عبد الفتّاح القرقني - انتظار

السّاعة الواحدة و خمس دقائق بعد الزّوال و لم يبق على قدوم الحافلة إلاّ وقت قصير جدّا و بالرّغم من ذلك قد ضجر الرّكّاب من هول الانتظار لأنّ الطّقس حارّ و أماكن الظّلّ منعدمة ما عدى زيتونة عريقة تفيّؤوا بها من شدّة القيـــــــظ و لفح الهجير فالحرارة هذا اليوم تخطّت الأربعين درجة حتّى صارت لا تحتمل.

وقفت زينـــــة بعيدة عن زحمة الرّكّـــــاب محتميّة بمظلّة مصنوعة من سعف النّخيل وضعتها فوق رأسها . زينة شابّة في ريعان شبابها ممشوقة القــوام ، تضرة الوجه ، عسليّة العينين تكره الاكتظاظ و تشمئزّ من الرّوائح الكريهة الصّادرة عن العرق صيفا .

على حين غرّة ، شعرت بخطوات حثيثة تدنو منها في حياء . ها قد اقتربت أكثر فأكثر محافظة على خببها و نسق وقعها . تساءلت في حيـــــــــــرة و اضطراب و هي مختلجة الجفون تهتزّ ذعرا كغزالة شاردة في البيداء : « يا إلاهي ما هذا ؟ يا إلاهي ما هذا ؟ يا إلاهي ما هذا الّذي أسمعه في نفور إلى درجة أكاد أن أسدّ أذنـــيّ ؟ خير إن شاء الله ... سترك يا ربّ

أطرقت رأسها في خفر و دسّت وجهها بيديها البضّتين النّاعمتين . لم تجرؤ على الالتفات إلى الوراء لكنّها شعرت بأنفاس تلفح وجهها المتهلّل و أصغت إلى صوت خافت بادرها بالتّحيّة:

- « السّلام »

- « و عليك السّلام و رحمة الله و بركاته »

لقد تأخّرت الحافلة » »

-« فعلا لقد تأخّرت كالعادة ».

- « أنا اسمي حامد و أنت ما اسمك »

- « زينة يا سيّدي »

«- « اسمك رائع . الله يزيّن أيّامنا و ليالينا

ها قد التفتت إليه و نظرت إليه شزرا و على ثغرها المرجانيّ ابتسامة عذبة أماطت اللّثام عن أسنان برّاقة ، بيضاء مرصّفة كعقد الياسمين .

ما أجمل الصّدف و ما أعطرها فربّ صدفة خير من ألف ميعاد ! يا له من لقاء عفويّ ، أنيق تجاذب فيه حامد و زينة أطراف الحديث في راحة بال و تلقائيّة كاملة . للمرّة الأولى تتعثّر زينة في الكلام و يخفق قلبها خفقات مذهلة ، سريعة ، عنيفة كادت تقتلعه من جذوره .

« كم هو وسيم ؟ كم هو جذّاب ؟ كم هو أنيق ؟ »

اقتربت الأنفاس منها من جديد و تمازجت مع أنفاسها العطرة و تناغمت تناغما مريحا . قال لها حامد باسما في منتهى اللطف و الرّقّة

ألا ترغبين في احتساء فنجان قهوة قبل مجيء الحافلة؟ »

- لا ، شكرا جزيلا «.

تكرّر المشهد و أصبحت زينة تتجاذب مع حامد أطراف الحديث . لقد عرفت عنه أنّه أعزب و يشتغل في ميدان الاتّصالات و عرف بدوره أشياء عديدة عنها : هي أيضا عزباء تبلغ من العمر ثمانية عشــــــر سنة و تشتغل خيّاطة بسيطة في معمل على ملك أحد الأثرياء مقابل أجر زهيد .

صارت زينة تأمل بصدق و من أعماق فؤادها أن تتأخّر الحافلة كي تتمكّن من أن تلتقي بحامد و تفضفض له بما يضطرم في صــدرها و هو بدوره لا يخفي عنها أيّ جديد في حياته بل يذكره لها بكل تفاصيلــــه و حيثيّاتــه في منتهى العفويّة و الأمانة و هو مبتهج مغرق في الضّحك حينا و محزون مقطّب الجبين حينا آخر .

كان في كلّ لقاء يدعوها أن ترافقه إلى المقهى لاحتساء فنجان قهوة إلاّ أنّها كانت تمتنع دون أن تكون مقتنعة بدعوته . إنّها تجهل بصورة قطعيّة سبب رفضها لطلبه فأمواج الحبّ و ذبذباته المنعشة بدأت تسري في جسدها الفتّان الطّافح ببراعم الأنوثــــــــة . ربّما عادات و تقاليد قريتها متحجّرة لا تسمح للفتاة بالجلوس في المقاهي أو ربّما هي تستنكف من ذلك لما سمعته عن المغامرات العاطفيّة الفاشلة للعديد من فتيات قريتها و هي لعمري سلوكيات مخجلة يندى لها الجبين فيتفصّد عرقا غزيرا ليست له نهاية و لا آخر.

كان رفض فنجان القهوة مقيتا ، رتيبا ، روتينيّا ينزل نزول الصّاعقة على قلب حامد الزّاخر بالحبّ و الوفاء لهذه الفتاة الفائقة الجمال فيمزّقه إربا إربا و يفتّته تفتيتا قاسيا دون رحمة أو إشفاق فيتحمّل هذا العاشق الجديد كلّ هذا الإيذاء و يعتقد أنّ هذه الأزمة إذا اشتدّت ستنفرج لا محالة و المسألة مسألة وقت فقط هو لا يستطيع تقديره فليتركه بيد الله سبحانه و تعالى .

و جاء اليوم التّعيس النّحس و هو اليوم الّذي لم تجد فيه زينة حامدا في المحطّة كسالف الأيّام . انتظرته في اليوم الموالي و في الأيّام الّتي عقبته على أحرّ من الجمر قد برّح بها شوق جارف إليه و لكن دون جدوى . هيهات فها هو معبد الحبّ الّذي بنته في مملكة أفروديت و لم تفصح عنه و لو بأدنى همسة أو إشارة لعشيقها قد تزلزلت أركانه

و انهار و صار ركاما في عداد المفقودين أثرا بعد عين . و ها هي أحلامها الورديّة تتبخّر كالماء المعرّض للحرارة و تتلاشى في سراب بيدائها

و ها هي تجربتها الأولى في الحبّ داخل مجتمع محافظ صادر حريتها و قمعها تبوء بالفشل و لكن هي مصرّة على أن تعيش تجارب أخرى تنحتها بإصرارها الصّخريّ و إرادتها الفولاذيّة متمرّدة على كلّ القيود الّتي كبّلتها و حرمتها من حياة شريفة راقية .

مرّت على تلك الحادثة سنة كاملة لم تنقطع فيها زينة عن الذّهاب إلى الكافيتيريا وحدها فهي تطلب فنجان قهوة تنظر إليه طويلا كأنّها تسترجع ذكرياتها الجميلة مع حامد ذي الملامح العربيّة : قامة فارعة

و بشرة قمحيّة و شعر فاحم سبط و عينان زرقاوان و شاربان مفتولان ، بارزان يجسّدان معاني الفحولة و الأنفة و الرّجولة .

و عندما تملّ الجلوس ساعات و ساعات تبارح المكان غائمة ، هائمة مخلّفة وراءها ألف سؤال و سؤال و السّبب هو « فنجان قهوة ».



عبد الفتّاح القرقني

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى