" الشّاعر، صديقي الجديد، الذي حدّثتكم عنه.
- أهلاً وسهلاً.. هل أنت من هذه المدينة
؟.. قالت الأم ذلك، وكأنّها تلمّح إلى شيء ما في ثياب "حسّان".
- لا.. أنا لستُ من هنا.. أنا..
- وأين تسكن؟.
- في المدينة الجامعية.
وتظاهر "تميم" أنّ فكرة برقة في ذهنه، فهتف:
- اسمع يا "حسّان"، هل لديك مانع أن تسكن هنا معي في غرفتي؟.
وقع السّؤال على رأس"حسّان" كصاعقةٍ في عزّ الصيف.. أمنَ المعقولِ أن يحدثَ ذلك.. هل ستنتهي أيامَ الغرفةِ الضّيقةِ في المدينة الجامعية؟؟
.. وتمضي معها تلكَ الوجبات القميئة من الفلافل والجبنة والحمص و .. وشعر َبالارتباك:
- ولكن..
- لا عليكَ، ستبقى معي حتّى تنتهي دراستك.
واقتربت "رولا" الصّغرى من "حسّان" تفحّصته عن قربٍ، ثم ضحكت بخبثٍ واستهتارٍ وقالت:
- هل أنت الذي سيعلّم "تميم" كتابة الشعر؟.. هههه، قال بابا إذا علّمتَ
"تميماً" كتابة الشّعر، سيقدّم لك هديةً كبيرة.
ارتبك "تميم" و "حسّان" الذي لم يفهم شيئاً مما قالته الصّغيرة، وصرخ
"تميم":
- "رولا" اخرجي من غرفتي يا سخيفة.
وقبل أن تخرج "رولا" من الغرفة، استدارت إلى "تميم" و " ةحسّان" مادة لسانها:
- شعراء مسخرة!!.
وصار "حسّان" نزيل المنزل، كأنّه أحدُ أفرادِ العائلة يتناول أطيب الطعام، وألذّ الشراب بل تعدّى الأمر إلى علب الدخان ونقود "الخرجيّة".
تعرّف "تميم" من خلال "حسّان "،
إلى كلّ أدباء الجامعة.. ثمّ،تعرّف إلى كافة أدباء المدينة.. يدعوهم إلى بيتهِ للطعام، والنوم أحياناً، فصار صديق الجميع، وكان في كلّ مرّة يرجو فيها
"حسّان" أن يكتب قصيدة أمامه و
"حسّان" يستغرب وبتعجّب من طلب
"تميم" هذا:
- لماذا تريدني أن أكتبَ قصيدةً أمامك؟!.
- أريدكَ أن تعلّمني كيف تكتبرالقصيدة.
يضحك "حسّان" وتزداد دهشته اتّساعاً، ويسأل تميماً:
- أتظنّ كتابة الشّعر تعلّماً يا تميم ؟؟!!.. إنّها موهبة، وليست تعلّماً، حسناً.. سأدلّك على طريقة كان القدماء ينصحون بها، كلّ واحدٍ يريدُ أن يكون شاعراً.. رغم عدمِ قناعتي بها.
واستبشر "تميم" خيراً:
- رائع.. أرجوك، قل لي، ماهي النصيحة
وسوف أنفذها في الحال.
- النصيحة تقول يا صديقي (إذا أراد المرء أن يصبح شاعراً، فعليه أن يحفظ عن ظهر قلب، عشّرة آلاف بيت من الشّعر القديم).
تغيّرت قسمات "تميم".. وردّد بتعجّب.. عشرة آلاف بيت شعرٍ قديم
!!!.. ولكن.. كيف لي أن أحفظها؟!.. خاصة وأنا لا أحبّ الشّعر القديم؟!!.. لا سيّما الجاهلي منه.. ثمّ هذه المسألة تحتاج إلى وقت وجهد كبيربن.. وأنا أريد أن أكون شاعراً بأسرع وقتٍ ممكن.
- ولماذا العجلة يا "تميم"؟!.. لا تظنّ كتابة الشعر بهذه السهولة.
قال تميم:
- أنت لا تريد أن تساعدني يا "حسّان". ونهض مسرعاً إلى أمّه، وكأنّه يهمّ بالبكاء.
عندما أعلن المكتب الإداري في الجامعة، عن بدء تقديم الأعمال الأدبية
من أجل المهرجان سارع "تميم" لكتابة أوّل قصيدة له، مزّق عشرات الأوراق.. دخّن كثيراً.. تناول أكثر من خمسة فناجين قهوة.. وثلاث حبوب "تامرين"
.. أوصد على نفسه باب الغرفة، خلع سترته أولاً.. ثمّ بنطاله.. كرع كأس ماء بارد.. استلقى فوق السرير على بطنه، فكّر كثيراً.. تقلّب.. خرج من الغرفة.. دخل الحمّام.. ثمّ خرج مسرعاً، وهو يصرخ:
- وجدتُها.. وجدتُها.
كتب عنوان القصيدة.. ثمّ تصفّح العديد من المجموعات الشعرية التي اقتنع بضرورة قرأتها أخيراً، من"حسّان"
.. إن كان جاداً في رغبته بأن يكون شاعراً.
وأخيراً بدأ يكتب القصيدة:
(أحبّكِ.. وأموتكِ)
أرتكبُ وجهي عندَ المرايا
أنا القطار المشظّى بالرّجال
المعبأ بالجبال.. والشّمال
ألّوح بأقدامي عند الوداع
ضربوني على نحلتي
فصارت وردتي مملكة الحجل
ولم يبقَ من أصابع حبيبتي إلاّ الخواتم
لقد رأيتُهم يا أبي، لم يكونوا
أحدَ عشر قمراً لي ساجدين
تلك حكمة الأجزاء منّي.
لا أريد أن أكتب لكم القصيدة
بكاملها، لأنكم اطّلعتم عليها على ما أعتقد.
وبهذه القصيدة طلب من صديقه
"حسان" أن يقدّمها إلى اللجنةالمسؤولة
عن إعداد المهرجان، وعندما قرأها
"حسان" ضحك وقال:
- ولكن يا تميم هذه الكتابة ليست شعراً.
قال تميم والانزعاج واضح عليه:
- حسان.. أرجوك دعني أشارك في الملتقى، وأنا الذي سيتحمّل المسؤولية.
ولبّى صديقه الطلب حياء.
نزلت بطاقات الدعوة للمهرجان، وبمعونة الأصدقاء كان اسم "تميم" من بين الأسماء المشاركة.
كان الحشد كبيراً، كما هي العادة، عندما صعد "تميم" إلى المنصّة، وبدأ يلقي قصيدته، إنّها فرصته ليتخلّص من عقدته النفسيّة، التي خلّفها عمله في المسرح الجامعي، ورغم كلٌ أفانين التمثيل التي تعلّمها من المسرح، فقد كان إلقاؤه متعثراً، مليئاً بالأخطاء النحوية، ولعلّي ألتمس له العذر إنّها أول تجربة له من هذا النوع، لكنٌ الجمهور المثقف، جمهور المهرجان، لم يحتمل ذلك، فانتشرت الضوضاء بين الصفوف المتململة الضّجرة، وعلت الهمسات تشتم الشاعر وتسخّف عمله الشّعري، وتسبّ اللجنة التي أخرجته، وظهر ذلك بشكلٍ جليّ حينما بدأ الحوار، حول القصائد المشاركة، حيث انصبّ وابل النقد والسخرية على تميم وقصيدته، وأخطائه الفادحة من كلٌ مكان، حتى إنّ أحدهم نصحه بالعودة إلى سلك التمثيل، لأن ذلك أفضل له.
ولكن ما حدثَ بعد ذلك فاق المعجزة إذ بدأت اللجنة النقدية المؤلفة من أهم أساتذة كلّية الآداب، إضافة إلى ناقد شاب عضو إتحاد الكتاب العرب، بدآت تناقش في الأعمال المقدمة. تحدّث الدكاترة حول الأعمال، ثم جاء دور الناقد المعروف، فقال:
- إنّ ما سمعناه اليوم من الشعراء الشباب كان شعراً رديئاً باستثناء قصيدة هامة قدّمها الشاعر الشاب "تميم".
في الشعر ثمّة نصوص تتطلّب نقداً عادياً بعاديتها، وثمّة نصوص أخرى تعلّم الناقد كيفية النقد.. وقصيدة الشاعر تميم من هذا النوع الثاني، فهي تحمل حساسيتها وشفويّتها، مندغمة بالواقع المعاش حالياً بشكل تراتبي ديناميكي، لقد أثارني "تميم" حقاً، لأنّه يكتب قصيدته بطريقة مغايرة وشموسة.
كان حديث هذا الناقد الشاب مفاجأة فعلاً، وكان حديثه نصف معجزة، أمّا النصف الأخير للمعجزة، فقد كان عندما تراجع الدكاترة عن آرائهم في قصيدة تميم، وفي تأيدهم لكلام ذلك الناقد.
أمام هذا الأمر ة،كانت ردّة فعل المدرج
كبيرة، فمن سائل ومن مستغرب:
- كيف يقول الأستاذ الناقد هذا الكلام؟!
- هل أصبح رصفُ الكلام السّخيف شعراً؟!
وانقسم جمهور المدّرج والأدباء إلى قسمين، بين مؤيد ومعارض، ومع ذلك فقد منح "تميم" الجائزة الأولى.
أمام باب الخروج، سمعتُ "حسّان" يقول لتميم:
- تميم.. لا تنخدع، فأنت لست شاعراً.
ابتسم "تميم" بكبرياء، وقال:
- بل أنا أكبر شاعر في سوريا.
ومضى "حسّان" إلى المدينة الجامعية
،رافضاً العودة إلى منزل"تميم".
وبعد هذا اليوم ، صار منزل "تميم" محطّة لكلٌ الأدباء الشباب والكبار في المدينة، بل لأدباء ونقاد ومحرري الصّحف والمجلّات في العاصمة.
وبرز اسم "تميم" في عالم الأدب، وصار له جمهوره ونقاده وصحفه و ....
وتميم صديقي يضحك في سرّه، ويقول لي:
- انظر إلى هؤلاء.. لقد اشتريتهم جميعهم، إنّهم أُضحوكتي.. فأنا بصراحة لا أحبّ الشّعرَ ولا الشّعراء.
حلب
* باثور رئيس المخفر..
في صباحٍ مشمسٍ، وبينما كان رئيس المخفر، (أبو رشيد) يجلس على كرسيه، فوق المصطبة، عند باب المخفر، حيث كان يدخن، ويتلهى بمراقبة القرية القريبة، عبر منظاره الجديد، وإذ به يلمح رجلاً قروياً يتّجه إلى العراء، وحين ابتعد عن الأنظار، تلفت يمنة ويسرة، ثمّ رفع (كلابيته) على عجلٍ، قرفص وخلال دقيقة تناول من قربه حصوة، مسّح بها ثمّ نهض.
استرعى هذا المنظر، اهتمام رئيس المخفر وفضوله، فصرخ على الفور
ينادي (الرقيب خليل)، ولمّا خرج إليه (خليل)، أمره قائلاً:
- إذهب إلى هناك.. وأشار بيده صوب القرية، ناحية القروي..
- أحضر ذاك البدوي بسرعة.
امتطى(الرقيب خليل) حصانه، وانطلق صوب القرية مسرعاً.
كان الرجل القروي، قد اقترب من قباب القرية، حين ناداه الرقيب:
- قف.. عندك.. لا تتحرك.
انبعثت رعشة عنيفة في أعماق القروي ، تلعثمت كلماته:
- خير يا وجه الخير!!.. ماذا تريد؟!
- امشِ قدامي إلى المخفر .. هيّا تحرك.
تضاعف الخوف في أعماق القروي
وأراد أن يستفسر:
- ولكن لماذا ياوجه الخير.. أنا لم أفعل شيئاً؟!.
صاح (الرقيب خليل) من فوق حصانه الذي لم ينقطع لهاثه، بعد:
- تحرّك يا كلب ..قسماً سأنزل وأدوسك بحذائي.
- لكن يا سيدي..
لم يتركه يكمل كلامه ، فقد اقترب
منه، وهوى عليه بسوطه.. صارخاً:
- تحرّك.
كان القروي يتعثّر بخطواته بين الفلاة
والرقيب من فوق حصانه، يحثّه مرّة على العجلة، ويسوطه مرّة أخرى.
اقترب من رئيس المخفر، فتطلّع الرجل إلى (أبي رشيد) بهلع، بينما كانت مفاصله ترتعش.. رمقه رئيس المخفر بنظرة صارمة، ونهض:
- الحق بي إلى مكتبي.
حين أغلق رئيس المخفر الباب على الرجل، المرتعد الفرائض،أيقن أن جريمة
فظيعة، سوف تنسب إليه.
غير أن رئيس المخفر ، نظر إليه وابتسامة لزجة ارتسمت تحت شاربيه:
- ما اسمك؟.
- أنا يا سيدي.. اسمي..(خميس) أبو حسين.
- أريدك يا أبا حسين، أن تحدّثني بصراحة.
واندفع (خميس) ليقسم لرئيس المخفر، وكان الخوف قد بلغ ذروته:
- أنا والله لم أفعل شيئاً.
ابتسم رئيس المخفر، أدرك أنه رجل ذو هيبة، يخافه الجميع:
- لقد شاهدتك وأنت تقرفص(وتفعلها) بسرعة.
علت الدّهشة وجه (خميس) همس كمن يقر بذنبه:
- نعم.. فعلتها.. لماذا أكذب؟!.. ولكنني لم أكن أعرف أن هذا ممنوع.
صرخ رئيس المخفر:
- اسمعني يا غبي.. لا تقاطعني.. الحكومة لا تمنع مثل هذه الأمور، لأنها لا تعتبر من الأعمال السياسية.
ثم استدرك محاولا شرح الموقف ، للمواطن (خميس)، الذي لم يزايله الخوف حتى الآن:
- أنت - فعلتها - بسرعة، وأنا أمضي أكثر من ساعة في المرحاض، أريدك أن تساعدني حتى أستطيع أن - أعملها - مثلك، بعجلة.. أنت لا تعرف كم أنا أعاني وأتعذّب كلّ يوم.
بعد جهدٍ استطاع المدعو (خميس) أن يفهم مايريده منه رئيس المخفر، ولأول مرّه يزايله خوفه، ويتجرأ ويرسم على شفتيه اليابستين شبه ابتسامة:
- أمن أجل هذا أرسلت في طلبي؟!.
- نعم.
- بسيطة.. يا سيادة رئيس المخفر.. القضية في غاية السّهولة.
وهنا استبشر رئيس المخفر، خيراً، فهتف بفرحة:
- كيف؟؟؟؟؟.. قل لي.. أرجوك.. فأنا أتعذّب.. وأضيع معظم وقتي داخل المرحاض.
تضاعف شعور (خميس) بثقته بنفسه، فها هي الحكومة بكلّ جبروتها وعظمتها وهيبتها،تلجأ إليه وتستشيره
في قضية على غاية من الأهمية.. لذلك أجاب:
- أنا يا سيدي.. عندما أتضايق، أحاول أن أؤجلها.. وكلّما تضايقت أضغط على نفسي، حتى - أحمّصها -، وعندها أهرع إلى البريّة، وخلال دقيقة أكون قد انتهيت.
ابتسم رئيس المخفر.. شعر بالراحة والسعادة، أخيراً سيضع حداً لهذا العذاب المضني، وأقسم في أعماقه، أن يكافئ (خميس) إن نجحت وصفته هذه:
- إذاً عليّ أن - أحمّصها -، أليس كذلك؟.
- نعم سيدي.
في اليوم التالي، رفض رئيس المخفر أن يدخل دورة المياه، قبل أن يغادر ببته. توجه إلى المخفر، وهو يشعر بالضيق بعض الشيء، لكنه سينفذ ماطلبه منه(خميس)سيحمّصها.
وحين دخل إلى مكتبه، استدعى كافة عناصره، كعادته، ليشربوا الشاي.. لكنه سرعان مابدأ يتململ في قعدته، فوق كرسيه، ومع هذا كان يردد بداخله:
- ليس الآن.. عليّ أن أنتظر، حتى - أحمّصها-، (خميس) قال لي هذا.
مضى كثير من الوقت، وهو يثرثر مع عناصره، محاولاً كبح مؤخرته، عن الانفجار.
أخيراً، شعر بمغصٍ شديد، مغص لا يقاوم، كأنه الطّلق.. نهض عن كرسيه، حاول أن يتجاوز كراسي عناصره بسرعة، لكنّ صمام الأمان أفلت منه، فها هو وقبل أن يفتح الباب يفرقع بقوة، كانت (ضرطته) بقوة انفجار قنبلة.. أحسّ بالخجل الشديد، لم يلتفت صوب عناصره، الذين تغامزوا، وضحكوا بعد خروجه.
وفي الممر.. ممر المخفر الطويل، وقبل أن يصل إلى بيت - الخلاء - حدث ما لم يكن في الحسبان، لقد - فعلها - في بنطاله.. ياللعار.
أقسم أنه - سيفعلها - في فم (خميس)، حلف أنه - سيخصيه -، سيدق رأسه، سيرميه في الزنزانة، وسيجعله عبرة لكلّ الناس.
وبعد أن غير بذته العسكرية، رمق عناصره بنظرات حادة وصارمة، أخرست ضحكاتهم المكتومة، أمر الجميع، باحضار المجرم (خميس).
خرجت كوكبة من رجال الشرطة، هرعوا إلى الاسطبل الملاصق للمخفر، امتطوا جيادهم بسرعة، لكزوا الخيول، فانطلقت محمحمة باتجاه القرية .
حاصروا بيت المدعو (خميس)، صاحب النصائح الكاذبة، المخادعة، داهم (الرقيب خليل)، وبعض العناصر، القبّة الكببرة، انطلقت صرخة ذعر من امرأة، كانت تغتسل عند العتبة، حاولت أن تستر عريها، لكنّ (الرقيب خليل) الذي حاول أن يتراجع، كان يحدّق بانشداه تام، إلى هذا الجسد العاري المثير، والذي تفوح منه رائحة الصابون، وبخار الماء السّاخن.. وتحيّرت عيناه أين ستركزان النظر، على النهدين الصاعقين
أم على الفخذين المكتنزين.
صاحت المرأة، لتوقظه من دهشته، واشتعال شهوته:
- ماذا تريدون؟!.
زأر (الرقيب خليل)، المتأجج بشهوته:
- نريد.. المجرم (خميس). صاحت وهي تحمي نفسها، بثوبها:
- هل صار زوجي (خميس) مجرماً.. ماذا فعل؟!.. ثم أردفت:
- هو ليس هنا.. غير موجود.. نزل إلى حلب.
مدّ (الرقيب خليل) رأسه أكثر، ليستجلي المكان بدقة، وكانت نظراته تنهشان الجسد العاري، رغم تستر المنطقة المهمة بالنسبة له، واستطاع رفاقه أن يدلفوا جميعهم ودفعة واحدة
إلى القبة الطينية، تسبقهم شهواتهم المتقدة بقوة. فصرخ (الرقيب) بوجه المرأة، ليطيل الوقت أكثر:
- إذاً فعلها زوجك (خميس) وهرب.. ولكني سأجده، وحق المصحف.. سأجده.. لن أتركه يفلت منّي.
شعرت المرأة بذعر شديد.. وكانت قد نسيت ما عليها من عريّ.. سألت:
- ماذا فعل (خميس).. أخبروني؟!.
- المجرم خدع رئيس المخفر.. وهرب.
عندما عاد عناصر الشرطة، بقيادة الرقيب، إلى المخفر، وكان قائدهم بانتظارهم غير مصطحبين معهم غريمه القروي، ثار عليهم وراح يوبخهم، لأنهم عادوا من دون (خميس)
مبالغاً بغضبه، لكي يواري خجله منهم، ولأنه لم يعد يطيق أية نظرة توجه إليه، من أحد عناصره، فقد عاد وأمرهم أن يخرجوا إلى الطريق، وينصبوا كميناً ، بانتظار (خميس) وأقسم لهم بأنه سيعاقبهم إن لم يستطيعوا القبض عليه اليوم.
حين وصل (خميس) مكبلاً، مدمى
الوجه وممزق الجسد، وكان هو الآخر قد - فعلها - في بنطاله من شدّة خوفه وهول ماتلقاه من ضرب مبرح، حين قبضوا عليه، بعد أن نزل من السيارة، العائدة من حلب.
ولمّا صرخ رئيس المخفر بوجهه الشديد الشحوب:
- أتضحك عليّ يا صعلوك؟!.
رد بصوت منكسر، فيه من الخوف والرجاء الشيء الكثير:
- ولكن يا سيدي.. أرجوك أن تدعني أشاهد البنطال.
استغرب رئيس المخفر طلبه هذا، لكن (خميس) أصرّ وكرر رجاءه..
باحضار البنطال.
فأمر رئيس المخفر عناصره، و على مضض منه، باحضار البنطال فوراً.
وحين أمسك (خميس) بالبنطال المبلول، والكريه الرائحة، نظر إليه ملياً
.. قربه منه.. تفحصه بشدة، تشممه.. وعاود الشمّ، ثمّ مدّ أصبعه، وأخذ من البنطال عيّنة، ورئيس المخفر وعناصره
يراقبونه، باندهاش وحيرة، ثم فاجأهم (خميس) حين وضع أصبعه وما عليها من براز، في فمه، حيث لحس أصبعه، تذوق ما كان عليها، ثم التفت إلى رئيس المخفر، وقال:
- أنا قلت لك يا سيدي، أن - تحمّصها - ولكنك يا سيدي.. أنت للأسف الشديد، قد أحرقتها ، وهذا ليس ذنبي.
حلب
* الضّحك على اللحى..
قال لي أحدُ الشعراء الكبار، ممّن يحتلّون مكانة مرموقة في خارطة الشعر العربي الحديث، بعد أن شكوتُ له صعوبة النشر، التي أُعانيها وزملائي الأدباء الشباب:
- هذا لأنّكم لا تفهمون قواعد اللعبة!!.
قلت بدهشة:
- كيف!.. علّمن.. أرجوك.
ابتسم شاعري الموقّر، وأجاب:
- عليكَ أن تكتب دراسات نقديّة، عن أولئك الذين يتحكمون، بحكم وظائفهم
في وسائل الإعلام، فكلُّ المحررين ورؤسائهم، في الأصل أدباء، اكتب عنهم مادحاً، وستُفتحُ لك أبوابُ النّشر على مصاريعها.
وقبل أن أعلّق على كلامه.. تابع يقول:
- عندي فكرة، مارأيك أن تكتب دراسة عن مجموعة "قطار الماء"، التي صدرت مؤخراً، ألا تعرفُ "رمضان النايف" صاحب المجموعة؟؟ هو رئيس تحرير
"وادي عبقر"، وهي تدفع "بالدولار".
اقتنعت بالفكرة مكرهاً، فأنا قاص. ماعلاقتي بالكتابة النقدية عن شعراء الحداثة!.
غادرت مقهى "الموعد"، ودلفتُ إلى المكتبة (الأقصىٰ) المجاورة، ولحسنِ الحظ لم أعان من البحث عن المجموعة كثيراً، غير أنّي فوجئتُ بارتفاع ثمنها.
عندما أبصرت زوجتي المجموعة في يدي، صاحت مستنكرة:
- ماذا تحمل؟!.. هل عدتَ إلى شراءِ الكتب؟.
ابتسمتُ لعلّي أُخففُ من غلوائها، فهي سريعة الغضب، وسليطةُ اللسان، تزوجتني بعد أن أعجبت بكتاباتي، وأنا لا أنكرُ وقوفها إلى جانبي وتشجيعها لي في السّنة الأولى من زواجنا.. كانت توفّر لي الوقت الملائم للكتابة، لكنها سرعان ما تغيرت بعد أن حطّ مولودنا الأول بعبئه على أعناقنا، خاصةً وأنها كانت تُتَابعُ ما يصلني من ردود الدوريات العربية والمحلّية، حاملة الكلمة ذاتها، بالأسلوب ذاته:
- "نعتذر عن نشر قصّتك، لأنّها لا تنسجم وقواعد النشر في المجلة، وفي الوقت عينه، فإنّ هيئة التحرير، ترحب بأية مساهمات أخرى، تردها منكم.
في البداية كانت "مديحة" تلومني
لأنّي لا أجيد انتقاء القصة المناسبة لكل مجلة.. لكنها عندما وجدت أن هذه العبارة، تكررت على جميع قصصي المتنوعة الأغراض، أيقنت أنّي كاتب غير موهوب، ولهذا أخذت تطالبني بالبحث عن عمل إضافي، بدلاً من تضيع الوقت في كتابة لا طائل منها، فقدت إيمانها بموهبتي، وراحت تعمل على قتل هذا الهوس الذي تملكني منذ الصغر.
وخلال فترة وجيزة، تحوّلت "مديحة" إلى عدو للأدب، فأخذت تسخر من كتاباتي، وباتت تعيّرني بما يردني من اعتذارات، وصارت تضيق بكتبي، ومن الأمكنة التي تشغلها.
ذات يوم عدتُ لأجد جميع ما أملكه من كتب، ومادبّجتهُ من قصص قد
تكوّمَ على السقيفة، إلى جانب المدفأة.
ولكي لا أفكر بالكتابة مرّة أخرى، صمّمت على أن تبعدني عن أصدقائي الأدباء، فسلّطت عليّ إخوتها، لكي يرغموني على مشاركتهم في اللعب بورق الشدة، وطاولة الزهر، واستطاعت أن تجبرني، على العمل مع أخيها سائق الأوتوبيس، كمعاون له أجمع أجرة الركاب، وأنادي بصوت عال خجول:
- جامعة.. سياحي.. سيف الدولة.
وهذا ما جعلها اليوم تدهش، حين رأتني أدخل وبيدي المجموعة الشعرية.
قلت لها:
- اسمعي يا مديحة.. هذه المجموعة سوف تفتح لي آفاق النشر.
ذهلتُ.. لقد ضمّت المجموعة خمس
قصائد، وأطول قصيدة تتألّف من عدّة أسطر. وكلّ سطر يتكوّن من مفردة واحدة، وقد يرافقها إشارة تعجّب أو استفهام، أو بعض نقاط. ولكي أكون منصفاً عليّ أن أصف المجموعة بدقة.
بعد الغلاف الأول، تجد على الورقة الأولى، عنوان المجموعة، واسم الشاعر. تقلب الصفحة. تطالعُك عبارة - جميع الحقوق محفوظة - تنتقل إلى الصفحة الثالثة فترى عنوان المجموعة مكرراً بشكل مجسّم، تأتي إلى الرابعة، فتقرأ:
- صمم الغلاف الفنان العالمي"ديكاسو" وعلى الخامسة يبرز أمامك الاهداء - إلى أصحاب الكلمة الملساء -. وفي الصفحة السادسة، تعثر على تنويه هام:
- الرسوم الداخلية، لوحات لفنانين عالميين.
وسوف تستوقفُك على الصفحة السابعة، ملاحطة ضرورية جداً بالنسبة للنقاد:
- كتبت هذه القصائد ما بين حصار
بيروت، وحرب الخليج الأولى.
في الصفحة الثامنة، ستقع على مقدمة
نقدية، كتبها أحدُ النقادِ البارزين، الذي يستطيع أن يرفعَ ويحطّ من قيمة أيّ أديب كان على وجه المعمورة،
استغرقت تسع صفحات. وعلى متن الصفحة السّابعة عشرة، ستحطّ الرحال على مقدمة أخرى، ولكن بقلم الشاعر نفسه،يتحدّث فيها عن تجربته الشعرية
الفريدة، وعن ذكرياته الأليمة في المعتقل، يوم تعثّر بإحدى الطاولات وحطّم ماعليها، وهو في حالة سكر شديد، مّما دفع السّلطة التي لا تميز بين الفنان المبدع والإنسان العادي، إلى زجه بالسجن،مثله مثل باقي المجرمين
وكان عدد صغحات مقدمته ثلاث عشرة.
وهنا تنتقل إلى الصغحة التالية، تقرأ عنوان القصيدة الأولى:
- طار القطار غوصاً -
بعد العنوان الذي انفرد بصفحة كاملة،
تقع على القصيدة التي تتألف من ست مفردات، توزعت على ستة أسطر:
- (حدقت/في/شهوتي!!/وقلتُ:/
صباح/الخير/).
وتنتهي القصيدة.
ولأنّ القصيدة، أو لأنّ معناها تافه وبذيء، وجدتني أصرخ:
- مديحة.. أرجوك أريد قهوة.
وتصاعف غيظي أكثر، حين تناهى إليّ صوت "مديحة" الساخر:
- حاضر يا زوجي العزيز.. يا مكتشف اللعبة والمفاتيح.
وحتى لا أشردَ عمّا كنتُ عازماً على تنفيذه، عدتُ لأتابع قراءتي.
على صدر الصفحة الرابعة والثلاثين،
ستبصر لوحة فنية مغلقة، مستعصية.
وتتهادى إليك الصفحة الخامسة والثلاثون، حاملة معها..عنوان القصيدة
الثانية:
- تضاريس السّحاب -
ليطالعك الإهداء على الصفحة اللاحقة:
- (مهداة.. إلى كلّ جندي على تخوم الهزبمة).
أما الصغحة السابعة والثلاثون، فقد فخرت بحمل العنوان من جديد، وبشكل فني مختلف، وأسفل العنوان، استلقت قصيدة طويلة:
- (عواء/الليل/أرعب/أحرفي../ أوقدت/ أصابعي/للكتابة../و../فجأة/ قفز/القلم/حين/اعتقلتني/ أوراقي/.).
وبما أنّ القصيدة كانت مطولة، احتلت ثلاثة عشر سطراً، فقد اقتضى ذلك أن تمتد لتصل إلى الصفحة الأربعين.
وضعت "مديحة" فنجان القهوة، على الطاولة التي نستخدمها لكل شيء، وقالت:
- ألم تباشر بدراستك التي ستفتح علينا ليلة القدر؟! حاولت أن أكظم غيظي، فأجبت:
- لم أنتهِ من قراءتها بعد، لكنها تبدو لي مجموعة سخيفة.
تراجعت مديحة بعض الشيء:
- سخيفة أم جميلة.. أنت ماذا يهمك؟.. المهم أن يفسحوا لك مجالاً للنشر.
- ولكنّي سأنافق يا مديحة، وأنا..
وهنا قاطعتني بانفعال:
- أنت ماذا؟.. أنا أعرف أنه لا يعجبك العجب، مَن منَ الكتّاب يعجبك؟.. بما فيه أصدقاؤك!!.
ومن حسن الحظ، صرخ ابننا، بعد أن
سمعنا ارتطام جسمه فوق أرض المطبخ، وهذا ما أنقذني من لسان
"مديحة" التي ركضت كمجنونة، فعدت إلى المجموعة.
وسيراً على قوانين المجموعة ونظمها،
ستركض الصفحة التالية بمثابة فسحة للتأمل في الفراغ الأبيض، وقد توحي بمقص الرقابة التقليدي،في حين رفعت
الصفحة الثالثة والأربعون عقيرتها، لتعلن عن عنوان القصيدة الثالثة:
- خرير السّراب -
وتخرج إليكَ القصيدةُ، في الصفحة الرابعة والأربعين:
منظومة على صفحة ونصف، ممتدة على ثمانية أسطر:
- (نافذتي/مغلقة/على/هواجسي،/ و
أنا/والنار/متشابهان/بجليدنا).
هنا نكون قد وصلت إلى الصفحة السادسة والأربعين، وكما جرت العادة، سترقص أمامك لوحة فنية جديدة، وإلى جوار اللوحة، على صدر الصفحة الأخرى كان عنوان القصيدة الرابعة:
- نحن أصل الفراغ -
أما القصيدة التي احتضنتها الصفحة الثامنة والأربعون، فقد كانت مؤلفة من جملة واحدة، توزعت على ثلاثة أسطر:
- (حفيف../الشوق!!../الصامت؟.).
باغتني صوت مزمار الأوتوبيس، فأدركت أن "هاشم" شقيق زرجتي جاء ليأخذني معه إلى العمل،وسمعت صوت
"مديحة" التي فتحت باب المنزل، تنادي على أخيها أن ينزل من السيارة، ويدخل ليتناول الغداء معنا، لكنّ "هاشم" مستعجل، لذلك طلب أن أخرج إليه، دخلت"مديحة" قائلة:
- ألم تسمع صوت "الزمور"؟.. أجّل كتابة مقالتك إلى الليل.
ولأني لا أطيقُ هذا العمل وأخجل منه، فأنا مدرس، أصادفُ الكثيرين من طلابي، وكم أعاني من العذاب والحياء حين آخذُ منهم الأجرة، ولهذا وجدتها فرصة لأتنصل من العمل:
- لن أشتغل اليوم.. قولي "لهاشم" أن يأخذ أخاك "صلاح".
صاحت مديحة:
- إذا كنت لا تنوي الكتابة، فلماذا لا تريد أن تشتغل؟!.
قلت، لكي أطمئنها بعض الشيء:
- حتى الآن لم أتخذ قراري برفض
الكتابة.
- يعني هل ستكتب؟.
أجبت وأنا كلّي حيرة:
- سأحاول.. سأحاول.
عدت إلى الديوان، وجرياً على العادة تشاهد في الصفحة الخمسين، لوحة فنية تتربع، يليها العنوان العريض للقصيدة الخامسة والأخيرة:
- أهازيج الموت -
وخلف هذا العنوان، على الصفحة الواحدة والخمسين، إهداء حار:
- (إلى لوزان وعينيها..).
ثمّ تتبدّى القصيدة على الصفحةالتالية:
- (الصبح/أصبح/يا../رندة/والقلب!/
تثاءب!!/بنشوى/ذكراك.).
وكما تلاحظ فقد احتلت القصيدة صفحة ونصف، لأنّها توزعت على ثمانية أسطر.
على شغف محترق للوصول إلى الفهرس، تقفز الصفحتان لتحتوياه.. ثم تنفردُ الصفحة السادسة والخمسون بخصوصيتها، في عرض ما صدر للمؤلف.. وفي الصفحة التي تتبعُها، كُتبت عناوين المجموعات التي تحتَ الطبع للمؤلف:
1 - الوردةُ القادمةُ من حتفها.
2 - أجهشت بشذاها المعطوب.
3 - وانكسرَ الأريجُ على جناحي فراشة.
4 - فاستفاقَ غبارُ الطّلع.
ولقد خُصصت الصفحة الثامنة والخمسون، والتي بعدها، من أجل التصويب الذي سقط سهواً.
تنتهي الصفحة الأخيرة من المجموعة، بتقاريظ تحت عنوان:
- مقتطفات ممّا سيكتب عن المجموعة:
- (لقد حلّق الشاعر "رمضان النايف" في
مجموعته هذه، إلى مافوق العالمية
بعشرة أمتار وسبعة مليمترات.).
امرؤ التيس.. جريدة اللف والدوران.
- (الحداثة عند رمضان النايف، حداثةُ وعي ومغامرة، ترتبط بالتراث التليد، بقدر المسافة التي تبتعدُ عنه.).
مجلة: نواجذُ النقد.. المتخبّي.
ولأنّ الصفحة انتهت، اضطرت دارالنشر
حرصاً منها على أهمية ما سيقال،لكتابة
التعليقين الآخرين، على الغلاف
الخارجي، تحت صورة الشاعر الباسم:
- (لقد أبصرتُ، بعد عمىً طويل، ذلك الزخم الفلسفي، الذي يغلي ويبقبقُ في سطور المجموعة.).
- أبو العلاء المغري.. في حوار له بعد عودته من بغداد.
-(كلما قرأت رمضان النايف، أشعر أنني مبتدئ في كتابة الشعر.).
جريدة: صوت الكلمة الفارغة.. أبو الدعاس.
ولكي لا نقول عن دار النشر، إنها نرجسية، تحبّ المدح، فهاهي تثبتُ نقداً حاداً "لعباس محمود العياض"، كتبه في مجلة الكلمة المشنوقة من أهدابها:
- (في المجموعة ثمة نقص واضح للعيان، فأين الصفحة التي تخصص عادة في كل الكتب، وهي هامة للغاية، ألا وهي - صدر عن دار النشر. أرجو من دار النشر العظيمة الصيت أن تتلافى مثل هذا الخطأ القاتل.).
عندما دخلت "مديحة ً، وجدتني قد مزقت كل ماكتبته من قصص، وقبل أن تستفيق من دهشتها،خاطبتها:
- أنا مستعد أن أعمل مع "هاشم" مثل الحمار.
اقتربت "مديحة" مني، لمحتُ حزناً في عينيها، لمحتُ عطفاً، حباً، دمعاً ساخناً مثل دمعي، مسّدت شعري، ضمّت رأسي إليها، أنهضتني من فوق كرسيّ، مسحت دمعتي بباطن كفّها، التقت نظراتنا، اختلجت شفاهُنا، تدانت، وسرى فيها اللهب.
حلب
* التّحدّي..
كان عائداً من عمله، منهكاً لا يقوى على جرّ نفسه، فتحت له"مريم" الباب، وهتفت بفرح واضح:
- "رضوان".. أنا أعرف كتابة اسمي، ظنّها تهلوس فهي أمّيّة مثله، فسألها ساخراً:
- وكيف تعلّمتِ الكتابة يا عبقريّة .
- من "سميرة"، هي التي علّمتني.
خفق قلبه، أمعقول هذا؟!.. هل يمكن له أن يتعلّم، وهو ابن الثانية عشرة، وبرقت في ذهنه فكرة، سرعان ما كبرت، قبل أن يخطو عتبة الغرفة:
- (سأعرض على "سامح" أن يعلّمني، سأرجوه إن رفض. سأشتري له "البوظة").
وفجأة.. شعر برغبة عارمة، في رؤية "سامح"، قرر أن يذهب إليه حالاً
وقبل أن يغسل يديه ووجهه من الغبار والعرق، ودون أن يغيّر ثيابه المهترئة والمتّسخة، قفز مسرعاً بينما كانت أمّه تعدّ له طعام الغداء.
دخل بيت عمّه "قدّور"، وجد "سامحاً" محنيّاً على كتابة وظائفه، فقال بسرعة:
-"سامح" أريدك أن تعلّمني كتابة اسمي.
رفع "سامح" رأسه نحوه ، وارتسمت ابتسامة ساخرة على شفتيه:
- تعلّم الكتابة صعب عليك.
- ولماذا صعب؟!. هكذا سأل بحنق.
- صعب.. ثمّ ماذا ستستفيد إن تعلّمت كتابة اسمك؟!.
- سأستفيد، سأتعلّم كتابة اسمك واسم أبي وأمي و مريم وسميرة أيضاً.
ضحك "سامح"، فاغتاظ "رضوان" وقد أدرك شعور ابن عمّه بالتفوق عليه، فأحسّ نحوه بكرهٍ شديد، غير أنّه وفي هذه اللحظة لا يريد إغضابه، وهو على أيّ حال قادر على ضربه، لذلك كبح حنقه:
- ماذا قلت؟؟.. هل أنت موافق؟.
هزّ "سامح" رأسه علامة الموافقة، وبقيّ صامتاً يتطلّع إلى الأرض، كأنّه يفكّر بشيء ما.
- إذاً هيّا بنا.. تعال علّمني.
- لا.. ليس الآن، سأعلّمك ولكن فيما بعد.
- ولماذا فيما بعد؟!.. أنا جاهز الآن.
سأل بلهفة من فقد صبره.
- اسمع يا "رضوان"، هناك فتى في صفّي يزعجني كلّ يوم، وأنا لا أقدر عليه، أريدك أ تنتظره عند باب المدرسة وتضربه.. هذا هو شرطي، لكي أعلّمك، فما رأيك؟.
صرخ "رضوان" دون تفكير، فلقد شعر بالنشوة والاعتزاز بنفسه، "فسامح" يعترف بقوته، بشكل غير مباشر:
- طبعاً أنا موافق.. حتّى من غير أن تعلّمني،فأنت ابن عمي،أنا على استعداد
لقتله نهائياً من أجلك.
عاد "رضوان" إلى بيته، وهو يفكر:
- (سوف أجعله عبرة لكلّ الطلاب الذين لا أحبّهم، فأنا قويّ، الجميع يشهد لي بذلك، وكلّ من يدرس يحسدني على قوّتي.).
في اليوم التالي، وقف "رضوان" قرب المدرسة، ينتظر وهو متفائل بقدرته على سحق خصمه، ولذلك فهو لم يحمل معه سلاحاً، كان يهمس في سرّه:
- (سأعاركه بيديّ، وإذا لزم الأمر سأشقّ رأس بالحجارة).
وكان يتخيّل كيف أنّ "سامحاً" سيحسدّه على قوته، ويعرف أنّه بدونه لا يساوي شيئاً.
بدأ الطلاب يخرجون، فأخذ يحملق
فيهم واحداً واحداً.. ولاح له "سامح" يرتدي صدريته ويحمل حقيبته، ولمّا اقترب منه كان وجهه مصفراً، فدنا منه وهمس:
-"رضوان".. أنا خائف.
فصاح "رضوان" بصوت مرتعش:
- ولماذا تخاف؟؟!!.. أنت دلّني عليه فقط.
فقال "سامح" بصوته المضطرب:
- سيعرف أنّك ابن عمّي، وسيقدّم شكوى بحقّي للأستاذ.
- لا عليك.. لن أجعله يعرف من أنا.. سأتبعه إلى أن يبتعد، ثمّ أنقضُ عليه وأرميه مثل الكلب فوق التراب.
ابتعد "سامح" كالمذعور وهو يهمس:
- لقد جاء.. ها هو، ذاك الذي يحمل حقيبة سوداء كبيرة.
نظر "رضوان" حوله، فشاهد عدداً كبيراً من التّلاميذ متشابهي الثياب، غير أنه عرف خصمه من بينهم، صاحب المحفظة السوداء، وعندما اقترب منه، وجده أطول قامة، وتظهر في وجهه علامات القوّة والشقاوة، تبعه "رضوان" بينما كان"سامح " يبتعد
وهو ينظر خلفه، بين اللحظة والأخرى.
دخل الخصم في زقاق جانبي، وأخذ يسرع خطاه، عندما عاجله "رضوان" بصرخة قويّة:
- توقّف يا كلب.. توقّف عندك.
التفت ذو المحفظة السّوداء مستغرباً، فرأى"رضوان"مسرعاً نحوه وهو يصرخ
- نعم.. أنت.. توقف، سوف ألعن أباك.
وفور وصوله هجم عليه، مسدداً ضربة قوية على وجهه، فحمل هذا محفظته، وهوى بها على وجه"رضوان" فتدفق الدّم من أنفه غزيراً،فجنّ جنونه
..وزعق:
- سأفعل بأمك يا ابن ال....
والتقط حجراً كبيراً وقفذف بها خصمه، الذي تفاداها ببراعة، واشتبكا بقوة، وكلّ يحاول أن ينتف شعر الآخر
بينما دم "رضوان" يسيل على وجهه، والتفّ الصبية يتفرّجون على المشهد المثير، ومن بعدٍ لمح "رضوان" ابن عمّه "سامحاً" واقفاً يراقب المعركة، فشعر نحوه بالحقد، كيف يقف هكذا دون أن يساعده، فهذا الخصم قويّ لا يستهان به، وندم لأنّه لم يأت معه بسلاح، وأصابه الخجل عندما استطاع خصمه أن يلوي له ذراعه، لا بدّ أنّ "سامحاً" يسخر منه الآن، يده تكاد تكسر تحت ثقل الضغط، ففكر أن يستغيث"بسامح
"، ولكن قوته المزعومة ستهتز حقاً في نظر "سامح"..تألم كثيراً ولكنّه استطاع
في اللحظة الأخيرة أن يصرخ:
- اترك يدي يا ابن السافلة.. لقد كسرتها.
ولم يكد يكمل عبارته حتّى جاءته ركلة على مؤخرت
تحرّرت يده وركض يبحث عن حجر، لكنّه وجد صاحب المحفظة ينحني على الأرض، فانطلق يعدو وخلفه خصمه، وهو يهتف:
- توقّف يا جبان.. سألعن أباك.
حول سور المدرسة قعد "رضوان" حاملاً في طيات نفسه ذلّه وانكساره، لقد هزم.. ياللفضيحة، وكان يتساءل:
- كيف سأقابل "سامحاً"؟ وماذا سيقول
هذا الوغد "لسميرة"، التي أتظاهر أمامها دائماً بالقوة؟.. اللعنة عليك يا
"سامح"، هل نصبت لي فخاً؟!.. هل كنت تعرف مدى قوة ذلك السّافل؟؟.. ودفعتني لأتعارك معه؟.. أكنتَ تمتحن قوتي؟!.. أم كنت مخدوعاً بقوتي مثلما كنتُ أنا مخدوع.. ولكنّي سأريك قبل أن أري خصمي، بأنّي لست جباناً.. فإن هربت اليوم، فذلك لأنّي متعب من العمل، في الغد سأحتال على أبي وأبقى في البيت، وآتي إلى المدرس ، قسماً سأهشّم رأسه، سأضربه حتّى الموت.. فلا تسخر منّي ياوغد، وإياك أن تذكر شيئاً أمام أختك "سميرة".
ما كان عليّ أن أهرب، كان عليّ أن أحمل سلاحاً، وأن أجد حجراً، بدل أن أهرب.. اللعنة على الحجارة، حين نحتاجها لا نجدها.. ما أبشع الهزيمة؟!.).
ظلّ "رضوان" هكذا متوارياً، يفكّر
وها قد حلّ الظّلام، ولا بدّ له أن يعود
قبل أن يتفقده أبوه.
وفي اليوم التالي، استطاع "رضوان" أن يحتال على أبيه، ولم يذهب إلى الشغل، نهض من فراشه متّجهاً نحو المطبخ، وأخذ يتفحّص السكاكين، فانتقى واحدة لينتقم بها لكرامته ويستعيد ماء وجهه من خصمه، وبسرعة أخفاها وراء ظهره، حين دخلت عليه أمّه سائلة:
- لمَ تركت فراشك وأنتَ مريض؟.
فهرب أمامها دون أن تلمح السكين
إنّه لا يخافها على الإطلاق، وهي أيضاً تتستّر عليه فلا تخبر والده بما يفعله. ولقد كتمت أمر تدخينه السّجائر أمامها رغم تهديداتها المتكررة.
كان عليه أن ينتظر، ريثما يحين موعد انصراف طلاب المدارس، فقضى هذا الوقت في محاولة تجربة السّكين في قطع الأشياء، وقام بالتدرّب عليها، حيث يقفزها بقوة عن بعد، فتعلق بأعمدة الكهرباء. لم يشأ أن يقابل
"سامحاً"، أجّل ذلك ريثما يسترد كرامته ويحقق انتقامه، وأقسم:
- (لو أنّي رأيته الآن، وشعرت بأدنى بادرة منه على السّخرية والتقليل من شأني، لكنت قتلته بالسكين فوراً.).
انصرف الفوج الأول، وتدفق الأولاد مندفعين مبتهجين لاستعادتهم حريتهم، فأسرع إلى زقاق معركة الأمس، مصمماً على الانتقام، في نفس المكان الذي شهد انهزامه، حتّى لا يشعر بالخجل والعار كلّما مرّ به.
وقف عند الزاوية مترصداً الذاهبين والقادمين إلى أن برز خصمه قادماً من بعد،خفق قلبه في حين اشتدّت قبضته
على السكين.. اختبأ عند المنعطف محدثاً نفسه:
- (سأباغته بطعنة في بطنه.. وأهرب.).
حينما اقترب ذو المحفظة السّوداء
وصار بمحاذاة المنعطف،برز له رضوان شاهراً سكّينه بيده، انتبه الولد لهذه الحركة السّريعة، فتجمّد مكانه لا يعرف ماذا يفعل، فسارعه "رضوان" بهجمة تريد أن تصل بطنه بطعنة خارقة، وقبل أن يصل إليه، انقضّت يد جبّارة لرجل شاهد "رضوان" يمشي خلف خصمه، ولكنه لا يدري كيف غفل عنه.
زعق الرجل وهو يشد بقوة يد "رضوان":
- ارمِ السّكين على الأرض يا كلب.. كدت تقتل ابني.
سقطت السكين.. وصرخ "رضوان":
- دخيلك يا (حجي).. اتركني.
في تلك اللحظة شاءت الأقدار أن ينعطف "قدور ..أبو سامح"، في هذا
الزقاق، ويبصر ابن أخيه، فركض نحو الرجل صارخاً:
- "تترجّل" على ولد يا جبان.
- سألعن والده.. كاد يقتل ابني.
لم يحتمل "قدور" وسدّد قبضة قويّة على عين الرجل، فترنّح الرجل بينما كانت يده تضغط مكان الضّربة، وبدأ الصّياح، فالتمّ الأطفال حول المتشابكين، وفتحت النساء الأبواب وبدأن بالصراخ.
وفجأة.. وبسرّعة فائقة.. انحنى الرجل والتقط سكين "رضوان" وقبل أن يتفاداه العم "قدّور"، كانت السّكين قد استقرّت في بطنه، تعالت الأصوات.. والصرخات.. من كلّ صوب، بينما كانت عينا العم شاخصتين، لقد أذهلته المفاجأة، وانطلق الرجل القاتل يعدو.. ومن خلفه ابنه..
ووقف "رضوان" يبكي، لا يعرف كيف يتصرّف، ولم يتحرّك إلاّ بعد أن خرَّ عمّه على الأرض، فأخذ الطفل"رضوان"
يركض صارخاً:
- لقد قتل عمّي قدّور.. عمّي مات.
مصطفى الحاج حسين.
حلب
فهرس قصص: (فشّة خلق)..
=======================
1 - مقدمة: الأستاذة مجيدة السباعي.
2 - فشّة خلق
3 - باثور (رئيس المخفر)
4 - الضحك على اللحى
5 - التّحدّي
--------------------------------------------
مصطفى الحاج حسين.
على ناصية حروف عبقة من مخمل بهي سرّج القاص الفذ (مصطفى الحاج حسين) قصصه القصيرة بعذوبة منقطعة النظير، سطر بها عصارة آلام مستضعفين كثر، سقوا كؤوس قدر مريرة أسقاما وخيبات وانكسارا. اختار القصة القصيرة فناً رائقا ممتعاً مسلّياً يتوجّه مباشرة للإنسان، يجوب مكامن الأسى يخاطب النبض والعقل والوجدان، مرآة تعكس حياة الناس فيراها المتلقي مصقولة تبين ما يجرّون من صخورٍ موجعة ثقال، سئموها حد القرف ، بها ترجم دفين طيات نفوسهم ،ولخص أعمق أفكارهم ، وطرح أبعد طموحهم، وجسّد أجمل أحلامهم. وظّف قصصه هذه سرداً نثرياً يجمع بين الحقيقة والخيال، فناً راسخاً واعياً عميقاً مركزاً مذهلاً ، يحتفي باليومي وبكل تفاصيله، تنصهر خلاله الذّات بالمجتمع، وبكلّ إشكالياته وكأنّه نقد فني للواقع الإجتماعي، مرّر به رسائل دالة وبثّ أقصى قناعاته داعياً للمساواة والحقّ ودفع الظلم والطغيان، يهدي به قصصاً مثقلة بالأوجاع، كلّ شخصية تحمل بين طيّاتها خبايا حياة شائكة وانفعالات خاصة، كيف لا؟ فالإبداع لا يتشكل إلا من رحم المعاناة، حقق ذاك بأسلوب منمق وسرد آسر ولغة أنيقة
وفصاحة مميزة، تندس إلى العقل بيسر ومرونة وذكاء. هو كاتب من العيار الثقيل، متضلّع في الحرف العربي الجميل قدير الحرف جميله
يركب سفين القص و الخيال فيستشفّ أغوار المواقف العميقة، ويقتنّص المفارقات الدّقيقة التي تحمل شحنات انفعالية، تحرّك النّاس و الحياة، فيمنح السّرد قوّة وحيويّة مذهلة، فلا يسع الشّخصية إلّا أن تحكي عن نفسها بنفسها، وتطرز الأحداث وتلونها بألوان قزحية وأيضاً تسدل عليها تأويلات لا تنتهي، بغية أن ينحت انطباع حقيقي في نفس المتلقي المتذوق، وبه يجني عبير الموعظة وشهد المتعة ووحدة الإنطباع. يزن مبدعنا جمله بميزان الذّهب يقتصدها فلا يرهلها، وبها يجسد صوراً بصرية دقيقة موازية للواقع المعاش ولدروب المكان، فيأتي سحر الحدث والمكان متناغماً ملتحماً وكأنهما واحد، هنا يؤجّج الدّهشة والتّشويق بحرفية واقتدار و خاصة عند القفلة التي تذهل بإيجازها وإضمارها تصدم بما حبلت به من مفاجآت غير منتظرة, إذا فتحت مزلاج قصصه منحت بسخاء آثاراً معرفية ووعياً اجتماعياً ينسيك مكانك ويمنحك لذّة قراءة لا متناهية، فتحسبه عاش وسط أبطاله، وانصهر في تفاصيل حياتهم، وقاسمهم الأسى دفعات، فتقرأها وتعود ثانية كمن يتفقد عبق الحبق بعد يباسه. أما لغته وعاء إبداعه جعلها ترتبط بالفكرة وبالإيحاء والإشارة لا بالوصف، ضمنها كل آليات القص المتين والحرف العتيد، رؤى وجماليات متعددة الأبعاد ودلالات مذهلة آسرة..
و في غمرة سكرات الألم رسم أبواب عدة تفضي للأمل العريض. هنا نستحضر قولة زكي مبارك المأثورة:
(إن الحياة هي كتاب الأديب، فالأدب يجب أن يكون من وحي الحياة، وإنه من الضروري أن نعيش الحياة حتى نكتب آيات الوجود.).
مجيدة السباعي
المغرب.
* (فشّة خُلق)..
ما بوسعِ المعلّم "عدنان" أن يفعلَ، إذا كان بيته يبعد كثيراً عن المدرسة التي يعلّمُ فيها؟!.. وعليه أن يستقلَّ حافلتينِ للنقلِ الدّاخلي!.. ثمَّ يتابع طريقه سيراً على الأقدام مدَّة دقائق!.
وماذا يفعل إذا عَلِمنا بأنّ الحافلة الأولى، التي سينحشر بداخلها، لا تأتي قبل السّادسة والنّصف؟!، ولا يصل إلى محطّةِ المنشيّة إلّا بحدودِ السّابعة، ثمّ عليهِ أن ينتظرَ الحافلة الثّانية!.. ولا وسيلةَ نقلٍ أخرى، يمكنه أن يستعملها، سوى "تكسي الأجرة" ويعجز راتبه بالتأكيد، عن تغطية نفقاتها!.
وما بيده إن حاول باستماتةٍ، ورغم كلّ الواسطات التي لجأ إليها، كي يعيّنهُ المُوجّه في مدرسةٍ قريبةٍ من سكنهِ، لكنّ المُوجّه يعتذرُ بحجّةِ أنّ لا شاغرَ لديهِ؟!.
ثمّ نوّهَ بأنَّ نقل الأستاذ "عدنان" من منطقةِ "عين العرب" إلى حلب، بعد، بحدِّ ذاته شيئاً عظيماً وغير قانوني، لأنّ دفعة زملائه في التّعيينِ، لم يصدر قرار نقلهم رغم أربع سنوات على غربتهم.
وما حيلته إن كان قد طلب من مديره، أن يعفيه من إعطاء الحصّة الأولى، كي لا يتأخّر على طلابه؟!.. لكنَّ السّيد المدير اعتذر، متذرعاً بالبرنامج المدرسي، الذي لا يمكن تغييره.
فكرة أن ينقل مكان سكنه، إلى منطقة أقرب، مرفوضة بالتأكيد، ذلك لأنّه يقيم وزوجته وابنتيه الصّغيرتينِ، في غرفة خانقة وضيّقة عند أهله، ولا مال لديه للإيجار أو غيره، فقد تزوّج بالتقسيط، ولم يزل يدفع من مرتبه ومرتب زوجته الأقساط المترتبة على عنقيهما.
السّيد المدير غارق إلى شحمة أذنيه بالبيروقراطية والاستبدادية، وهو في الحقيقة لا يصلح إلّا أن يكون محقّقاً، بارعاً في الطّعن والانتقام، ممّن يتجاسرون عليه، وممّن ينصاعون إليه أيضاً، فما من معلٌمٍ خدم في مدرسته، إلّا وكتب بحقّه أكداساً من التّقارير، واقترح بشأنه آلاف العقوبات والانذارات، مستعيناً (بالآذن.. الفراش) "عبد الفتّاح"، الذي أطلق العنان لأذنيه وعينيه ومنخاره، لرصد ما يحدث داخل أسوار المدرسة وخارجها.
فما إن يصل المعلّم "عدنان" إلى المدرسة ويدخل الصّف، حتّى يقتحم عليه الآذن الباب حاملاً استجواباً خطّياً من السيد المدير:
- (بيّن سببَ تأخرك المتكرّر يا أستاذ عدنان؟!.).
كان يرتبك ويحمرّ وجهه خجلاً أمام طلّابه، يجلس خلف طاولته، ليردّ على الاستجواب ويقدّم اعتذاراته الشّديدة التّهذيب، وكان ينسب تأخّره بالطبع إلى سوء تنظيم المواصلات، لكنّ المدير لم يكن يقبل هذه
الاعتذارات، فيبادر إلى كتابة تقرير مفصّل، بحقِّ المعلّم ويرسله برفقة الاستجواب، إلى المديرية، مع اقتراحات عديدة، منها إعادة الأستاذ
"عدنان" إلى الخدمة في الرّيف، إلى جانب الحسومات من راتبه.
وكان المدير الذي يتظاهر بعشقه للنظام، يسجّل ملاحظات التّأخير، في دفتر الدّوام، وكثرت الملاحظات من الموجّه بحقّه.
ضاق بمديره وتقاريره ذرعاً، وفكّر بتقديم استقالته، لكنّ دموع زوجته، ومنظر ابنتيه الصّغيرتينِ منعاه من اتّخاذ القرار، فماذا يمكن له أن يعمل إن استقال؟!.
واليوم وصل متأخراً كعادته، يبدو منزعجاً بسبب اقتطاع أكثر من ربع مرتبه الذي قبضه أمس، وما كاد يدلف إلى صفّه، حتّى اقتحمه الآذن "عبد الفتاح"، حاملاً الاستجواب الأزلي:
- (بيّن سبب تأخّرك المتكرّر يا أستاذ عدنان؟!).
تناولَ الورقة بعصبيّةٍ واضحةٍ، ولم تُخفَ هذهِ الحركة على "عبد الفتّاح" بالطبع، فقد تمكّنَ من رصدها وحفظها، جلس المعلّم خلف طاولته، وشرع في الإجابة، بعد أن تجرّأ وأشعلَ سيجارة، ممّا فجّر الدّهشة والاستغراب على وجه الآذن وعلى عينيهِ الثّعلبيّتينِ، ولم يعرف ما يفعل.. هل يهرع إلى السّيد المدير، ويطلعه على ما يحدث؟!.. أم ينتظر ريثما ينتهي المعلّم من ردّه، لكنّه في النّهاية فطنَ إلى ضرورةِ البقاء، كي لا تفوتهُ أيَّة حركة من تعابيرِ وجهِ المعلّم، الذي شرع في الرّد:
- السّيد مدير المدرسة ، المحترم:
نعلمكم عن سبب تأخّرنا لهذا اليوم..
أيقظتني زوجتي كالعادةِ، كان الفطور جاهزاً إلى جواري، ازدردتُ لقمتينِ على عجلٍ، ثمّ أشعلتُ سيجارة، لأنفثَ دخّنها على رشفاتِ الشّاي السّاخنة، كانت زوجتي تهمُّ بارتداءِ ملابسها، لتلتحقَ بمدرستها هي الأخرى، وقعت عيناي عليها، فأثارتني، مددّتُ يدي وشددّتُها، طوّقتها بذراعيّ، حاولت أن تتملّصَ منّي، جذبتها بقوّةٍ، قالت:
- سنتأخّر .
قلتُ:
- (طُز).
- سيقطعونَ عنّا الرّاتب.
هتفتُ:
- (طُز).
صاحت:
- ومديركَ.. ومديرتي!!!.
أجبتُ:
- (طُز).
- سترتفع بنا التّقارير.
- (طُز).
احتضنتها وصراخها ينبعث:
- مديركَ يا عدنان.. ومديرتي.. لن يرحمانا اليوم.
وكنتُ أهمسُ كالمحمومِ:
- (طُز) منهم.. واللعنة عليهم.. وعلى مدارسهم، وتقاريرهم، وأذانهم.. فليطردونا، وليقطعوا عنّا الرّاتب، بل ليقطعوا أعناقنا.. لكنّي لن أترككِ تفلتينَ منّي.
وهكذا يا سعادة المدير المبجٌل، أمضينا ربع ساعة من أروع لحظات العمر، استرجعنا خلالها تلكَ الأيّام الجّميلة، فأنا يا جناب المدير، كثيراً ما كنتُ أغفو، قبل أن تتفرّغ إليّ زوجتي بسببِ طفلتينا، أغفو وأنا على جمرِ الانتظار، لأنّكَ يا جناب المدير، سرعانَ ما تبرز أمامي لتذكّرني بضرورةِ النّوم باكراً، والاستيقاظ باكراً، لألهث خلف الحافلات.
أعترفُ بأنَّ سبب تأخّري اليوم، هو الاستهتار منّي واستسلامي لشهوتي، ويمكنكَ يا جناب المدير، أن تفعل ما تراه مناسباً، وليس بإمكاني سوى أن أردّد لجنابكم:
- (طُز).. والسٌلام.
وقرأ المعلّم "عدنان" الكلمة الأخيرة بتلذّذ عالي النّبرة. ففتحَ الآذن "عبد الفتاح" باب الصّفّ بقوّةٍ، وخرجَ مذعوراً، مسرعاً، راكضاً، لاهثاً، وكان الممرّ الضّيق الطّويل، وبوابات الصّفوف
والدّرج المؤدي إلى الإدارة، وسائر جدران المدرسة، والمقاعد، وقطع الطّباشير، وكلّ مافي المدرسة من أثاثٍ
تهتفُ خلفَ الآذن، وبصوتٍ جماعي، قويّ، يشقُّ عنان الصّمت، تلك الكلمة التي ارتفعت، حتّى ارتطمت بعيون السّيد المدير، وهو يقرأها فاغراً فمه على مصراعيه:
- (طُز).. (طُز).. (طُز).
حلب
* نقاد "تميم"..
صديقي.. لا أقصدُ الإساءةَ إليكَ في حديثي هذا.. فلن أُحدّثَ الآخرين عن شخصيتك، بل عن نموذجٍ أنت تمثّلُه، وإمعاناً منّي بالحرص على عدم التّشهير بك، فسوف أغيّر اسمكَ، وسأهدر خمسة عشر سنتيمتراً من طولِكَ، وأضيفُ إلى نحولِكَ عشرينَ كيلو، وإلى عمرِك خمسَ سنوات.
أعزائي..أرجوكم ألآ تهتمّوا بالشخصِ الّذي سأحدّثكم عنه، بقدرِ اهتمامِكُم بنموذجه، فتميم هذا ليس وحدَه من سلَكَ هذا الطريق في بلدنا، فهناكَ العشرات من أمثاله، وللتوضيح أقول:
- ليس الذّنبُ ذنبه فقط، بل ذنبنا أيضاً نحن البسطاء، الذين نصدّق كلّ مانراه، ونؤمن بما نسمع، لذا علينا أن نسخر من أنفسنا قبل أن نسخر منه، ونحاكم ضمائرنا وسلوكنا قبل أن نحاكمه ونحاسبه.
وقبلَ أن أبدأَ حديثي عنه، سوفَ أسحبُ وعداً منكم بعدم التّشهيرِ به، وإن تعرّفتم عليه من خلال الحوادثِ التي سأسردُها عليكم.
ترعرعَ تميمٌ في أسرةٍ غنيةٍ، محبوباً مدلّلاً، فهو الذّكر الوحيد لأبويه مع بناتٍ ستٍ. ولهذا السّبب بالذات فقد نشأ "تميم" طفولياً واتّكالياً، لا يكادُ يحتاجُ إلى شيءٍ إلاّ توفّر له، ولا يطلبُ أمراً إلاّ حصلَ عليه، ممّا كرّسَ في شخصيّتِه هاتينِ الصّفتينِ، وكثيراً ما كان يخرجُ على القواعدِ والأصولِ، فلا يرى معارضةً ولا يوقفه أيّ تأنيب، وهكذا كبر وهو لا يقدرُ أن يتحمّل أيةَ مسؤوليةٍ، وأقسم لكم إنّه حتّى اللحظة لايستطيع ُذلك وهو ابنُ خمسةٍ وعشرينَ عاماً.
وعند أدنى إبطاءٍ من قِبلِ أهلِه في تنفيذِ رغباته، كان يعصّب ويتمارضُ، فيُقلقُ الأسرة، الّتي تضّطرُ أن تنزل عند طلبهِ لكيلا يتأزّم.. ولكنّه تأزّم أيّها السّادة، وأقسمُ على ذلك فقد صار أنانياً إلى أبعد الحدود، وهو لا يدري أو ربّما يدري ولكن أعجبه حاله هذا.
كانت فرحةُ أهلهِ به لا توصفُ، عندما دخل الجامعة لكنّ هذه الفرحةَ سرعانَ ما أصيبت بمنغصات كثيرة، ذلك لأنّه ظلّ راسخاً على مقعده الدّراسيّ، في السّنة الأولى أربعَ سنواتٍ، أمّا تعليل رسوبهِ هذا فله أسبابٌ عديدة.. رفاقه يقولون:
- إنّه بدل أن بتابع دوامه في الكلّية، يداوم في المقصف.
أمٌهُ تقولُ:
- "تمتومي" هكذا تناديه كنايةً عن الدّلال، صغير بعد على الدراسة، ثمّ المستقبل بالنسبة "لتمتوم" مؤمّن له والحمد لله.
أمّا هو فيقول:
- الحقّ كلّه على أساتدةِ الكلّية، فهم أغبياء لا يعرفون أن يسألوا، ولا أن بصحّحوا، إنهم يناصبونني العداء.. وأنا أكرههم.
أمّا أقوال الآخرين عنه، فتنحصر في أنّه:
- لم يخلق للدراسةِ، لأنّه غبيٌ لا يفهم.
ولكنني أقول:
- إنّه ليس غبياً، وسوف ترون فيما يأتي.
"تميم" ممثلٌ، أو بالأصح يرغب أن يكونَ ممثّلاً، لذا فقد انتسبَ إلى فرقة المسرح الجامعي، وعمِلَ فيها لسنوات.
ولكنّه لم يحصل على أيّ دورٍ رئيسي
أو هام، وهذا ما آلمه وسبّب له عقدةً نفسيّةً، ترون نتائجها فيما يلي:
والآن أعرضُ لكم نقطةً جوهريّةً في حياة تميم، فهي لحظةُ الانعطاف الخطيرة، التي مرّ بها في الجامعة والواقع أنّ الغموض يسيطر على هذه النقطة بالذات.
فلا أحد يدري كيف اهتمّ "تميم" بالأمور الثقافية الجادة؟!.. وحضر أمسيات المهرجان الأدبي في الجامعة
؟!.. ولأوّل مرّة في حياته الجامعيّة، في ذلك اليوم، دخل "تميم" إلى القاعة
واستمع للشعراء الشّباب، بكلّ هدوء واهتمام، ولا أحد يدري أيضاً، كيف تسلّلت إلى رأسهِ ذي الشعر الكثيف والطويل والمفروق من الوسط على طريقة الفتيات، ذلك أنّه تربّى في صغرهِ تربية فتيات، حيث خرّمت أمّه أذنيهِ، ووضعت فيهما القرطَ، خوفاً عليه من عيون الحسّاد، لذلك ظلّ سلوكه حتّى اليوم قريباً من سلوك الفتيات.. أقول:
- لا أحدَ يدري كيف تسلّلت إلى رأسهِ، فكرةُ أن يكتبَ الشّعرَ؟!.. لذلك عاد إلى بيته مهموماً، يفكّرُ بطريقةٍ تصنع منه شاعراً، ممّا لفتَ انتباهَ والدتِه التي بادرته بالسؤال :
- مابكَ يا روحي "تمتوم" لا تضحك ولا تتعارك مع أخواتِكَ كعادتك؟؟!!.. هل ضايقكَ أحدَ الأساتذةٍ في الجامعة؟.
قال تميم:
- ماما.. أنا أريدُ.. بل قررتُ.. أن أصبحَ شاعراً.
- أنتَ شاعرٌ يا حبيبي تمتوم" ثمّ استدركت باستغرابٍ هذه المرّة:
- ولكن كيف؟!.. ماذا أستطيع أن أقدّم لكَ من أجلِ ذلك؟.
- تستطيعينَ يا أمّي.. بمساعدتكِ ومساعدةِ بابا، ممكن أن أكون أكبر شاعر في حلب.
ثمّ أردف:
- الشّعر يا أمّي شيء كبير، يكفي أنّ الشعراء أصحابُ مزاجيات عجيبة، وهي تستهويني.
رددت الأم باستغراب:
- مزاجيات؟!.. ماذا تعني؟!.. أبوك يقول عن الشعراء شحاذينَ.
قاطعها تميم، وكاد يهمّ بالبكاء:
- ماما.. عليكِ أن تقتنعي بكلّ شيء أقوم به، لا أريدُ معارضةً من أحدٍ، وإلاّ... وبدأت قسماتُ وجهه تتغيّر، ويداه النحيلتانِ ترتجفانِ ، كأنّه يهمّ بالبكاء.
فأسرعت الأم تقول، لتهدّأ خاطره:
- حسناً "تمتومي" لا تزعل، سوف تكون شاعراً.. أؤكد لك.
انفرجت أساريره فجأة، وأخذ يهتف في أرجاء المنزل، وهو يقفز:
- تعيش ماما.. تعيش أمّ تميم الشاعر العظيم.
لقد تلقّى أوّلَ اعترافٍ بشاعريّتهِ، قبل أن يخطّ حرفاً واحداً.
وفي اليوم التالي، دخل تميم المقصفَ
واتّجه إلى إحدى طاولاتِ شعراءِ الجامعةِ، متجاهلاً نداءتِ زملائهِ في المسرح الجامعي، الذين يتربعون على إحدى الطاولات.
ألقى التحيةَ على الشعراء، جلس بأدب جمّ، واتّجه بالحديث إلى أحدِ المشهودِ لهم بالشاعرية في الجامعة:
- أنا من المعجبين بشعرك.. أنت أفضل شاعر في الجامعة وأتمنّى التّعرف إليكَ عن قرب:
- أهلاً.. شكراً، قال ذلك بحرارة وافتخار
فقد وقع على معجبٍ به، وهذا ما يدغدغ كبرياء كلّ شاعر.
عند الانصراف، أصرّ "تميم" على
دعوة الشاعر "حسّان" إلى منزله، لتناول الغداء، وتمّ ذلك.
وكم كانت دهشة "حسان" من كلّ شيء رأه أو حصل معه ذلك اليوم.
فالمنزل فخم وأنيق ، والطعام فاخر يغصّبقطع اللحم اللذيذة و ......
فتح الباب، ودخلت امرأة لا تتجاوز الأربعينَ بكثير، تتبعها صينية الشاي، فالتفت "تميم" إلى حسّان، قائلاً:
- إنّها أمّي، وهذه أختي الكبرى"سوزان"
وتلك "رولا" الصّغرى.
وكان الترحيب حاراً بشكل واضح ، و
"تميم" يتابع حديثه:
- إنّه "حسّان" الشّاعر، صديقي الجديد، الذي حدّثتكم عنه.
- أهلاً وسهلاً.. هل أنت من هذه المدينة
؟.. قالت الأم ذلك، وكأنّها تلمّح إلى شيء ما في ثياب "حسّان".
- لا.. أنا لستُ من هنا.. أنا..
- وأين تسكن؟.
- في المدينة الجامعية.
وتظاهر "تميم" أنّ فكرة برقة في ذهنه، فهتف:
- اسمع يا "حسّان"، هل لديك مانع أن تسكن هنا معي في غرفتي؟.
وقع السّؤال على رأس"حسّان" كصاعقةٍ في عزّ الصيف.. أمنَ المعقولِ أن يحدثَ ذلك.. هل ستنتهي أيامَ الغرفةِ الضّيقةِ في المدينة الجامعية؟؟
.. وتمضي معها تلكَ الوجبات القميئة من الفلافل والجبنة والحمص و .. وشعر َبالارتباك:
- ولكن..
- لا عليكَ، ستبقى معي حتّى تنتهي دراستك.
واقتربت "رولا" الصّغرى من "حسّان" تفحّصته عن قربٍ، ثم ضحكت بخبثٍ واستهتارٍ وقالت:
- هل أنت الذي سيعلّم "تميم" كتابة الشعر؟.. هههه، قال بابا إذا علّمتَ
"تميماً" كتابة الشّعر، سيقدّم لك هديةً كبيرة.
ارتبك "تميم" و "حسّان" الذي لم يفهم شيئاً مما قالته الصّغيرة، وصرخ
"تميم":
- "رولا" اخرجي من غرفتي يا سخيفة.
وقبل أن تخرج "رولا" من الغرفة، استدارت إلى "تميم" و " ةحسّان" مادة لسانها:
- شعراء مسخرة!!.
وصار "حسّان" نزيل المنزل، كأنّه أحدُ أفرادِ العائلة يتناول أطيب الطعام، وألذّ الشراب بل تعدّى الأمر إلى علب الدخان ونقود "الخرجيّة".
تعرّف "تميم" من خلال "حسّان "،
إلى كلّ أدباء الجامعة.. ثمّ،تعرّف إلى كافة أدباء المدينة.. يدعوهم إلى بيتهِ للطعام، والنوم أحياناً، فصار صديق الجميع، وكان في كلّ مرّة يرجو فيها
"حسّان" أن يكتب قصيدة أمامه و
"حسّان" يستغرب وبتعجّب من طلب
"تميم" هذا:
- لماذا تريدني أن أكتبَ قصيدةً أمامك؟!.
- أريدكَ أن تعلّمني كيف تكتبرالقصيدة.
يضحك "حسّان" وتزداد دهشته اتّساعاً، ويسأل تميماً:
- أتظنّ كتابة الشّعر تعلّماً يا تميم ؟؟!!.. إنّها موهبة، وليست تعلّماً، حسناً.. سأدلّك على طريقة كان القدماء ينصحون بها، كلّ واحدٍ يريدُ أن يكون شاعراً.. رغم عدمِ قناعتي بها.
واستبشر "تميم" خيراً:
- رائع.. أرجوك، قل لي، ماهي النصيحة
وسوف أنفذها في الحال.
- النصيحة تقول يا صديقي (إذا أراد المرء أن يصبح شاعراً، فعليه أن يحفظ عن ظهر قلب، عشّرة آلاف بيت من الشّعر القديم).
تغيّرت قسمات "تميم".. وردّد بتعجّب.. عشرة آلاف بيت شعرٍ قديم
!!!.. ولكن.. كيف لي أن أحفظها؟!.. خاصة وأنا لا أحبّ الشّعر القديم؟!!.. لا سيّما الجاهلي منه.. ثمّ هذه المسألة تحتاج إلى وقت وجهد كبيربن.. وأنا أريد أن أكون شاعراً بأسرع وقتٍ ممكن.
- ولماذا العجلة يا "تميم"؟!.. لا تظنّ كتابة الشعر بهذه السهولة.
قال تميم:
- أنت لا تريد أن تساعدني يا "حسّان". ونهض مسرعاً إلى أمّه، وكأنّه يهمّ بالبكاء.
عندما أعلن المكتب الإداري في الجامعة، عن بدء تقديم الأعمال الأدبية
من أجل المهرجان سارع "تميم" لكتابة أوّل قصيدة له، مزّق عشرات الأوراق.. دخّن كثيراً.. تناول أكثر من خمسة فناجين قهوة.. وثلاث حبوب "تامرين"
.. أوصد على نفسه باب الغرفة، خلع سترته أولاً.. ثمّ بنطاله.. كرع كأس ماء بارد.. استلقى فوق السرير على بطنه، فكّر كثيراً.. تقلّب.. خرج من الغرفة.. دخل الحمّام.. ثمّ خرج مسرعاً، وهو يصرخ:
- وجدتُها.. وجدتُها.
كتب عنوان القصيدة.. ثمّ تصفّح العديد من المجموعات الشعرية التي اقتنع بضرورة قرأتها أخيراً، من"حسّان"
.. إن كان جاداً في رغبته بأن يكون شاعراً.
وأخيراً بدأ يكتب القصيدة:
(أحبّكِ.. وأموتكِ)
أرتكبُ وجهي عندَ المرايا
أنا القطار المشظّى بالرّجال
المعبأ بالجبال.. والشّمال
ألّوح بأقدامي عند الوداع
ضربوني على نحلتي
فصارت وردتي مملكة الحجل
ولم يبقَ من أصابع حبيبتي إلاّ الخواتم
لقد رأيتُهم يا أبي، لم يكونوا
أحدَ عشر قمراً لي ساجدين
تلك حكمة الأجزاء منّي.
لا أريد أن أكتب لكم القصيدة
بكاملها، لأنكم اطّلعتم عليها على ما أعتقد.
وبهذه القصيدة طلب من صديقه
"حسان" أن يقدّمها إلى اللجنةالمسؤولة
عن إعداد المهرجان، وعندما قرأها
"حسان" ضحك وقال:
- ولكن يا تميم هذه الكتابة ليست شعراً.
قال تميم والانزعاج واضح عليه:
- حسان.. أرجوك دعني أشارك في الملتقى، وأنا الذي سيتحمّل المسؤولية.
ولبّى صديقه الطلب حياء.
نزلت بطاقات الدعوة للمهرجان، وبمعونة الأصدقاء كان اسم "تميم" من بين الأسماء المشاركة.
كان الحشد كبيراً، كما هي العادة، عندما صعد "تميم" إلى المنصّة، وبدأ يلقي قصيدته، إنّها فرصته ليتخلّص من عقدته النفسيّة، التي خلّفها عمله في المسرح الجامعي، ورغم كلٌ أفانين التمثيل التي تعلّمها من المسرح، فقد كان إلقاؤه متعثراً، مليئاً بالأخطاء النحوية، ولعلّي ألتمس له العذر إنّها أول تجربة له من هذا النوع، لكنٌ الجمهور المثقف، جمهور المهرجان، لم يحتمل ذلك، فانتشرت الضوضاء بين الصفوف المتململة الضّجرة، وعلت الهمسات تشتم الشاعر وتسخّف عمله الشّعري، وتسبّ اللجنة التي أخرجته، وظهر ذلك بشكلٍ جليّ حينما بدأ الحوار، حول القصائد المشاركة، حيث انصبّ وابل النقد والسخرية على تميم وقصيدته، وأخطائه الفادحة من كلٌ مكان، حتى إنّ أحدهم نصحه بالعودة إلى سلك التمثيل، لأن ذلك أفضل له.
ولكن ما حدثَ بعد ذلك فاق المعجزة إذ بدأت اللجنة النقدية المؤلفة من أهم أساتذة كلّية الآداب، إضافة إلى ناقد شاب عضو إتحاد الكتاب العرب، بدآت تناقش في الأعمال المقدمة. تحدّث الدكاترة حول الأعمال، ثم جاء دور الناقد المعروف، فقال:
- إنّ ما سمعناه اليوم من الشعراء الشباب كان شعراً رديئاً باستثناء قصيدة هامة قدّمها الشاعر الشاب "تميم".
في الشعر ثمّة نصوص تتطلّب نقداً عادياً بعاديتها، وثمّة نصوص أخرى تعلّم الناقد كيفية النقد.. وقصيدة الشاعر تميم من هذا النوع الثاني، فهي تحمل حساسيتها وشفويّتها، مندغمة بالواقع المعاش حالياً بشكل تراتبي ديناميكي، لقد أثارني "تميم" حقاً، لأنّه يكتب قصيدته بطريقة مغايرة وشموسة.
كان حديث هذا الناقد الشاب مفاجأة فعلاً، وكان حديثه نصف معجزة، أمّا النصف الأخير للمعجزة، فقد كان عندما تراجع الدكاترة عن آرائهم في قصيدة تميم، وفي تأيدهم لكلام ذلك الناقد.
أمام هذا الأمر ة،كانت ردّة فعل المدرج
كبيرة، فمن سائل ومن مستغرب:
- كيف يقول الأستاذ الناقد هذا الكلام؟!
- هل أصبح رصفُ الكلام السّخيف شعراً؟!
وانقسم جمهور المدّرج والأدباء إلى قسمين، بين مؤيد ومعارض، ومع ذلك فقد منح "تميم" الجائزة الأولى.
أمام باب الخروج، سمعتُ "حسّان" يقول لتميم:
- تميم.. لا تنخدع، فأنت لست شاعراً.
ابتسم "تميم" بكبرياء، وقال:
- بل أنا أكبر شاعر في سوريا.
ومضى "حسّان" إلى المدينة الجامعية
،رافضاً العودة إلى منزل"تميم".
وبعد هذا اليوم ، صار منزل "تميم" محطّة لكلٌ الأدباء الشباب والكبار في المدينة، بل لأدباء ونقاد ومحرري الصّحف والمجلّات في العاصمة.
وبرز اسم "تميم" في عالم الأدب، وصار له جمهوره ونقاده وصحفه و ....
وتميم صديقي يضحك في سرّه، ويقول لي:
- انظر إلى هؤلاء.. لقد اشتريتهم جميعهم، إنّهم أُضحوكتي.. فأنا بصراحة لا أحبّ الشّعرَ ولا الشّعراء.
حلب
* باثور رئيس المخفر..
في صباحٍ مشمسٍ، وبينما كان رئيس المخفر، (أبو رشيد) يجلس على كرسيه، فوق المصطبة، عند باب المخفر، حيث كان يدخن، ويتلهى بمراقبة القرية القريبة، عبر منظاره الجديد، وإذ به يلمح رجلاً قروياً يتّجه إلى العراء، وحين ابتعد عن الأنظار، تلفت يمنة ويسرة، ثمّ رفع (كلابيته) على عجلٍ، قرفص وخلال دقيقة تناول من قربه حصوة، مسّح بها ثمّ نهض.
استرعى هذا المنظر، اهتمام رئيس المخفر وفضوله، فصرخ على الفور
ينادي (الرقيب خليل)، ولمّا خرج إليه (خليل)، أمره قائلاً:
- إذهب إلى هناك.. وأشار بيده صوب القرية، ناحية القروي..
- أحضر ذاك البدوي بسرعة.
امتطى(الرقيب خليل) حصانه، وانطلق صوب القرية مسرعاً.
كان الرجل القروي، قد اقترب من قباب القرية، حين ناداه الرقيب:
- قف.. عندك.. لا تتحرك.
انبعثت رعشة عنيفة في أعماق القروي ، تلعثمت كلماته:
- خير يا وجه الخير!!.. ماذا تريد؟!
- امشِ قدامي إلى المخفر .. هيّا تحرك.
تضاعف الخوف في أعماق القروي
وأراد أن يستفسر:
- ولكن لماذا ياوجه الخير.. أنا لم أفعل شيئاً؟!.
صاح (الرقيب خليل) من فوق حصانه الذي لم ينقطع لهاثه، بعد:
- تحرّك يا كلب ..قسماً سأنزل وأدوسك بحذائي.
- لكن يا سيدي..
لم يتركه يكمل كلامه ، فقد اقترب
منه، وهوى عليه بسوطه.. صارخاً:
- تحرّك.
كان القروي يتعثّر بخطواته بين الفلاة
والرقيب من فوق حصانه، يحثّه مرّة على العجلة، ويسوطه مرّة أخرى.
اقترب من رئيس المخفر، فتطلّع الرجل إلى (أبي رشيد) بهلع، بينما كانت مفاصله ترتعش.. رمقه رئيس المخفر بنظرة صارمة، ونهض:
- الحق بي إلى مكتبي.
حين أغلق رئيس المخفر الباب على الرجل، المرتعد الفرائض،أيقن أن جريمة
فظيعة، سوف تنسب إليه.
غير أن رئيس المخفر ، نظر إليه وابتسامة لزجة ارتسمت تحت شاربيه:
- ما اسمك؟.
- أنا يا سيدي.. اسمي..(خميس) أبو حسين.
- أريدك يا أبا حسين، أن تحدّثني بصراحة.
واندفع (خميس) ليقسم لرئيس المخفر، وكان الخوف قد بلغ ذروته:
- أنا والله لم أفعل شيئاً.
ابتسم رئيس المخفر، أدرك أنه رجل ذو هيبة، يخافه الجميع:
- لقد شاهدتك وأنت تقرفص(وتفعلها) بسرعة.
علت الدّهشة وجه (خميس) همس كمن يقر بذنبه:
- نعم.. فعلتها.. لماذا أكذب؟!.. ولكنني لم أكن أعرف أن هذا ممنوع.
صرخ رئيس المخفر:
- اسمعني يا غبي.. لا تقاطعني.. الحكومة لا تمنع مثل هذه الأمور، لأنها لا تعتبر من الأعمال السياسية.
ثم استدرك محاولا شرح الموقف ، للمواطن (خميس)، الذي لم يزايله الخوف حتى الآن:
- أنت - فعلتها - بسرعة، وأنا أمضي أكثر من ساعة في المرحاض، أريدك أن تساعدني حتى أستطيع أن - أعملها - مثلك، بعجلة.. أنت لا تعرف كم أنا أعاني وأتعذّب كلّ يوم.
بعد جهدٍ استطاع المدعو (خميس) أن يفهم مايريده منه رئيس المخفر، ولأول مرّه يزايله خوفه، ويتجرأ ويرسم على شفتيه اليابستين شبه ابتسامة:
- أمن أجل هذا أرسلت في طلبي؟!.
- نعم.
- بسيطة.. يا سيادة رئيس المخفر.. القضية في غاية السّهولة.
وهنا استبشر رئيس المخفر، خيراً، فهتف بفرحة:
- كيف؟؟؟؟؟.. قل لي.. أرجوك.. فأنا أتعذّب.. وأضيع معظم وقتي داخل المرحاض.
تضاعف شعور (خميس) بثقته بنفسه، فها هي الحكومة بكلّ جبروتها وعظمتها وهيبتها،تلجأ إليه وتستشيره
في قضية على غاية من الأهمية.. لذلك أجاب:
- أنا يا سيدي.. عندما أتضايق، أحاول أن أؤجلها.. وكلّما تضايقت أضغط على نفسي، حتى - أحمّصها -، وعندها أهرع إلى البريّة، وخلال دقيقة أكون قد انتهيت.
ابتسم رئيس المخفر.. شعر بالراحة والسعادة، أخيراً سيضع حداً لهذا العذاب المضني، وأقسم في أعماقه، أن يكافئ (خميس) إن نجحت وصفته هذه:
- إذاً عليّ أن - أحمّصها -، أليس كذلك؟.
- نعم سيدي.
في اليوم التالي، رفض رئيس المخفر أن يدخل دورة المياه، قبل أن يغادر ببته. توجه إلى المخفر، وهو يشعر بالضيق بعض الشيء، لكنه سينفذ ماطلبه منه(خميس)سيحمّصها.
وحين دخل إلى مكتبه، استدعى كافة عناصره، كعادته، ليشربوا الشاي.. لكنه سرعان مابدأ يتململ في قعدته، فوق كرسيه، ومع هذا كان يردد بداخله:
- ليس الآن.. عليّ أن أنتظر، حتى - أحمّصها-، (خميس) قال لي هذا.
مضى كثير من الوقت، وهو يثرثر مع عناصره، محاولاً كبح مؤخرته، عن الانفجار.
أخيراً، شعر بمغصٍ شديد، مغص لا يقاوم، كأنه الطّلق.. نهض عن كرسيه، حاول أن يتجاوز كراسي عناصره بسرعة، لكنّ صمام الأمان أفلت منه، فها هو وقبل أن يفتح الباب يفرقع بقوة، كانت (ضرطته) بقوة انفجار قنبلة.. أحسّ بالخجل الشديد، لم يلتفت صوب عناصره، الذين تغامزوا، وضحكوا بعد خروجه.
وفي الممر.. ممر المخفر الطويل، وقبل أن يصل إلى بيت - الخلاء - حدث ما لم يكن في الحسبان، لقد - فعلها - في بنطاله.. ياللعار.
أقسم أنه - سيفعلها - في فم (خميس)، حلف أنه - سيخصيه -، سيدق رأسه، سيرميه في الزنزانة، وسيجعله عبرة لكلّ الناس.
وبعد أن غير بذته العسكرية، رمق عناصره بنظرات حادة وصارمة، أخرست ضحكاتهم المكتومة، أمر الجميع، باحضار المجرم (خميس).
خرجت كوكبة من رجال الشرطة، هرعوا إلى الاسطبل الملاصق للمخفر، امتطوا جيادهم بسرعة، لكزوا الخيول، فانطلقت محمحمة باتجاه القرية .
حاصروا بيت المدعو (خميس)، صاحب النصائح الكاذبة، المخادعة، داهم (الرقيب خليل)، وبعض العناصر، القبّة الكببرة، انطلقت صرخة ذعر من امرأة، كانت تغتسل عند العتبة، حاولت أن تستر عريها، لكنّ (الرقيب خليل) الذي حاول أن يتراجع، كان يحدّق بانشداه تام، إلى هذا الجسد العاري المثير، والذي تفوح منه رائحة الصابون، وبخار الماء السّاخن.. وتحيّرت عيناه أين ستركزان النظر، على النهدين الصاعقين
أم على الفخذين المكتنزين.
صاحت المرأة، لتوقظه من دهشته، واشتعال شهوته:
- ماذا تريدون؟!.
زأر (الرقيب خليل)، المتأجج بشهوته:
- نريد.. المجرم (خميس). صاحت وهي تحمي نفسها، بثوبها:
- هل صار زوجي (خميس) مجرماً.. ماذا فعل؟!.. ثم أردفت:
- هو ليس هنا.. غير موجود.. نزل إلى حلب.
مدّ (الرقيب خليل) رأسه أكثر، ليستجلي المكان بدقة، وكانت نظراته تنهشان الجسد العاري، رغم تستر المنطقة المهمة بالنسبة له، واستطاع رفاقه أن يدلفوا جميعهم ودفعة واحدة
إلى القبة الطينية، تسبقهم شهواتهم المتقدة بقوة. فصرخ (الرقيب) بوجه المرأة، ليطيل الوقت أكثر:
- إذاً فعلها زوجك (خميس) وهرب.. ولكني سأجده، وحق المصحف.. سأجده.. لن أتركه يفلت منّي.
شعرت المرأة بذعر شديد.. وكانت قد نسيت ما عليها من عريّ.. سألت:
- ماذا فعل (خميس).. أخبروني؟!.
- المجرم خدع رئيس المخفر.. وهرب.
عندما عاد عناصر الشرطة، بقيادة الرقيب، إلى المخفر، وكان قائدهم بانتظارهم غير مصطحبين معهم غريمه القروي، ثار عليهم وراح يوبخهم، لأنهم عادوا من دون (خميس)
مبالغاً بغضبه، لكي يواري خجله منهم، ولأنه لم يعد يطيق أية نظرة توجه إليه، من أحد عناصره، فقد عاد وأمرهم أن يخرجوا إلى الطريق، وينصبوا كميناً ، بانتظار (خميس) وأقسم لهم بأنه سيعاقبهم إن لم يستطيعوا القبض عليه اليوم.
حين وصل (خميس) مكبلاً، مدمى
الوجه وممزق الجسد، وكان هو الآخر قد - فعلها - في بنطاله من شدّة خوفه وهول ماتلقاه من ضرب مبرح، حين قبضوا عليه، بعد أن نزل من السيارة، العائدة من حلب.
ولمّا صرخ رئيس المخفر بوجهه الشديد الشحوب:
- أتضحك عليّ يا صعلوك؟!.
رد بصوت منكسر، فيه من الخوف والرجاء الشيء الكثير:
- ولكن يا سيدي.. أرجوك أن تدعني أشاهد البنطال.
استغرب رئيس المخفر طلبه هذا، لكن (خميس) أصرّ وكرر رجاءه..
باحضار البنطال.
فأمر رئيس المخفر عناصره، و على مضض منه، باحضار البنطال فوراً.
وحين أمسك (خميس) بالبنطال المبلول، والكريه الرائحة، نظر إليه ملياً
.. قربه منه.. تفحصه بشدة، تشممه.. وعاود الشمّ، ثمّ مدّ أصبعه، وأخذ من البنطال عيّنة، ورئيس المخفر وعناصره
يراقبونه، باندهاش وحيرة، ثم فاجأهم (خميس) حين وضع أصبعه وما عليها من براز، في فمه، حيث لحس أصبعه، تذوق ما كان عليها، ثم التفت إلى رئيس المخفر، وقال:
- أنا قلت لك يا سيدي، أن - تحمّصها - ولكنك يا سيدي.. أنت للأسف الشديد، قد أحرقتها ، وهذا ليس ذنبي.
حلب
* الضّحك على اللحى..
قال لي أحدُ الشعراء الكبار، ممّن يحتلّون مكانة مرموقة في خارطة الشعر العربي الحديث، بعد أن شكوتُ له صعوبة النشر، التي أُعانيها وزملائي الأدباء الشباب:
- هذا لأنّكم لا تفهمون قواعد اللعبة!!.
قلت بدهشة:
- كيف!.. علّمن.. أرجوك.
ابتسم شاعري الموقّر، وأجاب:
- عليكَ أن تكتب دراسات نقديّة، عن أولئك الذين يتحكمون، بحكم وظائفهم
في وسائل الإعلام، فكلُّ المحررين ورؤسائهم، في الأصل أدباء، اكتب عنهم مادحاً، وستُفتحُ لك أبوابُ النّشر على مصاريعها.
وقبل أن أعلّق على كلامه.. تابع يقول:
- عندي فكرة، مارأيك أن تكتب دراسة عن مجموعة "قطار الماء"، التي صدرت مؤخراً، ألا تعرفُ "رمضان النايف" صاحب المجموعة؟؟ هو رئيس تحرير
"وادي عبقر"، وهي تدفع "بالدولار".
اقتنعت بالفكرة مكرهاً، فأنا قاص. ماعلاقتي بالكتابة النقدية عن شعراء الحداثة!.
غادرت مقهى "الموعد"، ودلفتُ إلى المكتبة (الأقصىٰ) المجاورة، ولحسنِ الحظ لم أعان من البحث عن المجموعة كثيراً، غير أنّي فوجئتُ بارتفاع ثمنها.
عندما أبصرت زوجتي المجموعة في يدي، صاحت مستنكرة:
- ماذا تحمل؟!.. هل عدتَ إلى شراءِ الكتب؟.
ابتسمتُ لعلّي أُخففُ من غلوائها، فهي سريعة الغضب، وسليطةُ اللسان، تزوجتني بعد أن أعجبت بكتاباتي، وأنا لا أنكرُ وقوفها إلى جانبي وتشجيعها لي في السّنة الأولى من زواجنا.. كانت توفّر لي الوقت الملائم للكتابة، لكنها سرعان ما تغيرت بعد أن حطّ مولودنا الأول بعبئه على أعناقنا، خاصةً وأنها كانت تُتَابعُ ما يصلني من ردود الدوريات العربية والمحلّية، حاملة الكلمة ذاتها، بالأسلوب ذاته:
- "نعتذر عن نشر قصّتك، لأنّها لا تنسجم وقواعد النشر في المجلة، وفي الوقت عينه، فإنّ هيئة التحرير، ترحب بأية مساهمات أخرى، تردها منكم.
في البداية كانت "مديحة" تلومني
لأنّي لا أجيد انتقاء القصة المناسبة لكل مجلة.. لكنها عندما وجدت أن هذه العبارة، تكررت على جميع قصصي المتنوعة الأغراض، أيقنت أنّي كاتب غير موهوب، ولهذا أخذت تطالبني بالبحث عن عمل إضافي، بدلاً من تضيع الوقت في كتابة لا طائل منها، فقدت إيمانها بموهبتي، وراحت تعمل على قتل هذا الهوس الذي تملكني منذ الصغر.
وخلال فترة وجيزة، تحوّلت "مديحة" إلى عدو للأدب، فأخذت تسخر من كتاباتي، وباتت تعيّرني بما يردني من اعتذارات، وصارت تضيق بكتبي، ومن الأمكنة التي تشغلها.
ذات يوم عدتُ لأجد جميع ما أملكه من كتب، ومادبّجتهُ من قصص قد
تكوّمَ على السقيفة، إلى جانب المدفأة.
ولكي لا أفكر بالكتابة مرّة أخرى، صمّمت على أن تبعدني عن أصدقائي الأدباء، فسلّطت عليّ إخوتها، لكي يرغموني على مشاركتهم في اللعب بورق الشدة، وطاولة الزهر، واستطاعت أن تجبرني، على العمل مع أخيها سائق الأوتوبيس، كمعاون له أجمع أجرة الركاب، وأنادي بصوت عال خجول:
- جامعة.. سياحي.. سيف الدولة.
وهذا ما جعلها اليوم تدهش، حين رأتني أدخل وبيدي المجموعة الشعرية.
قلت لها:
- اسمعي يا مديحة.. هذه المجموعة سوف تفتح لي آفاق النشر.
ذهلتُ.. لقد ضمّت المجموعة خمس
قصائد، وأطول قصيدة تتألّف من عدّة أسطر. وكلّ سطر يتكوّن من مفردة واحدة، وقد يرافقها إشارة تعجّب أو استفهام، أو بعض نقاط. ولكي أكون منصفاً عليّ أن أصف المجموعة بدقة.
بعد الغلاف الأول، تجد على الورقة الأولى، عنوان المجموعة، واسم الشاعر. تقلب الصفحة. تطالعُك عبارة - جميع الحقوق محفوظة - تنتقل إلى الصفحة الثالثة فترى عنوان المجموعة مكرراً بشكل مجسّم، تأتي إلى الرابعة، فتقرأ:
- صمم الغلاف الفنان العالمي"ديكاسو" وعلى الخامسة يبرز أمامك الاهداء - إلى أصحاب الكلمة الملساء -. وفي الصفحة السادسة، تعثر على تنويه هام:
- الرسوم الداخلية، لوحات لفنانين عالميين.
وسوف تستوقفُك على الصفحة السابعة، ملاحطة ضرورية جداً بالنسبة للنقاد:
- كتبت هذه القصائد ما بين حصار
بيروت، وحرب الخليج الأولى.
في الصفحة الثامنة، ستقع على مقدمة
نقدية، كتبها أحدُ النقادِ البارزين، الذي يستطيع أن يرفعَ ويحطّ من قيمة أيّ أديب كان على وجه المعمورة،
استغرقت تسع صفحات. وعلى متن الصفحة السّابعة عشرة، ستحطّ الرحال على مقدمة أخرى، ولكن بقلم الشاعر نفسه،يتحدّث فيها عن تجربته الشعرية
الفريدة، وعن ذكرياته الأليمة في المعتقل، يوم تعثّر بإحدى الطاولات وحطّم ماعليها، وهو في حالة سكر شديد، مّما دفع السّلطة التي لا تميز بين الفنان المبدع والإنسان العادي، إلى زجه بالسجن،مثله مثل باقي المجرمين
وكان عدد صغحات مقدمته ثلاث عشرة.
وهنا تنتقل إلى الصغحة التالية، تقرأ عنوان القصيدة الأولى:
- طار القطار غوصاً -
بعد العنوان الذي انفرد بصفحة كاملة،
تقع على القصيدة التي تتألف من ست مفردات، توزعت على ستة أسطر:
- (حدقت/في/شهوتي!!/وقلتُ:/
صباح/الخير/).
وتنتهي القصيدة.
ولأنّ القصيدة، أو لأنّ معناها تافه وبذيء، وجدتني أصرخ:
- مديحة.. أرجوك أريد قهوة.
وتصاعف غيظي أكثر، حين تناهى إليّ صوت "مديحة" الساخر:
- حاضر يا زوجي العزيز.. يا مكتشف اللعبة والمفاتيح.
وحتى لا أشردَ عمّا كنتُ عازماً على تنفيذه، عدتُ لأتابع قراءتي.
على صدر الصفحة الرابعة والثلاثين،
ستبصر لوحة فنية مغلقة، مستعصية.
وتتهادى إليك الصفحة الخامسة والثلاثون، حاملة معها..عنوان القصيدة
الثانية:
- تضاريس السّحاب -
ليطالعك الإهداء على الصفحة اللاحقة:
- (مهداة.. إلى كلّ جندي على تخوم الهزبمة).
أما الصغحة السابعة والثلاثون، فقد فخرت بحمل العنوان من جديد، وبشكل فني مختلف، وأسفل العنوان، استلقت قصيدة طويلة:
- (عواء/الليل/أرعب/أحرفي../ أوقدت/ أصابعي/للكتابة../و../فجأة/ قفز/القلم/حين/اعتقلتني/ أوراقي/.).
وبما أنّ القصيدة كانت مطولة، احتلت ثلاثة عشر سطراً، فقد اقتضى ذلك أن تمتد لتصل إلى الصفحة الأربعين.
وضعت "مديحة" فنجان القهوة، على الطاولة التي نستخدمها لكل شيء، وقالت:
- ألم تباشر بدراستك التي ستفتح علينا ليلة القدر؟! حاولت أن أكظم غيظي، فأجبت:
- لم أنتهِ من قراءتها بعد، لكنها تبدو لي مجموعة سخيفة.
تراجعت مديحة بعض الشيء:
- سخيفة أم جميلة.. أنت ماذا يهمك؟.. المهم أن يفسحوا لك مجالاً للنشر.
- ولكنّي سأنافق يا مديحة، وأنا..
وهنا قاطعتني بانفعال:
- أنت ماذا؟.. أنا أعرف أنه لا يعجبك العجب، مَن منَ الكتّاب يعجبك؟.. بما فيه أصدقاؤك!!.
ومن حسن الحظ، صرخ ابننا، بعد أن
سمعنا ارتطام جسمه فوق أرض المطبخ، وهذا ما أنقذني من لسان
"مديحة" التي ركضت كمجنونة، فعدت إلى المجموعة.
وسيراً على قوانين المجموعة ونظمها،
ستركض الصفحة التالية بمثابة فسحة للتأمل في الفراغ الأبيض، وقد توحي بمقص الرقابة التقليدي،في حين رفعت
الصفحة الثالثة والأربعون عقيرتها، لتعلن عن عنوان القصيدة الثالثة:
- خرير السّراب -
وتخرج إليكَ القصيدةُ، في الصفحة الرابعة والأربعين:
منظومة على صفحة ونصف، ممتدة على ثمانية أسطر:
- (نافذتي/مغلقة/على/هواجسي،/ و
أنا/والنار/متشابهان/بجليدنا).
هنا نكون قد وصلت إلى الصفحة السادسة والأربعين، وكما جرت العادة، سترقص أمامك لوحة فنية جديدة، وإلى جوار اللوحة، على صدر الصفحة الأخرى كان عنوان القصيدة الرابعة:
- نحن أصل الفراغ -
أما القصيدة التي احتضنتها الصفحة الثامنة والأربعون، فقد كانت مؤلفة من جملة واحدة، توزعت على ثلاثة أسطر:
- (حفيف../الشوق!!../الصامت؟.).
باغتني صوت مزمار الأوتوبيس، فأدركت أن "هاشم" شقيق زرجتي جاء ليأخذني معه إلى العمل،وسمعت صوت
"مديحة" التي فتحت باب المنزل، تنادي على أخيها أن ينزل من السيارة، ويدخل ليتناول الغداء معنا، لكنّ "هاشم" مستعجل، لذلك طلب أن أخرج إليه، دخلت"مديحة" قائلة:
- ألم تسمع صوت "الزمور"؟.. أجّل كتابة مقالتك إلى الليل.
ولأني لا أطيقُ هذا العمل وأخجل منه، فأنا مدرس، أصادفُ الكثيرين من طلابي، وكم أعاني من العذاب والحياء حين آخذُ منهم الأجرة، ولهذا وجدتها فرصة لأتنصل من العمل:
- لن أشتغل اليوم.. قولي "لهاشم" أن يأخذ أخاك "صلاح".
صاحت مديحة:
- إذا كنت لا تنوي الكتابة، فلماذا لا تريد أن تشتغل؟!.
قلت، لكي أطمئنها بعض الشيء:
- حتى الآن لم أتخذ قراري برفض
الكتابة.
- يعني هل ستكتب؟.
أجبت وأنا كلّي حيرة:
- سأحاول.. سأحاول.
عدت إلى الديوان، وجرياً على العادة تشاهد في الصفحة الخمسين، لوحة فنية تتربع، يليها العنوان العريض للقصيدة الخامسة والأخيرة:
- أهازيج الموت -
وخلف هذا العنوان، على الصفحة الواحدة والخمسين، إهداء حار:
- (إلى لوزان وعينيها..).
ثمّ تتبدّى القصيدة على الصفحةالتالية:
- (الصبح/أصبح/يا../رندة/والقلب!/
تثاءب!!/بنشوى/ذكراك.).
وكما تلاحظ فقد احتلت القصيدة صفحة ونصف، لأنّها توزعت على ثمانية أسطر.
على شغف محترق للوصول إلى الفهرس، تقفز الصفحتان لتحتوياه.. ثم تنفردُ الصفحة السادسة والخمسون بخصوصيتها، في عرض ما صدر للمؤلف.. وفي الصفحة التي تتبعُها، كُتبت عناوين المجموعات التي تحتَ الطبع للمؤلف:
1 - الوردةُ القادمةُ من حتفها.
2 - أجهشت بشذاها المعطوب.
3 - وانكسرَ الأريجُ على جناحي فراشة.
4 - فاستفاقَ غبارُ الطّلع.
ولقد خُصصت الصفحة الثامنة والخمسون، والتي بعدها، من أجل التصويب الذي سقط سهواً.
تنتهي الصفحة الأخيرة من المجموعة، بتقاريظ تحت عنوان:
- مقتطفات ممّا سيكتب عن المجموعة:
- (لقد حلّق الشاعر "رمضان النايف" في
مجموعته هذه، إلى مافوق العالمية
بعشرة أمتار وسبعة مليمترات.).
امرؤ التيس.. جريدة اللف والدوران.
- (الحداثة عند رمضان النايف، حداثةُ وعي ومغامرة، ترتبط بالتراث التليد، بقدر المسافة التي تبتعدُ عنه.).
مجلة: نواجذُ النقد.. المتخبّي.
ولأنّ الصفحة انتهت، اضطرت دارالنشر
حرصاً منها على أهمية ما سيقال،لكتابة
التعليقين الآخرين، على الغلاف
الخارجي، تحت صورة الشاعر الباسم:
- (لقد أبصرتُ، بعد عمىً طويل، ذلك الزخم الفلسفي، الذي يغلي ويبقبقُ في سطور المجموعة.).
- أبو العلاء المغري.. في حوار له بعد عودته من بغداد.
-(كلما قرأت رمضان النايف، أشعر أنني مبتدئ في كتابة الشعر.).
جريدة: صوت الكلمة الفارغة.. أبو الدعاس.
ولكي لا نقول عن دار النشر، إنها نرجسية، تحبّ المدح، فهاهي تثبتُ نقداً حاداً "لعباس محمود العياض"، كتبه في مجلة الكلمة المشنوقة من أهدابها:
- (في المجموعة ثمة نقص واضح للعيان، فأين الصفحة التي تخصص عادة في كل الكتب، وهي هامة للغاية، ألا وهي - صدر عن دار النشر. أرجو من دار النشر العظيمة الصيت أن تتلافى مثل هذا الخطأ القاتل.).
عندما دخلت "مديحة ً، وجدتني قد مزقت كل ماكتبته من قصص، وقبل أن تستفيق من دهشتها،خاطبتها:
- أنا مستعد أن أعمل مع "هاشم" مثل الحمار.
اقتربت "مديحة" مني، لمحتُ حزناً في عينيها، لمحتُ عطفاً، حباً، دمعاً ساخناً مثل دمعي، مسّدت شعري، ضمّت رأسي إليها، أنهضتني من فوق كرسيّ، مسحت دمعتي بباطن كفّها، التقت نظراتنا، اختلجت شفاهُنا، تدانت، وسرى فيها اللهب.
حلب
* التّحدّي..
كان عائداً من عمله، منهكاً لا يقوى على جرّ نفسه، فتحت له"مريم" الباب، وهتفت بفرح واضح:
- "رضوان".. أنا أعرف كتابة اسمي، ظنّها تهلوس فهي أمّيّة مثله، فسألها ساخراً:
- وكيف تعلّمتِ الكتابة يا عبقريّة .
- من "سميرة"، هي التي علّمتني.
خفق قلبه، أمعقول هذا؟!.. هل يمكن له أن يتعلّم، وهو ابن الثانية عشرة، وبرقت في ذهنه فكرة، سرعان ما كبرت، قبل أن يخطو عتبة الغرفة:
- (سأعرض على "سامح" أن يعلّمني، سأرجوه إن رفض. سأشتري له "البوظة").
وفجأة.. شعر برغبة عارمة، في رؤية "سامح"، قرر أن يذهب إليه حالاً
وقبل أن يغسل يديه ووجهه من الغبار والعرق، ودون أن يغيّر ثيابه المهترئة والمتّسخة، قفز مسرعاً بينما كانت أمّه تعدّ له طعام الغداء.
دخل بيت عمّه "قدّور"، وجد "سامحاً" محنيّاً على كتابة وظائفه، فقال بسرعة:
-"سامح" أريدك أن تعلّمني كتابة اسمي.
رفع "سامح" رأسه نحوه ، وارتسمت ابتسامة ساخرة على شفتيه:
- تعلّم الكتابة صعب عليك.
- ولماذا صعب؟!. هكذا سأل بحنق.
- صعب.. ثمّ ماذا ستستفيد إن تعلّمت كتابة اسمك؟!.
- سأستفيد، سأتعلّم كتابة اسمك واسم أبي وأمي و مريم وسميرة أيضاً.
ضحك "سامح"، فاغتاظ "رضوان" وقد أدرك شعور ابن عمّه بالتفوق عليه، فأحسّ نحوه بكرهٍ شديد، غير أنّه وفي هذه اللحظة لا يريد إغضابه، وهو على أيّ حال قادر على ضربه، لذلك كبح حنقه:
- ماذا قلت؟؟.. هل أنت موافق؟.
هزّ "سامح" رأسه علامة الموافقة، وبقيّ صامتاً يتطلّع إلى الأرض، كأنّه يفكّر بشيء ما.
- إذاً هيّا بنا.. تعال علّمني.
- لا.. ليس الآن، سأعلّمك ولكن فيما بعد.
- ولماذا فيما بعد؟!.. أنا جاهز الآن.
سأل بلهفة من فقد صبره.
- اسمع يا "رضوان"، هناك فتى في صفّي يزعجني كلّ يوم، وأنا لا أقدر عليه، أريدك أ تنتظره عند باب المدرسة وتضربه.. هذا هو شرطي، لكي أعلّمك، فما رأيك؟.
صرخ "رضوان" دون تفكير، فلقد شعر بالنشوة والاعتزاز بنفسه، "فسامح" يعترف بقوته، بشكل غير مباشر:
- طبعاً أنا موافق.. حتّى من غير أن تعلّمني،فأنت ابن عمي،أنا على استعداد
لقتله نهائياً من أجلك.
عاد "رضوان" إلى بيته، وهو يفكر:
- (سوف أجعله عبرة لكلّ الطلاب الذين لا أحبّهم، فأنا قويّ، الجميع يشهد لي بذلك، وكلّ من يدرس يحسدني على قوّتي.).
في اليوم التالي، وقف "رضوان" قرب المدرسة، ينتظر وهو متفائل بقدرته على سحق خصمه، ولذلك فهو لم يحمل معه سلاحاً، كان يهمس في سرّه:
- (سأعاركه بيديّ، وإذا لزم الأمر سأشقّ رأس بالحجارة).
وكان يتخيّل كيف أنّ "سامحاً" سيحسدّه على قوته، ويعرف أنّه بدونه لا يساوي شيئاً.
بدأ الطلاب يخرجون، فأخذ يحملق
فيهم واحداً واحداً.. ولاح له "سامح" يرتدي صدريته ويحمل حقيبته، ولمّا اقترب منه كان وجهه مصفراً، فدنا منه وهمس:
-"رضوان".. أنا خائف.
فصاح "رضوان" بصوت مرتعش:
- ولماذا تخاف؟؟!!.. أنت دلّني عليه فقط.
فقال "سامح" بصوته المضطرب:
- سيعرف أنّك ابن عمّي، وسيقدّم شكوى بحقّي للأستاذ.
- لا عليك.. لن أجعله يعرف من أنا.. سأتبعه إلى أن يبتعد، ثمّ أنقضُ عليه وأرميه مثل الكلب فوق التراب.
ابتعد "سامح" كالمذعور وهو يهمس:
- لقد جاء.. ها هو، ذاك الذي يحمل حقيبة سوداء كبيرة.
نظر "رضوان" حوله، فشاهد عدداً كبيراً من التّلاميذ متشابهي الثياب، غير أنه عرف خصمه من بينهم، صاحب المحفظة السوداء، وعندما اقترب منه، وجده أطول قامة، وتظهر في وجهه علامات القوّة والشقاوة، تبعه "رضوان" بينما كان"سامح " يبتعد
وهو ينظر خلفه، بين اللحظة والأخرى.
دخل الخصم في زقاق جانبي، وأخذ يسرع خطاه، عندما عاجله "رضوان" بصرخة قويّة:
- توقّف يا كلب.. توقّف عندك.
التفت ذو المحفظة السّوداء مستغرباً، فرأى"رضوان"مسرعاً نحوه وهو يصرخ
- نعم.. أنت.. توقف، سوف ألعن أباك.
وفور وصوله هجم عليه، مسدداً ضربة قوية على وجهه، فحمل هذا محفظته، وهوى بها على وجه"رضوان" فتدفق الدّم من أنفه غزيراً،فجنّ جنونه
..وزعق:
- سأفعل بأمك يا ابن ال....
والتقط حجراً كبيراً وقفذف بها خصمه، الذي تفاداها ببراعة، واشتبكا بقوة، وكلّ يحاول أن ينتف شعر الآخر
بينما دم "رضوان" يسيل على وجهه، والتفّ الصبية يتفرّجون على المشهد المثير، ومن بعدٍ لمح "رضوان" ابن عمّه "سامحاً" واقفاً يراقب المعركة، فشعر نحوه بالحقد، كيف يقف هكذا دون أن يساعده، فهذا الخصم قويّ لا يستهان به، وندم لأنّه لم يأت معه بسلاح، وأصابه الخجل عندما استطاع خصمه أن يلوي له ذراعه، لا بدّ أنّ "سامحاً" يسخر منه الآن، يده تكاد تكسر تحت ثقل الضغط، ففكر أن يستغيث"بسامح
"، ولكن قوته المزعومة ستهتز حقاً في نظر "سامح"..تألم كثيراً ولكنّه استطاع
في اللحظة الأخيرة أن يصرخ:
- اترك يدي يا ابن السافلة.. لقد كسرتها.
ولم يكد يكمل عبارته حتّى جاءته ركلة على مؤخرت
تحرّرت يده وركض يبحث عن حجر، لكنّه وجد صاحب المحفظة ينحني على الأرض، فانطلق يعدو وخلفه خصمه، وهو يهتف:
- توقّف يا جبان.. سألعن أباك.
حول سور المدرسة قعد "رضوان" حاملاً في طيات نفسه ذلّه وانكساره، لقد هزم.. ياللفضيحة، وكان يتساءل:
- كيف سأقابل "سامحاً"؟ وماذا سيقول
هذا الوغد "لسميرة"، التي أتظاهر أمامها دائماً بالقوة؟.. اللعنة عليك يا
"سامح"، هل نصبت لي فخاً؟!.. هل كنت تعرف مدى قوة ذلك السّافل؟؟.. ودفعتني لأتعارك معه؟.. أكنتَ تمتحن قوتي؟!.. أم كنت مخدوعاً بقوتي مثلما كنتُ أنا مخدوع.. ولكنّي سأريك قبل أن أري خصمي، بأنّي لست جباناً.. فإن هربت اليوم، فذلك لأنّي متعب من العمل، في الغد سأحتال على أبي وأبقى في البيت، وآتي إلى المدرس ، قسماً سأهشّم رأسه، سأضربه حتّى الموت.. فلا تسخر منّي ياوغد، وإياك أن تذكر شيئاً أمام أختك "سميرة".
ما كان عليّ أن أهرب، كان عليّ أن أحمل سلاحاً، وأن أجد حجراً، بدل أن أهرب.. اللعنة على الحجارة، حين نحتاجها لا نجدها.. ما أبشع الهزيمة؟!.).
ظلّ "رضوان" هكذا متوارياً، يفكّر
وها قد حلّ الظّلام، ولا بدّ له أن يعود
قبل أن يتفقده أبوه.
وفي اليوم التالي، استطاع "رضوان" أن يحتال على أبيه، ولم يذهب إلى الشغل، نهض من فراشه متّجهاً نحو المطبخ، وأخذ يتفحّص السكاكين، فانتقى واحدة لينتقم بها لكرامته ويستعيد ماء وجهه من خصمه، وبسرعة أخفاها وراء ظهره، حين دخلت عليه أمّه سائلة:
- لمَ تركت فراشك وأنتَ مريض؟.
فهرب أمامها دون أن تلمح السكين
إنّه لا يخافها على الإطلاق، وهي أيضاً تتستّر عليه فلا تخبر والده بما يفعله. ولقد كتمت أمر تدخينه السّجائر أمامها رغم تهديداتها المتكررة.
كان عليه أن ينتظر، ريثما يحين موعد انصراف طلاب المدارس، فقضى هذا الوقت في محاولة تجربة السّكين في قطع الأشياء، وقام بالتدرّب عليها، حيث يقفزها بقوة عن بعد، فتعلق بأعمدة الكهرباء. لم يشأ أن يقابل
"سامحاً"، أجّل ذلك ريثما يسترد كرامته ويحقق انتقامه، وأقسم:
- (لو أنّي رأيته الآن، وشعرت بأدنى بادرة منه على السّخرية والتقليل من شأني، لكنت قتلته بالسكين فوراً.).
انصرف الفوج الأول، وتدفق الأولاد مندفعين مبتهجين لاستعادتهم حريتهم، فأسرع إلى زقاق معركة الأمس، مصمماً على الانتقام، في نفس المكان الذي شهد انهزامه، حتّى لا يشعر بالخجل والعار كلّما مرّ به.
وقف عند الزاوية مترصداً الذاهبين والقادمين إلى أن برز خصمه قادماً من بعد،خفق قلبه في حين اشتدّت قبضته
على السكين.. اختبأ عند المنعطف محدثاً نفسه:
- (سأباغته بطعنة في بطنه.. وأهرب.).
حينما اقترب ذو المحفظة السّوداء
وصار بمحاذاة المنعطف،برز له رضوان شاهراً سكّينه بيده، انتبه الولد لهذه الحركة السّريعة، فتجمّد مكانه لا يعرف ماذا يفعل، فسارعه "رضوان" بهجمة تريد أن تصل بطنه بطعنة خارقة، وقبل أن يصل إليه، انقضّت يد جبّارة لرجل شاهد "رضوان" يمشي خلف خصمه، ولكنه لا يدري كيف غفل عنه.
زعق الرجل وهو يشد بقوة يد "رضوان":
- ارمِ السّكين على الأرض يا كلب.. كدت تقتل ابني.
سقطت السكين.. وصرخ "رضوان":
- دخيلك يا (حجي).. اتركني.
في تلك اللحظة شاءت الأقدار أن ينعطف "قدور ..أبو سامح"، في هذا
الزقاق، ويبصر ابن أخيه، فركض نحو الرجل صارخاً:
- "تترجّل" على ولد يا جبان.
- سألعن والده.. كاد يقتل ابني.
لم يحتمل "قدور" وسدّد قبضة قويّة على عين الرجل، فترنّح الرجل بينما كانت يده تضغط مكان الضّربة، وبدأ الصّياح، فالتمّ الأطفال حول المتشابكين، وفتحت النساء الأبواب وبدأن بالصراخ.
وفجأة.. وبسرّعة فائقة.. انحنى الرجل والتقط سكين "رضوان" وقبل أن يتفاداه العم "قدّور"، كانت السّكين قد استقرّت في بطنه، تعالت الأصوات.. والصرخات.. من كلّ صوب، بينما كانت عينا العم شاخصتين، لقد أذهلته المفاجأة، وانطلق الرجل القاتل يعدو.. ومن خلفه ابنه..
ووقف "رضوان" يبكي، لا يعرف كيف يتصرّف، ولم يتحرّك إلاّ بعد أن خرَّ عمّه على الأرض، فأخذ الطفل"رضوان"
يركض صارخاً:
- لقد قتل عمّي قدّور.. عمّي مات.
مصطفى الحاج حسين.
حلب
فهرس قصص: (فشّة خلق)..
=======================
1 - مقدمة: الأستاذة مجيدة السباعي.
2 - فشّة خلق
3 - باثور (رئيس المخفر)
4 - الضحك على اللحى
5 - التّحدّي
--------------------------------------------
مصطفى الحاج حسين.