سمير لوبه - السلطان حامد في مدينة البط

بينما أسعى بحثا عن ضالتي تغمرني تلك الذكرى تسيطر علي سيطرة تامة لا تتوقف عن ملاحقتي ، تحاصرني في صحوي وفي منامي ، شيء ما يزج بها في رأسي فتبدأ في الدوران حولي ، لا أعرف أهي ذكرى جديدة أم قديمة ، يبدو أنها جديدة وقديمة في آن واحد ، صارت أقرب من الواقع ولا يمكنني تجاوزها ، علي أن أجاريها ربما أعرف طريق نهايتها إذا سايرتها ، ها أنا ذا أدخل من بوابة الشمس جنوب الشارع العتيق الذي يبدو خاليا ويخيم عليه السكون ، ثمة كثير لأراه فيه ، دكاكين مكدسة بالأجهزة الكهربائية وأخرى بالملابس تحتل الرصيف وبعضا من نهر الطريق ليرى المارة المعروض منها وبين دكان وآخر يفترش بعض الباعة جزءا من نهر الطريق لعرض بضاعتهم من سيور جلدية ونظارات شمسية بأسعار ربما هي الأقل سعرا من غيرها ، ولكن ليس هناك أناس كثيرون ، فقط باعة يحاولون جذب انتباهي لأرى بضاعتهم أملا أن أشتري منهم ، أفكر في هذا الشارع وما كانت عليه الصورة إذا عثر النادل اليوناني " إستيليوس " تحته على مقبرة إسكندر ، أتوقف لمعاينة المعروض لكن فرصتي قد حانت ؛ وصلت أخيرا إلى أكشاك ضاقت بالكتب والمجلات تربطني أمامها حبال الشوق وربما الحنين فأقف أمامها وحيدا فليس هناك من زبائن غيري ، ويبدأ بائع الكتب في البحث عما أريد فلا يفلح وتبوء محاولات غيره بالفشل ؛ تمتزج ابتسامتي بالحسرة ، فإذا بطفل لم يتجاوز العاشرة يحمل في يديه مجلة ، وما أن وقعت عيناي على غلافها حتى أسرع نبض قلبي فيطيح بي حنين جارف إلى أحضان الذكرى ، نعم أتذكر يوم صدر ذلك العدد في أول يناير 1975 لا أنساه ، في ذلك اليوم عوقبت بالحرمان من المصروف فجلست على الأريكة منزويا حزينا لعدم قدرتي على شراء العدد الجديد من المجلة ، أنظر في عين أمي التي ملأ وجهها البسمة بينما يبث الراديو برامجه الصباحية ، تمد أمي يدها لي بخمسة قروش
- لا تخبر أباك بأنني أعطيتك المصروف
أضعها في جيب بيجامتي وأنطلق صوب دكان " علي بابا " بائع الجرائد وما أن أعطيته الشلن الورقي حتى ناولني العدد الجديد ؛ أطير به فرحا إلى البيت أفتح بابه فتقابلني أمي بابتسامة ، وعلى الأريكة أجلس في غبطة منفردا مع أبطال العدد الجديد أقرأ حكاياتهم الجديدة ، هذه قصة عم دهب و الجدة بطة مع بطوط وتلك مغامرة ميكي مع كلبه بلوتو في البحث عن كنز مفقود وأيضا قصة جديدة من قصص بندق وأخيرا قصة لعصابة القناع الأسود تسطو فيها على بنوك مدينة البط ، وفي أخر العدد قرأت الحلقة الثانية من قصة السلطان حامد ومقاومته للغزاة الفرنسيين في بلدة شطانوف للكاتب يوسف إدريس والتي بدأت قراءة الحلقة الأولى منها الخميس الفائت وتعلقت بها وما أن التهمت القصص الأربعة وحكاية السلطان حامد حتى أمسكت بقلمي الرصاص لأساعد فأر المتاهة الجائع في الوصول لقطعة الجبن في مسابقة ذهنية ثم قرأت في رسم توضيحي خطوات صنع فانوس رمضان من الورق المقوى والسوليفان الملون وحفظتها عن ظهر قلب وبدأت في تنفيذها من فوري ، يعود أبي من عمله ويرى الفانوس الجميل فيعطيني بريزة مكافأة ، الآن ضمنت إتمام قراءة قصة السلطان حامد وحكايات مدينة البط في أعداد تالية .
- هل تريد مكانا تشتري منه أعداد ميكي قديمة ( يقول لي الطفل )
أهز رأسي مبتسما علامة الموافقة وأسير في أعقاب الطفل فنخرج معا من بوابة القمر شمال الشارع العريق ، فجأة يتوقف الطفل أمام دكان علي بابا التي باتت في حال مغايرة لما كانت عليه ، الأرفف تنوء بالمقرمشات والحلويات ، تتكدس الثلاجة بالمشروبات الغازية والعصائر ، وإلى جانب البائع علب التبغ مختلفة الأنواع ، الدكان يعج بالزبائن ، ينادي الطفل
- ( افتح يا سمسم)
فإذا بأعداد ميكي تصطف على الأرفف تجاورها المجلات المتنوعة والكتب وجرائد الصباح وإلى جوار عم علي الراديو يصدح بأعذب الألحان ، تعانق عيناي تلك الأعداد بشوق ولهفة ولسان حالي يقول : لي مع كل غلاف هنا ذكرى وحكايات ، لقد رحلت تلك الأيام وأخذت معها كل الألوان ، أنظر للطفل الذي يخرج من جيب بيجامته الكستور الشلن الورقي يعطيه لـ " عم علي " فيناولني المجلة ذاتها ، أقاوم دوار السعادة وبقدمين يرفرفان أطير فرحا أنطلق إلى بيتي أفتح بابه ، تقابلني زوجتي بابتسامة ، وعلى الأريكة أجلس في غبطة منفردا مع أبطال العدد القديم .
بقلم #سمير_لوبه

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى