هشام العطار - بائعُ المثلجاتِ

ارتقى " مودي " سطحَ الفيلا يراقبُ الشارعُ منْ خلالِ منظارٍ مكبرٍ يقربهُ منْ عينيهِ بيمناهُ بينما تضغطُ أصابعَ يسراهُ على شاشةِ الموبايل لإعادةِ الاتصالِ بصديقتهِ " ماهيتابْ " أوْ " ماهيَ " كما يطلقونَ عليها . . . وأخيرا استجابَ هاتفها
- اتأخرتي ليهُ يا بيبي
هكذا قالَ فردتْ
- العربيةَ كانتْ في الوركشوبْ والشوفيرْ أتأخرُ عليا . . . أنا خلاصُ قدامي لحظاتِ وابقيْ قدامَ بيتكو . . . على فكرةٍ أنت جاي معايا وباقي الشلة هايحصلونا على هناكَ . . .
اشتعلَ قلبُ " مودي " فرحا فركضَ منْ السطحِ وامتطى درابزينُ السلمِ الخشبيِ الناعمِ وتزلجٍ عليهِ حتى هبطَ للطابقِ الأرضيِ فالتقطَ حقيبتهُ الصغيرةُ منْ الخادمةِ واخترقَ الحديقةَ عدوا ليجدَ "ماهيَ" قادمةٌ بسيارتها الحمراءِ المكشوفةِ فقفزَ علي المقعدِ المجاورِ لها دونَ أنْ تتوقفَ وانطلقا إلى الشارعِ العريضِ وسطَ ذهولِ عمِ صابرْ بواب الفيلا فناداهُ وفي يدهِ جاكيتَ منْ الصوفِ قائلاً
- يا دوديْ بيهْ . . . يا عبدُ الموجودْ بيهْ والدتكَ بتجولكَ خدّ الجاكيت دهُ معاك عشانِ الجوّ بيسقعْ بالليلِ .
لمْ يكترثا لصيحاتِ عمِ صابرْ وتابعا انطلاقهما نحوَ الطريقِ الصحراويِ في خضم من الأغاني الصاخبةٍ التي تصدرُ منْ سماعاتِ السيارةِ .
ألقيُ "مودي" جسده على "الشيزلونجْ" يتأملُ الأفقُ البعيدُ حيثُ تلتقي المياهُ الزرقاءُ الصافيةُ ونقطةُ اللانهايةِ . الهدوءُ يسودُ البحرُ الغامضُ . أطلقتْ الشمسُ أشعتها على الظهورِ العاريةِ لتمتزجَ معَ الماءِ المالحِ المتناثرِ على الأكتافِ فتذر حروقا ورديةً وبقعا بنيةً وقشورا جلديةً .
- تعرفي يا "ماهيَ" قدْ إيهْ البحرِ دهُ مليانْ أسرار .
لمْ تلقَ "ماهيَ" بالاً بكلماته واستدارتْ منحنية نحوه بلباسِ البحر بصدر نصف عارِ لتلقي في عينيَة شغفا بسحر جسدها بينما تعمد أن يرحل بعينيه سابحا فيما وراءَ خط الأفقِ . . . انتظرتْ "ماهي" برهةً لعله يستجيب لحيلتها الأنثوية في لفت انتباهه . ولما أصابها يأس الانتظار زفرت النفس الأخير من دخان سيجارتها و دفنتها في الرمال الصفراء بحركة عصبيه فالتقطت القاربَ المطاطيَ وسلخته منْ حاويتهَ لتملأهُ بالهواءِ و نظرت في وجهه قائلة:
- المية حلوهُ . . . ما تيجىْ تنزلَ .
جذبتْه زرقة الأفقِ فصار يغزوه بنظرات سارحة في الفضاء .
استلقتْ " ماهي " على القاربِ تستعرض مفاتنها وابتعدتْ داخلَ البحرِ إلى أنَ قطعَ استرسالٍ بصره مرورِ بائعِ المثلجاتِ أمامه وهوَ يدفعُ عربتهُ المغطاةَ بالخيشِ والثلجِ المجروشِ وقواريرُ المياهِ الغازيةِ والعصائرِ .
الرطوبة العالقةِ بالهواءِ تتكثف حبيباتٍ لتغطيَ قواريرهُ المثلجةَ كذلكَ كانَ عرقُ جبهتهِ يتكثفُ حبيباتٍ ليغطيَ جبينهُ فيبلل أطرافَ قبعةِ البحارةِ ذاتِ الأطرافُ الباليةُ التي يحشرها فوقَ رأسهِ .
إنهُ بحارُ وصائدُ أسماكِ وبائعِ مثلجاتٍ في فصلِ الصيفِ أما في الشتاءِ فهوَ عاملٌ يوميةٍ وماسحِ سياراتٍ وساحرٍ يبتلعُ شفراتِ الحلاقةِ وقطعِ الزجاجِ المكسورِ أحيانا منْ أجلِ إغاثة زوجتهِ وأطفالهِ وأمهِ ببعضِ الكساءِ وقليلِ منْ الطعامِ والأدويةِ .
بقدميهِ المفلطحتينِ المتشققتينِ يسيرُ كجنديٍ في سلاحِ المشاةِ يكاد يدهسُ أقدامَ المصطافينَ المسحورين بعشقِ البحرِ ليعلنُ عنْ مثلجاتهِ بصيحاتٍ تناغميةٍ لا يفهمُ منها سوى كلمتينِ " حاجةٌ ساقعهْ " .
يمرَ ببصرهِ على إنصافِ العرايا ويتعجبُ : كيفَ استطاعَ هؤلاءِ أنْ يأكلوا ويشربوا ويشتروا السياراتِ الفارهةَ ويسكنوا قصورَ الشاطئِ دونَ أنْ يكدوا أوْ يفكروا في سبلِ السعيِ للرزقِ . . .
انطبعتْ تلكَ المشاهدِ بمخيلة "مودي" فمدد قفصه الصدري و أوسعه ليجذب إلى رئتيه نسيما ممزوجا برائحة البحرِ وعندها صاحتْ "ماهي"
- أنتَ ها تفضل قاعد كدهِ زيَ التمثالِ . . . الشلة كلها وصلتْ قومَ ياللا أنزلَ البحرُ .
الجميعَ يهللُ والكلُ يتناولُ شطائرَ البيتزا وقطعِ الكيكْ ويتجرعون المياهِ الغازيةِ وهمْ يتضاحكونَ ويتراقصونَ . أمسكتْ " ماهي " بالقاربِ المطاطيِ الممتلئِ هواءً فقذفتهُ في وجهه وقالتْ
- أنا راجعةٌ الشاليه يا "مودي" . . .لما تفوق ابقي سلم لي ع البحرُ
فغنيٌ باقيَ الشبابِ " أنا راجعهُ الشاليه يا مودي سلم لي ع البحرِ . . . هيلا هوبْ " فوضع الشبابُ "مودي" على القاربِ وحملوه علي اكتافهم كما يحملون خشبة الميت وهمْ يضحكونَ يمثلونَ جنازةٌ يلعب فيها "مودي" دورُ المتوفي ويغنونَ " وحدوووهْ " فألقوا به والقاربِ منْ تحتهٍ إلى البحرِ يدفعونه نحوَ الأفقِ دفعا وهو لمٌ يبتلَ بعد . . . القاربُ الممتلئُ بزفيرِ " ماهي " يستديرَ في المياهِ فرأى "مودي" الشاطئُ يبدو مرحا .
اللوحةُ من هنا تبدو جميلةً..
شاطئَ ساحرٍ ، رمالٌ بيضاءٌ وشمسٌ ساطعةٌ .
استرخي حينُ استدارَ مركبه الهوائيِ نحوَ الأفقِ الحالمِ وصار يتأمل احداث اليوم وهو يطالع السماء فاستسلم الي النوم وهو يفكر في "ماهيَ" وغيظها منه الذي يؤكدُ تعلقها به و حبها له .
" ماهيتابْ " حبيبته تتمثل له في فيلا جديدة هي هديةَ أبيه لهما لتكونِ عشِ سعادتهما و سيارةُ رياضية هي هديةَ أبيها لهما لتكون مطيتهما كبساط الريح . . طارت أحلامه إلى فرنسا ليقضيا اجمل ليلةَ رأسِ سنةِ في مارسيليا لتأتيَ الثانيةِ عشرةَ تماما فتنطفئ الأضواءُ ليقبل "ماهي" قبلة حارةٍ لكيْ تضاءَ الأنوارُ بعدها فيفجراُ غطاءَ زجاجةٍ الشامبانيا كما في أفلامِ أنورْ وجدي القديمةِ . . . وطالتْ القبلةُ . . . لكنَ الأنوار لمْ تضاءَ . . . مازال في ظلام حالك . . لماذا لا تضاءُ الأنوارُ ليغنيَا للعامِ الجديد
طالت القبلة الدافئة حتي صارت باردة.. تسربت البرودةٍ فشملت كل جسده . . الريحُ تعصفُ بخلايا رأسهِ . . . يصيبه الدوارُ وهو مغمضُ العينينِ . يشعرُ بالغثيانِ فتح عيناهَ . . . ليجد نفسه فوقَ القاربِ الهوائيِ في عرضِ محيطٍ أسودَ كئيبٍ لا شاطئَ لهُ ولا ضجيجَ إلا لصفيرْ الرياحِ وهديرِ الأمواجِ .
الدمى التي كانتْ تلهو علي الشاطئِ في الصباحِ استحالتْ حيتانٌ ضخمةٌ واسماكَ أخطبوطيةً لزجةً تلتفُ حولَ قدميهَ . . . تتمثلَ له صورةَ بائعِ المثلجاتِ ضخمٌ شامخٌ بقبعتهِ البيضاءِ وقدميهِ المتشققتينِ تحتلانِ الفراغُ بينَ السماءِ وصفحةِ المياهِ . خطواتهُ العسكريةُ تهزُ المحيطَ الأسودَ هزا . نظراتهُ تثيرُ رياحَ عنفٍ تتسلطُ على جسدهٍ وتزلزلَ البحرُ فتقلبَ أمواجا كالجبالِ . والقمرُ يطالعُ الصورةَ صامتا يستمتعُ بالمشهدِ . . . قروشُ البحرِ تدورُ حوله في حلقاتِ وموجةِ قويةٍ تصدمه بأنيابِ حيوانٍ بحريٍ ضخمٍ فيغوص في أعماقِ الوحدةِ والمجهولِ بلا عودةٍ.
.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى