محمود سلطان - أنا وأبي...

لم أرَ جدي، مات قبل أن أولد، لكن سمعت أبي يقول: إنه لم يمتْ، ولقطع الطريق على تفشي فضيلة السؤال والحوار بين أبنائه.. أستدرك متسائلاً: كيف يموت من مسَّه قبسٌ من روح قدسية؟
ظلت صورة جدي في أذهاننا مبعثرة، تتقاذفها ريحٌ، شاء أبي دائمًا أن تظل تعصف بالصورة، فتبقى في التيه بعيدة عنّا، ويبقى أبي وحده هو من يملك مفاتيح استدعاء روح جدي في جلسات تحضير أرواح تنتقى من الصور، كما ينتقي ما يشتهيه من بقالة العم مسعود في الجهة الأخرى من النهر، الذي يشق وسط قريتنا. قال أبي إنه الدكان الذي ستجدون فيه صورة جدكم على هيئته، قبل أن يعتريها القص واللصق والزيادة والنقصان.
سألته كيف كانت هيئته يا أبي؟! قال: كهيئتي: الغترة، والقميص الأبيض القصير، وسروال يستر إلى ما قبل الكعبين. أبي أصلاً لم يكن على تلك الهيئة، كانوا ينادونه في قريتنا: "يا أفندي". ذات يوم عبر النهر مرتديًا البنطال والقميص، ثم عاد حاملاً ما لذ وطاب من دكان العم مسعود، وقد أطلق لحيته وغير هيئته واستبدل عطره الباريسي بالمسك القادم من الصحراء.
لم أستطع النوم ليلتها، لماذا يريد أبي دائمًا ألا يظهر إلا ما يريد من جسد جدي المسجى في بهو الزمن، تتلقفه أيادٍ وتتقاذفه أخرى.. جدي الوقور بات مثل لعبة الكرة تركلها أقدام الصبية في حارتنا التعيسة، يغشاهم النعاس اللذيذ مع كل هدف يهز مرمى الفريق الآخر، وعندما تحملهم العتمة إلى حوارينا الضيقة، تنتظرهم عند الأبواب بيوت أرخت ظهورها المتعبة إلى حصير غياب فلذات الأكباد، الذين ساقهم أبي إلى دوار العمدة..غفوت للحظات رأيت فيما يرى النائم وكأني في دمشق، وشاهدت على ناصية طريق موحش يسترخى على صدر العتمة الإمام الحافظ شمس الدين الذهبي، متعبًا يتكئ على عصا تنخر فيها ديدان الراحلين من جثث الموتى. أشار إليّ: أنا وجدك كهاتين ممسكًا بإصبعيه الوسطى والسبابة.
استيقظت وكأني أسلم الروح.. كانت قدم أخي قد تعثرت فدهس بالأخرى على عنقي، نهرني، علا صوته، وضج البيت بالخلافات: دع ما أنت فيه من هلاوس، شد الوثاق على مداخل دفاترك الخالية واترك لأبيك حرية الإملاء.
دخل علينا أنور ابن عمي فهمي أفندي، عاش بالقرب من دار الأوبرا القديمة في القاهرة، ولا يزال يحفظ النوتة الموسيقية لمعزوفة "ريغوليتو" الإيطالية لجوزيبي فيردي التي استهل بها حفل افتتاح الأوبرا في نوفمبر 1869.
مد لي يده، ترددت!! بعدما شممت منها رائحة شواء جثث تشبهني، رحل وتركني هدفًا في ميدان رماية الدراويش. في الطريق غاصت قدمي في أرض أبي السبخة، وفجأة بطشت بي يد ثقيلة، وأعادتني إلى المداود في زريبة المواشي.
أحسست أنني اصطدمت بأول عمود إنارة، ولكني لم أعتد إلا مشاركة الفئران في الجحور المظلمة، غادرت محطة القرية قبيل الفجر، والناس في شبه البيوت موتى، تلذذت بالتسكع في شوارع المدينة، شربت كأسا من عصير القصب ثم أويت إلى الظل "رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ".
النهار السرمدي في المدينة لا يعقبه ليل، والنوم والنور لا يجتمعان، شعرت بأنني نصفان الأول هناك مربوط بالأصفاد على عتبات الدوار الكبير، أجلس تحت قدمي أبي والثاني هنا في المدينة يبحث عمن يضع عني إصري والأغلال التي كانت علينا. تذكرت نور ولد عمي فهمي أفندي.
استقبلني عند الباب: أعرف ما الذي أتى بك! إنه جدك ثم أبوك! مد يده إلى طاولة مكدسة بالكتب والوثائق ولوحات يبدو أنها مرسومة بالزيت، انتقى واحدة وعرضها عليّ ثم سألني: أتعرف ما هذه؟! إنها لوحة "مشعل القناديل في شوارع القاهرة" رسمها لجدك الفنان النمساوي "لودفيج دويتش".
مشكلة أبيك أنه يريد أن يبقى جدك "مشعل القناديل" في مصر المملوكية على ذات وظيفته ونحن في عصر الكهرباء.
ثم سألني مستاء: أنا الآن مسافر أتأتي معي؟ ولما طال صمتي تركني ورحل. فحملت أسمالي وعدت مجددًا إلى أبي.



من مجموعتي القصصية "الشبيهان" دار "أفاتار" للنشر . ط القاهرة 2021

1710153214283.jpeg

الغلاف للفنانة البريطانية : ميرتيل فلورنس بروم Myrtil Florence Broome

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى