حين صرّح القاضي بالحكم، سمعت صوته، كأنّه يأتيني من بعيد، كدت لا أصّدق ما تلاه :"حكمنا إبتدائيّا حضوريّا على المتّهم بالسّجن ثلاث سنوات من أجل ارتكابه لجريمة إشاعة أخبار زائفة و بثّ الفوضى وتعكير صفو النّظام العام . صدرت منّي التفاتة، وأنا أحاول استفسار ما سمعت ، إذ بعون يضع الكبل من حول يديّ، ويرافقني خارج قاعة الجلسة، في اتّجاه حجرة الإيقاف، حيث مكثت ساعتين تقريبا، ثم ركبت شاحنة مكتظّة بالموقوفين، أخذت طريقها إلى السجن.
مازلت أتذكّرلحظة ارتكاب" الجريمة "،عندما نشرت على الانترنت هذه الرّسالة الموجّهة إلى فخامة رئيس الدولة ،أطلب منه رفع هذه المظلمة ، جاء فيها ما يلي :
إلى فخامة رئيس الدولة :
إنّني الممضي أسفله الحبيب بن المختار بن سعيد، ولدت بقرطاج البيرصا، قريبا من تلك البحيرة الصّغيرة، المنفصلة عن البحر والمنعزلة عن المدينة، والمعروفة تاريخيّا باسم "المواني البونيّة"،كانت منذ ما يزيد عن ألفي سنة، ميناء السّفن الحربيّة لقرطاج ، ولدت إذا ،تحت تلك السّماء، الّتي ما انفكّت تعيد عليّ سرد أسطورة "قرت حدشت" أو المدينة الجديدة، التي أسّستها الملكة "ديدون" وتسمّى أيضا "عليسة" ،القادمة من مدينة صور، الواقعة ببلاد الشام.
وقد حدّثني والدي، أنّ البيت الّذي نشأت فيه، -غال و ثمين ، يقدّر كلّ شبر منه بالذّهب الخالص ، فقد فوّت جدّي "سعيد" في محلّه المعدّ لبيع الذّهب ، الواقع في سوق "البركة"، في المدينة العتيقة، ،لشرائه. ثم وهبه جدّي لوالدي قبل وفاته ، على أن لا يفوّت فيه أبدا، بعد أن وزّع ما تبقّى من ثروته على أبنائه .
ثمّ توفّي والدي، فأوصاني بحفظ الأمانة ،فاشتريت مناب شقيقي حسن ومنية سعيد في البيت، وأصبحت أملكه بالاشتراك مع شقيقي الهادي مدّة عشرين سنة ،دون أن ينازعني في ملكيّته ، وفاء لتلك الوصيّة .
وذات يوم، اتّصل بي شخص مجهول، لا أعرفه، أخبرني، أنّه يدعى "محمد نبيل" وعرض عليّ في مكالمة هاتفيّة مقتضبة، بيع البيت، فرفضت، وبعد مدّة قصيرة اتّصل بي مرّة أخرى، ليعلمني ،أنّي إن لم أبعه طوعا سأرغم على بيعه قسرا ، لم أعر آنذاك لكلامه أهميّة ، واعتبرته من قبيل اللّغو.
حتّى فوجئت بدعوى مرفوعة ضدّي من طرف "محمد نبيل"، جاء فيها، أنّه أصبح شريكا معي في ملكيّة بيتي بعد أن اشترى مناب شقيقي الهادي ، طالبا من المحكمة الحكم بقسمته .
وبيع منزلي بالمزاد العلني لعدم قابليته للقسمة ،واشتراه "محمد نبيل" كما توعّد، وأخرجني أعوان الأمن منه بالقوّة العّامة بعد أن أودع ثمنه الزّهيد بخزينة الدولة، فآواني شقيقي حسن سعيد، لمدّة قصيرة ثمّ انتقلت إلى بيت تسوّغته ،و كم كانت صدمتي كبيرة حين أدركت أن ما دبّر ضدّي كان مؤامرة، فساكني بيتي القرطاجنّي الجدد، هم من أقرب المقربين منكم، يا فخامة الرّئيس، وقد أبرم شقيقي الهادي عقد البيع مع المشتري "محمد نبيل" تحت وطئة التهديد، كما علمت بذلك في ما بعد.
وعند عودتي إلى المواني القرطاجنيّة ، فوجئت بحارس المكان، يخبرني أنّ المرور أصبح محجرا على العموم، وأنّ الحيّ بات مخصّصا لأقارب سيادة الرّئيس، وهويحذرني من العودة إليه مرّة أخرى.
كتبت عشرات المقالات، أرسلتها إلى العديد من الجرائد، لكنّ المشرفين عليها رفضوا نشر مقالي، فاضطررت إلى نشره على الانترنت، حتّى تعلموا ، ما يتعرّض له النّاس من ظلم وقهر .
ولا يخفى عليكم، يا فخامة الرّئيس، أن القانون منحني أوليّة شراء مناب شقيقي "الهادي سعيد"،
لكنّ"محمد نبيل" سارع بإدراجه بالسّجل العقاري، دون علمي، ففوّت عليّ آجال إبطال ذلك البيع واسترجاع بيتي، ولم أحصل إلّا على مبلغ هزيل، لن يكفني لشراء أبخس المساكن الشعبيّة .
واعلموا يا فخامة الرّئيس، أنّي ابن قرطاج، لا شيء يثنيني عن عزمي، مهما كلّفني الأمر، ولن ينعم بالعيش من افتكّ منّي بيت أبي وجدّي و شرّدني، لذلك أذكركم بفاتحة هذه الرسالة : أنّي ولدت على حافة المواني الحربيّة لقرطاج العظيمة، على ضفاف تلك البحيرة الهادئة والمتخفّية وراء ضوضاء المدينة، الحاضرة في الذاكرة، ومن ولد في ذلك المكان وعاش فيه وحفظ تاريخه ،جيلا بعد جيل، لن يهدأ له بال، قبل أن يسترجعه . أذكركم أيضا ،يا فخامة الرئيس بتاريخ قرطاج الّتي هزمت في حروبها ضد روما فردمت مدنها وغابت معالمها ،إلاّ أنها بعثت من تحت تراب بعد قرون ، ومن ولد بقرطاج واستقرّبها ثم أخرج منها قهرا وجبرا ، لن يموت صامتا أبدا أبدا ............سيتكلّم التّراب عن مأساته حتى بعد رحيله الأخير.
ها قد بلغتكم رسالتي وأرجو منكم الاستماع إلى صرختي المدويّة
والسلام .
الامضاء الحبيب بن المختار بن سعيد .
وجدت نفسي، أقف في صفّ طويل من الرّجال ،أغلقت خلفهم عدّة أبواب ،وأحاط بهم الحرّاس من كلّ جهة وجانب ، اكفهرّت وجوههم وداهمهم اليأس والاعياء، كنت بينهم أنتظر إتمام الاجراءات الاداريّة حتّى يؤذن لي بالدّخول إلى إحدى الغرف والحصول على سرير .
في تلك اللّحظة، خارت قواي، وتلاشى حماسي ،إذ غاب عنّي بيتي القرطاجني وتاريخه العريق، ،ماذا سأفعل وأنا محاصر من كل جهات ؟ قد تركت زوجتي وأبنائي دون عائل ، وفقدت عملي بعد سنين
عديدة قضّيتها في التدريس بالجامعة ،فقد خذلتني الجرأة في طرح هذا السؤال على القاضي: هل كلّ الأخبار التي تنشر هي صحيحة ، لا تشوبها شائبة، يا سيدي الرّئيس ؟ هل يوجد نظام واحد ،في هذا العالم، لا ينشر أخبارا زائفة ؟ وهل كلّ ما يكتب ويذاع ،وكلّ ما أرّخ وكتب ودرّس من معارف و تناقلته الأجيال من صميم الحقيقة الثابتة ؟ فلم قضيت عليّ بهذا الحكم ، إن كنت عادلا ؟ لم أنشر أخبارا زائفة، وما كتبته موثّق بالحجج والبراهين ، إنّها الحقيقة ، فهل تكون جريمتي الجهر بالحقيقة وكشفها للنّاس ؟ فلم لم يثر المحامي هذه المسائل أثناء مرافعته ؟
دخلت غرفة واسعة، رصّفت في كلّ أنحائها، الأسرّة الواحد فوق الآخر، فأشار الحارس إلى سرير صغير ، يقع بأحد أركانها ،قائلا : " ، ستمكث في ذلك الركن ،بعيدا عن المتّهمين بارتكاب جرائم العنف.
- لا أرى لي مكانا في هذه الغرفة المكتظّة بالمساجين ؟
- ربما يفرج عن بعضهم، في الأيّام المقبلة ،فتقرّرالادارة نقلك ، حاليّا ،لا يوجد مكان شاغر.
- لكنّني مظلوم، لم أرتكب أي جرم .
- لا تناقش كثيرا ،فهذا المكان غير معدّ للنقاش، عليك أن تدرك ذلك جيّدا ، وأن تمتثل للآوامر، حتّى لا تعرّض نفسك إلى عقوبات يقتضيها النّظام الداخلي للسّجن، أفهمت ؟ لا داعي للتشكّي، فالحكم أصدرته المحكمة ، لا إدارة السّجون، مفهوم ؟.
انتابتني حالة نفسيّة غريبة ،أعجز عن وصفها، بعد أن انهارت حياتي كقصر من الرّمال غمرته المياه فتهاوى في ظرف وجيز إثرسلسلة من الاحداث المتعاقبة : إيقافي لمدّة أسبوع، ثم محاكمة لم تدم سوى بضعة دقائق ، تلتهما لحظة التصريح بالحكم ، ثم نقلي إلى هذا المكان ، كأنّي أقحمت في دوّامة جعلتني لا أعي ما يحدث من حولي، أتصفّح الوجوه الّتي تحيط بي، دون أن أدرك إن كنت أعيش حلما أم حقيقة ،
حاضر بجسدي غائب بفكري. وبينما ، كنت على تلك الحال، إذ بي أسمع رجلا، يحدّثني بلطف وهو يبتسم : "هل أنت بخير؟
- نعم .
- ما الّذي أتى بك إلى السّجن ؟
- مقال.
- مقال صحفيّ ؟
- كلاّ ،مقال نشرته على الأنترنت.
- اسمي "أنيس"، حكم عليّ بخمس سنوات سجن، من أجل إصدار صك دون رصيد، وأنت ما اسمك ؟
- الحبيب .
-الحبيب ، الحبيب....وما كتب وما قال .
لم أتبيّن مقصده ، بقيت أنظر إليه مندهشا وهو يواصل حديثه قائلا : "هوّن على نفسك" ،"الحبس للرّجال " .فكان لجملته الأخيرة وقع شديد على نفسي، كأنّها صفعة زعزعت كياني فأزاحت عنّي تلك الغيبوبة ، كنت أحاول التماسك ولو قليلا حتّى لا أنهار، أكتم صرخة يسكنني دويّها منذ أمد طويل ، حتّى لا أطلقها فيرتجّ لها المكان، فلم يكن بالهيّن عليّ تحملّ ذلك القهر ، و دوتّ بمسامعي قولة والدي المرحوم سعيد حين قال لي ذات مرّة :" قهر الرجال شبيه بقهر الجبال".لاأدري ، كيف انتشر بعد ذلك ،اسمي الجديد بين الموقوفين، فأصبحت ألقّب "بالحبيب و ما قال"ولا كيف قرّرت إدارة السّجون عزلي وإيوائي بزنزانة ،فوجدت نفسي، في غرفة بها سرير يقابله حائط رمادي اللّون، كئيب، يبلغ من الطول ما يزيد على المترين تقريبا ، أقضّي أيّامي في مناجاته وأنا أواجه السّكون والفراغ ، أعدّ الساعات التي تمرّ ساعة بساعة، أنتظر سماع صريرالمفتاح يليه صوت الحارس كي يخبرني بقدوم زوجتي "رفيقة" لزيارتي.
كنت أراها، مرتين كل الأسبوع ، وراء قضبان الحديد ، شديدة الشّحوب ،حزينة، قد ذبل جمالها الفاتن فلم تبق منه غير آثاره ،قالت لي في إحدى زياراتها : نصحني المحامي أن تتراجع عمّا كتبت بطلب العفو، أن تبعث رسالة اعتذار إلى فخامة الرئيس عن طريق إدارة السجن ،.... فالحكم القاضي بسجنك قاس قاس جدّا....أحاول ما استطعت أن أخفّف آثار الصّدمة على ابنيك ؟
- وكيف حالهما؟ لم لم تأت بهما ؟ هل ثمة من يزوركم ؟
- لا تقلق، إنّهما بخير ، لم تنقطع زيارات والدتي ، أشقائي ، شقيقيك حسن ومنية ، لم آت بهما ، فلن يتحمّل منير رؤيتك وراء قضبان السجن ، وهوصغير السّن كما تعلم ،لم يتجاوز السّادسة من العمر ، أمّا سندة، فهي منهمكة في الاستعداد لاجتياز امتحان الباكالوريا ،أريد أن أجنّبها اضطرابات نفسيّة، قد تؤدّي إلى فشلها في المناظرة، ولا أظنّك ترضى بذلك.
- اشتقت إليهما كثيرا ، أرغب في رؤيتهما ،أوّد أن يدركا أنّي لم أسرق أحدا ولم أعتد على أحد ، حتى لا يصيبهما الخجل ، أما عن مطلب العفو ، فلن أعتذر، ولن أتراجع بعد كلّ ما عانيته ، فالمسألة مسألة كرامة.
- أرجو أن تفكّر فينا ولو قليلا ..... عنادك لن يغيّر شيئا ولن ينفع في شيء ....أطلب منك التحلّي بالحكمة وأرجو أن يعود إليك الصّواب فتتنازل....
- لا، لن أفعل ذلك ، لا تحدّثيني عن الصّواب والحكمة ، دعيني وشأني .
فلم تعد لزيارتي منذ تلك المقابلة .
عدت إلى زنزانتي الضيقة، الخالية من كل أثاث أو ذكرى، ما عدا الحائط المنتصب قبالة سريري، يحجب عنّي نور الشّمس والسّماء والهواء والعالم، ويحرمني من رؤية كل الأقارب والأحبّة.
وقد دفعتني الرّغبة في الصمود، إلى أن أجعل من خيالي ريشة ، و من الحائط لوحة كبيرة ، أرسم عليها خريطة للأماكن المفضّلة عندي، فاحتلّ بيتي القرطاجني الشّمال ، إلى جابنه المقهى الذي كنت أرتاده ، ثم تخيّلت شرقا الجامعة حيث كنت أدرس ،و وزّعت صور عائلتي، فكان موقع صورتي ابني سندة ومنير وسط الخريطة ، قريبا منهما ، رسمت صورة زوجتي رفيقة ، ثم صورتي شقيقي حسن ومنية، بالجهة الجنوبيّة كان موقع رسالة الّتي وجّهتها إلى رئيس الدولة ، تركت أمامها فراغا خصّصته لرسالة الاعتذار.
ومع مرور الأيام، كاد خيالي يتحوّل إلى حقيقة، فقد أصبح الحائط وطني ومرآتي وعالمي ،أحرّكه أحدّثه، أغيّر من مواقعه، وأنا أستعيد حياتي الماضية بحلوها ومرّها ، رائحة القهوة ،حديقة بيتي المطلّة على المواني ، ابتسامة ابني منيرصباحا وأنا أقبّل جبينه ، عطر زوجتي رفيقة عند المساء ، طلبتي ، المحاضرات التي كنت ألقيها ،جلساتي المعتادة مع سندة والنّقاش الطويل الذي كان يجمعنا ، نشوة الافتخار بذكائها وأنا أستمع إليها ، عصبيتي ، خلافاتي مع رفيقة ، توتّري أثناء امتحانات نهاية السنة ، اجتماعات المجالس العلميّة ،أعيش في ذلك العالم الخيالي لأقاوم بشدّة فكرة الاستسلام وطلب عفو من رئيس الدولة تلبية لرغبة زوجتي رفيقة ، كنت أرسم صورتي سندة ومنير ، وأغمض عينيّ، وأنا أردّد داخلي ذلك الاعتذار المهين، فيصعد إلى صدري إحساس دفين بالغضب وأنا أستعيد لحظة مغادرة بيتي القرطاجني حين أجبرتني الشرطة على الخروج منه، دون أن أحمل معي ملابسي الشخصيّة أو حتّى صوري الفتوغرافيّة ، كنت عاجزا عن حماية زوجتي وابني يومها ....... كانوا في حالة من ذعر وذهول لا مثيل لهما ،خرجنا جميعا مطأطئي الرؤوس ، مهزومين ، لا حول لنا ولا قوّة تنفيذا للحكم القاضي بتسليمه إلى مالكه الجديد محمد نبيل............لا لن أكتبها.........لن أكتبها ،حتّى وإن بقيت هنا ،في هذه الغرفة طيلة العمر، لن أستسلم ولن أعتذر ...
بقيت على تلك الحال إلى أن تملّكتني ذات يوم عاصفة من الغضب ، فغادرت سريري فجأة ، وداهمت الحائط ،أسدّد له بكلّ ما أوتيت من قوّة ومن جهد الضّربة تلو الأخرى ، أصيب المساحة التي خصّصتها لكتابة رسالة الاعتذار ، حتى أتخلّص من العذاب الذي بات ينخر داخلي .
تجمّدت أصابعي ،فجلست على ركبتيّ أئنّ من شدّة الألم. وبعد فترة قصيرة، سمعت الباب يفتح، وخطى الحارس تقترب مني وهو يستفسرالأمر:"ماذا حدث؟" ثمّ يجذبني من ذراعي، حتّى يساعدني على النهوض ، قائلا : " لن ينفعك ما فعلته بنفسك ، هيّا انهض كي ترافقني إلى حجرة التمريض لتلّقي العلاج، وبعد ذلك ،سأعود بك إلى غرفتك "
أخذ الممرض يحرّك أصابعي ويقلّب يدي وهو يقول:" لم تصب بكسور ، عليك أن تنتظر مدة أربعة وعشرين ساعة، لنتأكّد حتى نرسلك إلى المستشفى للقيام بالفحوص اللاّزمة" .
تورّمت يدي اليمنى دون أن تصاب بكسور حتّى أصبحت عاجزا عن تحريك أصابعي ، فلم تزدني آلامي إلا تشبثا بموقفي رغم شوقي الدائم لرؤية ابني ولو للحظة عابرة ، ولم أجد من عزاء للوعتي إلاّ الانشغال ليلا نهارا بما سأقوله للقاضي للدّفاع عن نفسي ، بعد أن حدّد موعد محاكمتي ، كنت أستعيد في أوقات عزلتي الكابوس الذي عشته ، منذ أن تلقيت أولّ مكالمة لمحمد نبيل إلى حين دخولي السّجن ،وكان أنيس يسخر منّي كلّما التقينا وهو يصغي إلّي، قائلا : "لا ترهق نفسك، لقد صدرالحكم الاستئنافي في شأنك ،مسبقا، "فجريمتك سياسية"
- وما دخل السّياسة في افتكاك منزلي ؟
- أنصحك أن تتراجع عمّا كتبت ، إن لم تستطع الاعتذار لرئيس الدولة ، فاعتذرللقاضي على الأقل ، إنها فرصتك الأخيرة ، للخروج من السّجن فلا تضيعها.
- إن فوّتت على نفسي تلك فرصة ، سيكون عزائي الوحيد، المثل الشعبيّ الذي ذكرتني به : الحبس للرجال .
- كنت على ثقة من أولّ لقاء جمعنا ، أنّنا سنصبح أصدقاء .
وحين حانت اللّحظة الحاسمة ،وجدتني جالسا على أريكة خشبيّة ، قبالة القاضي ، أنتظر أن ينادي على رقم قضيتي ، وما إن سمعت اسمي، حتى غابت عن ذهني جميع الكلمات التي حفظتها عن ظاهر قلب، جفّ حلقي فارتجلت وأنا أصرخ بصوت عال : والله إني مظلوم، أنا مظلوم يا سيدي الرئيس لم أرتكب أي جرم ، كل ما كتبته هو الحقيقة ، إنّها الحقيقة ، يا جناب الرئيس صدّقني، إنّها الحقيقة .... لكنّه قاطعني قائلا : المحكمة مطّلعة على ملّف القضّية ، لذلك نأمرك بأن تجيب على الأسئلة الموجّهة إليك، دون التطرّق إلى مسائل جانبيّة ، هل نشرت تلك الرسالة ، على صفحة الأنترنت كي يقرأها العموم ؟
- "نعم".
- ما غايتك من ذلك ؟
- والله ، استرجاع بيتي، يا سيدي الرئيس.
- لقد تمّ بيعه بمقتضى حكم صادر من المحكمة، إلاّ أنّك رفضت الامتثال له ؟
- يا سيدي الرئيس ، يا سيدي الرئيس، إنها مؤامرة دبّرت ضدّي من قبل المدعو محمد نبيل .
- لا تذكرمثل هذه الاشاعات، لقد أحال شقيقك منابه في ملكيّة العقار للغير الذي طالب بقسمته ، كفى بلبلة إذا . ثم أشار على المحامي بأن يشرع في المرافعة، فقاطعته وأنا أصرخ بصوت
عال بعد أن نفذ صبري : " لكنني مظلوم، مظلوم ، مظلوم يا سيدي الرئيس ، أنا مظلوم ، لقد دمرّت حياتي ، أخرجت من بيتي بالقوّة العامة وشرّدت عائلتي ، أنا مظلوم " .
- لقد سجّلت المحكمة استنطاقك واستمعت إليك ، إن لم تلتزم الصّمت ، سآذن بإخراجك فورا من قاعة الجلسة.
لم أستمع إلى مرافعة المحامي المكلّف بالدّفاع عني، فقد تشتّت أفكاري وعاودني اليأس والاحباط ، كنت واقفا أمام منصة القاضي، منحني الرأس وقد جمعت يدي خلف ظهري ، منهارا تماما ، وعند انتهاء المرافعة ، فوجئت بالقاضي ينزل بالعقوبة إلى عامين سجنا.
تسعون يوما مرّت منذ دخولي إلى السّجن ، تسعون يوما ، فكم هو عدد الايّام المتبقيّة بعد النزول بالعقوبة الى سنتين ؟ ستمائة وأربعون يوما .... كلاّ ستمائة وتسعة وثلاثون .......وربمّا ستمائة وثمانية وثلاثون يوما ، لا أدري بالضبط ، فلم تكن بحوزتي يوميّة ، تساعدني على معرفة عدد الأيّام المتبقيّة بينما كنت في طريق عودتي الى السّجن ، أعيد احتساب تلك الأيّام يوما بيوم ، أضيف بعض أيام للعدد الجملي ثم أحذفها فتبدو لي المسافة التي تفصلني عن موعد سراحي تارة قصيرة وطورا بعيدة بعد النجوم ، ستمائة ونيف يوم ، هي في الحقيقة ستمائة سنة ، فاليوم الذي أقضيه قبالة حائطي الرمادي منعزلا عن العالم في تلك الغرفة الكئيبة يعادل سنة كاملة خارج السّجن.
كنت أنتظر بفارغ الصبر لقاء أنيس في الأوقات الممنوحة لي بمغادرة زنزانتي، وحين أعلمته بالحكم
الصادر ضدي ، قال لي مبتسما : لا تحزن يا صديقي، ،القاضي فعل ما في وسعه، كان مدركا ماعانيته ، لم يقدرعلى النزول بالحكم إلى أقل من السنتين ، أنت تعلم التهمة الموجهة إليّ ، وسبب دخولي الى السّجن، إصدار جريدة مستقلّة و عجزي عن تسديد مصاريف النّشر و تراكم ديوني و إفلاس الشّركة التي كنت أديرها ، نحن في دولة تديرها " المافيا " التي تتظاهر بتطبيق القانون ، تأكّد من أنّك ستغادر السّجن، بعد بضعة أشهر، سيمنحك فخامة الرّئيس العفو ، لذرّ الغبار على الأعين ، حتى تبدو للنّاس أنّك الظالم والمعتدي ، ألم تتفطّن لقوانين اللّعبة ، بعد كلّ ما حدث لك ؟
- ما تقوله يفوق الخيال ؟ أيمكن للحاكم أن يكون عدوّ شعبه وهو المؤتمن عليه ؟
- لا ، ليس في كلّ الحالات ولا في كلّ المجتمعات ، لكنّ حاكمنا الحالي مستبدّ، لا همّ له إلاّ الاستئثار بالثروة والانفراد بحكم البلاد، إنّه يكمّم جميع الاصوات الحرة، لحماية مصالحه ومصالح المقربين منه والموالين له و حاشيته ، حتّى يضمن بقائه في الحكم أطول مدّة ممكنة...........
- أمازالت السّلطة تعتبر غنيمة ، يستحوذ عليها القويّ ، حتّى يكون له المال والجاه ؟
- للأسف نعم ، ذلك هو وضع بلادنا ، وكلّ ما يكتب وما يقال خلافه ، هوشبيه بكوميديا حزينة وهزيلة. من أنت يا الحبيب، حتّى تسكن قرطاج ، قريبا من المواني البونيّة ومن القصر الرئاسي ؟من تكون ؟ ألم تدرك بعد أنّ هذه البلاد هي ملك حاكمها ؟
- لماذا يعاملوننا على أنّنا عبيد ، رهن إرادتهم وإشارتهم ، ولا يفكّرون في النهوض بهذا البلد ؟
- لا أدري ، ربما لابتلائهم بجنون العظمة.
وما إن عدت إلى زنزانتي، حتى تلاشت جميع الصور التي رسمتها على حائطي ، وتبخّرت رويدا رويدا كالسّحب العابرة: بيتي القرطاجني ، المقهي ، الكليّة ، الأصدقاء ، زوجتي ، شقيقي ، وآخرهم ابني ،
انسحبت مع مرور الأيام ، الصورة تلو الأخرى ، حتّى غابت عنّي بما تحمله من ذكريات وأفراح وأحزان : ليالي قرطاج الصيفيّة ونسائم سيدي بوسعيد ، صبحيات المواني البونيّة و براءة منير، جمال
رفيقة ورقتها ودلال سندة الأغاني التي أحبّها ، رائحة الفلّ والياسمين كتبي التي لم أنجزها وطعم القهوة والجلوس إلى الأصدقاء ، تبدّدت كلّها فلم يعد لها أيّ وجود لا في ذاكرتي ولا في مخيّلتي.
حينئذ تحوّل الحائط إلى سبّورة سوداء فارغة ، خالية من كلّ رسم ، فانطفأت شموع عالمي الصغير وبتّ لا أنتظر حاضرا ولا مستقبلا بعد أن توقّف الزّمن ،لا تحرّك وجداني إلّا رغبة واحدة غريبة عجيبة : أن ألعب الشطرنج، هوايتي المفضّلة منذ نعومة أظفاري ، وقد باتت ملاذي الوحيد ، لأقاوم الفراغ الرّهيب المخيّم على غرفتي وأنا أصارع حينا الانحدار إلى مزالق الجنون وأحيانا أخرى الرّغبة في الانتحار، كنت أقضّي ساعات طويلة من الوقت في التفكير والتركيز ، وأنا أزحزح البيادق فوق تلك الرّقعة المرسومة على حائطي ، و أتقدّم بجيوشي نحو الملك حتّى أحاصره فأحقّق الانتصار المرتقب ومع كلّ معركة ، كنت أردّد تلك الجملة السحريّة : "كش مات، كش مات ، كش مات ، كش مات ، كش مات ،كش مات ،كش مات." كش مات، كرّ وفرّ وتراجع .. فالحرب خدعة ليست قوّة عتاد ولا سلاح ............ الفرس تتقدّم بثبات تحتلّ الوسط تحاصر البيادق السوداء ثم تزيحها ، الملك الأسود محاصر من جميع الجهات ، فالتّاريخ يعود و المجد يعود وما افتكّ منّي يعود ، المواني الحربيّة لقرطاجنّة تتحولّ إلى رقعة شطرنج أمتلكها كليّا وأنا أسير لا أرى الشّمس ولا استنشق الهواء ، كش مات ، كش مات ، والانتصار بعد كلّ معركة محقق ، حتى بلغني ذات يوم خبراندلاع الثّورة التونسيّة وهروب رئيس الدولة من البلاد، فغادرت السّجن ، دون أن أسترجع أبدا بيتي القرطاجني .
مازلت أتذكّرلحظة ارتكاب" الجريمة "،عندما نشرت على الانترنت هذه الرّسالة الموجّهة إلى فخامة رئيس الدولة ،أطلب منه رفع هذه المظلمة ، جاء فيها ما يلي :
إلى فخامة رئيس الدولة :
إنّني الممضي أسفله الحبيب بن المختار بن سعيد، ولدت بقرطاج البيرصا، قريبا من تلك البحيرة الصّغيرة، المنفصلة عن البحر والمنعزلة عن المدينة، والمعروفة تاريخيّا باسم "المواني البونيّة"،كانت منذ ما يزيد عن ألفي سنة، ميناء السّفن الحربيّة لقرطاج ، ولدت إذا ،تحت تلك السّماء، الّتي ما انفكّت تعيد عليّ سرد أسطورة "قرت حدشت" أو المدينة الجديدة، التي أسّستها الملكة "ديدون" وتسمّى أيضا "عليسة" ،القادمة من مدينة صور، الواقعة ببلاد الشام.
وقد حدّثني والدي، أنّ البيت الّذي نشأت فيه، -غال و ثمين ، يقدّر كلّ شبر منه بالذّهب الخالص ، فقد فوّت جدّي "سعيد" في محلّه المعدّ لبيع الذّهب ، الواقع في سوق "البركة"، في المدينة العتيقة، ،لشرائه. ثم وهبه جدّي لوالدي قبل وفاته ، على أن لا يفوّت فيه أبدا، بعد أن وزّع ما تبقّى من ثروته على أبنائه .
ثمّ توفّي والدي، فأوصاني بحفظ الأمانة ،فاشتريت مناب شقيقي حسن ومنية سعيد في البيت، وأصبحت أملكه بالاشتراك مع شقيقي الهادي مدّة عشرين سنة ،دون أن ينازعني في ملكيّته ، وفاء لتلك الوصيّة .
وذات يوم، اتّصل بي شخص مجهول، لا أعرفه، أخبرني، أنّه يدعى "محمد نبيل" وعرض عليّ في مكالمة هاتفيّة مقتضبة، بيع البيت، فرفضت، وبعد مدّة قصيرة اتّصل بي مرّة أخرى، ليعلمني ،أنّي إن لم أبعه طوعا سأرغم على بيعه قسرا ، لم أعر آنذاك لكلامه أهميّة ، واعتبرته من قبيل اللّغو.
حتّى فوجئت بدعوى مرفوعة ضدّي من طرف "محمد نبيل"، جاء فيها، أنّه أصبح شريكا معي في ملكيّة بيتي بعد أن اشترى مناب شقيقي الهادي ، طالبا من المحكمة الحكم بقسمته .
وبيع منزلي بالمزاد العلني لعدم قابليته للقسمة ،واشتراه "محمد نبيل" كما توعّد، وأخرجني أعوان الأمن منه بالقوّة العّامة بعد أن أودع ثمنه الزّهيد بخزينة الدولة، فآواني شقيقي حسن سعيد، لمدّة قصيرة ثمّ انتقلت إلى بيت تسوّغته ،و كم كانت صدمتي كبيرة حين أدركت أن ما دبّر ضدّي كان مؤامرة، فساكني بيتي القرطاجنّي الجدد، هم من أقرب المقربين منكم، يا فخامة الرّئيس، وقد أبرم شقيقي الهادي عقد البيع مع المشتري "محمد نبيل" تحت وطئة التهديد، كما علمت بذلك في ما بعد.
وعند عودتي إلى المواني القرطاجنيّة ، فوجئت بحارس المكان، يخبرني أنّ المرور أصبح محجرا على العموم، وأنّ الحيّ بات مخصّصا لأقارب سيادة الرّئيس، وهويحذرني من العودة إليه مرّة أخرى.
كتبت عشرات المقالات، أرسلتها إلى العديد من الجرائد، لكنّ المشرفين عليها رفضوا نشر مقالي، فاضطررت إلى نشره على الانترنت، حتّى تعلموا ، ما يتعرّض له النّاس من ظلم وقهر .
ولا يخفى عليكم، يا فخامة الرّئيس، أن القانون منحني أوليّة شراء مناب شقيقي "الهادي سعيد"،
لكنّ"محمد نبيل" سارع بإدراجه بالسّجل العقاري، دون علمي، ففوّت عليّ آجال إبطال ذلك البيع واسترجاع بيتي، ولم أحصل إلّا على مبلغ هزيل، لن يكفني لشراء أبخس المساكن الشعبيّة .
واعلموا يا فخامة الرّئيس، أنّي ابن قرطاج، لا شيء يثنيني عن عزمي، مهما كلّفني الأمر، ولن ينعم بالعيش من افتكّ منّي بيت أبي وجدّي و شرّدني، لذلك أذكركم بفاتحة هذه الرسالة : أنّي ولدت على حافة المواني الحربيّة لقرطاج العظيمة، على ضفاف تلك البحيرة الهادئة والمتخفّية وراء ضوضاء المدينة، الحاضرة في الذاكرة، ومن ولد في ذلك المكان وعاش فيه وحفظ تاريخه ،جيلا بعد جيل، لن يهدأ له بال، قبل أن يسترجعه . أذكركم أيضا ،يا فخامة الرئيس بتاريخ قرطاج الّتي هزمت في حروبها ضد روما فردمت مدنها وغابت معالمها ،إلاّ أنها بعثت من تحت تراب بعد قرون ، ومن ولد بقرطاج واستقرّبها ثم أخرج منها قهرا وجبرا ، لن يموت صامتا أبدا أبدا ............سيتكلّم التّراب عن مأساته حتى بعد رحيله الأخير.
ها قد بلغتكم رسالتي وأرجو منكم الاستماع إلى صرختي المدويّة
والسلام .
الامضاء الحبيب بن المختار بن سعيد .
وجدت نفسي، أقف في صفّ طويل من الرّجال ،أغلقت خلفهم عدّة أبواب ،وأحاط بهم الحرّاس من كلّ جهة وجانب ، اكفهرّت وجوههم وداهمهم اليأس والاعياء، كنت بينهم أنتظر إتمام الاجراءات الاداريّة حتّى يؤذن لي بالدّخول إلى إحدى الغرف والحصول على سرير .
في تلك اللّحظة، خارت قواي، وتلاشى حماسي ،إذ غاب عنّي بيتي القرطاجني وتاريخه العريق، ،ماذا سأفعل وأنا محاصر من كل جهات ؟ قد تركت زوجتي وأبنائي دون عائل ، وفقدت عملي بعد سنين
عديدة قضّيتها في التدريس بالجامعة ،فقد خذلتني الجرأة في طرح هذا السؤال على القاضي: هل كلّ الأخبار التي تنشر هي صحيحة ، لا تشوبها شائبة، يا سيدي الرّئيس ؟ هل يوجد نظام واحد ،في هذا العالم، لا ينشر أخبارا زائفة ؟ وهل كلّ ما يكتب ويذاع ،وكلّ ما أرّخ وكتب ودرّس من معارف و تناقلته الأجيال من صميم الحقيقة الثابتة ؟ فلم قضيت عليّ بهذا الحكم ، إن كنت عادلا ؟ لم أنشر أخبارا زائفة، وما كتبته موثّق بالحجج والبراهين ، إنّها الحقيقة ، فهل تكون جريمتي الجهر بالحقيقة وكشفها للنّاس ؟ فلم لم يثر المحامي هذه المسائل أثناء مرافعته ؟
دخلت غرفة واسعة، رصّفت في كلّ أنحائها، الأسرّة الواحد فوق الآخر، فأشار الحارس إلى سرير صغير ، يقع بأحد أركانها ،قائلا : " ، ستمكث في ذلك الركن ،بعيدا عن المتّهمين بارتكاب جرائم العنف.
- لا أرى لي مكانا في هذه الغرفة المكتظّة بالمساجين ؟
- ربما يفرج عن بعضهم، في الأيّام المقبلة ،فتقرّرالادارة نقلك ، حاليّا ،لا يوجد مكان شاغر.
- لكنّني مظلوم، لم أرتكب أي جرم .
- لا تناقش كثيرا ،فهذا المكان غير معدّ للنقاش، عليك أن تدرك ذلك جيّدا ، وأن تمتثل للآوامر، حتّى لا تعرّض نفسك إلى عقوبات يقتضيها النّظام الداخلي للسّجن، أفهمت ؟ لا داعي للتشكّي، فالحكم أصدرته المحكمة ، لا إدارة السّجون، مفهوم ؟.
انتابتني حالة نفسيّة غريبة ،أعجز عن وصفها، بعد أن انهارت حياتي كقصر من الرّمال غمرته المياه فتهاوى في ظرف وجيز إثرسلسلة من الاحداث المتعاقبة : إيقافي لمدّة أسبوع، ثم محاكمة لم تدم سوى بضعة دقائق ، تلتهما لحظة التصريح بالحكم ، ثم نقلي إلى هذا المكان ، كأنّي أقحمت في دوّامة جعلتني لا أعي ما يحدث من حولي، أتصفّح الوجوه الّتي تحيط بي، دون أن أدرك إن كنت أعيش حلما أم حقيقة ،
حاضر بجسدي غائب بفكري. وبينما ، كنت على تلك الحال، إذ بي أسمع رجلا، يحدّثني بلطف وهو يبتسم : "هل أنت بخير؟
- نعم .
- ما الّذي أتى بك إلى السّجن ؟
- مقال.
- مقال صحفيّ ؟
- كلاّ ،مقال نشرته على الأنترنت.
- اسمي "أنيس"، حكم عليّ بخمس سنوات سجن، من أجل إصدار صك دون رصيد، وأنت ما اسمك ؟
- الحبيب .
-الحبيب ، الحبيب....وما كتب وما قال .
لم أتبيّن مقصده ، بقيت أنظر إليه مندهشا وهو يواصل حديثه قائلا : "هوّن على نفسك" ،"الحبس للرّجال " .فكان لجملته الأخيرة وقع شديد على نفسي، كأنّها صفعة زعزعت كياني فأزاحت عنّي تلك الغيبوبة ، كنت أحاول التماسك ولو قليلا حتّى لا أنهار، أكتم صرخة يسكنني دويّها منذ أمد طويل ، حتّى لا أطلقها فيرتجّ لها المكان، فلم يكن بالهيّن عليّ تحملّ ذلك القهر ، و دوتّ بمسامعي قولة والدي المرحوم سعيد حين قال لي ذات مرّة :" قهر الرجال شبيه بقهر الجبال".لاأدري ، كيف انتشر بعد ذلك ،اسمي الجديد بين الموقوفين، فأصبحت ألقّب "بالحبيب و ما قال"ولا كيف قرّرت إدارة السّجون عزلي وإيوائي بزنزانة ،فوجدت نفسي، في غرفة بها سرير يقابله حائط رمادي اللّون، كئيب، يبلغ من الطول ما يزيد على المترين تقريبا ، أقضّي أيّامي في مناجاته وأنا أواجه السّكون والفراغ ، أعدّ الساعات التي تمرّ ساعة بساعة، أنتظر سماع صريرالمفتاح يليه صوت الحارس كي يخبرني بقدوم زوجتي "رفيقة" لزيارتي.
كنت أراها، مرتين كل الأسبوع ، وراء قضبان الحديد ، شديدة الشّحوب ،حزينة، قد ذبل جمالها الفاتن فلم تبق منه غير آثاره ،قالت لي في إحدى زياراتها : نصحني المحامي أن تتراجع عمّا كتبت بطلب العفو، أن تبعث رسالة اعتذار إلى فخامة الرئيس عن طريق إدارة السجن ،.... فالحكم القاضي بسجنك قاس قاس جدّا....أحاول ما استطعت أن أخفّف آثار الصّدمة على ابنيك ؟
- وكيف حالهما؟ لم لم تأت بهما ؟ هل ثمة من يزوركم ؟
- لا تقلق، إنّهما بخير ، لم تنقطع زيارات والدتي ، أشقائي ، شقيقيك حسن ومنية ، لم آت بهما ، فلن يتحمّل منير رؤيتك وراء قضبان السجن ، وهوصغير السّن كما تعلم ،لم يتجاوز السّادسة من العمر ، أمّا سندة، فهي منهمكة في الاستعداد لاجتياز امتحان الباكالوريا ،أريد أن أجنّبها اضطرابات نفسيّة، قد تؤدّي إلى فشلها في المناظرة، ولا أظنّك ترضى بذلك.
- اشتقت إليهما كثيرا ، أرغب في رؤيتهما ،أوّد أن يدركا أنّي لم أسرق أحدا ولم أعتد على أحد ، حتى لا يصيبهما الخجل ، أما عن مطلب العفو ، فلن أعتذر، ولن أتراجع بعد كلّ ما عانيته ، فالمسألة مسألة كرامة.
- أرجو أن تفكّر فينا ولو قليلا ..... عنادك لن يغيّر شيئا ولن ينفع في شيء ....أطلب منك التحلّي بالحكمة وأرجو أن يعود إليك الصّواب فتتنازل....
- لا، لن أفعل ذلك ، لا تحدّثيني عن الصّواب والحكمة ، دعيني وشأني .
فلم تعد لزيارتي منذ تلك المقابلة .
عدت إلى زنزانتي الضيقة، الخالية من كل أثاث أو ذكرى، ما عدا الحائط المنتصب قبالة سريري، يحجب عنّي نور الشّمس والسّماء والهواء والعالم، ويحرمني من رؤية كل الأقارب والأحبّة.
وقد دفعتني الرّغبة في الصمود، إلى أن أجعل من خيالي ريشة ، و من الحائط لوحة كبيرة ، أرسم عليها خريطة للأماكن المفضّلة عندي، فاحتلّ بيتي القرطاجني الشّمال ، إلى جابنه المقهى الذي كنت أرتاده ، ثم تخيّلت شرقا الجامعة حيث كنت أدرس ،و وزّعت صور عائلتي، فكان موقع صورتي ابني سندة ومنير وسط الخريطة ، قريبا منهما ، رسمت صورة زوجتي رفيقة ، ثم صورتي شقيقي حسن ومنية، بالجهة الجنوبيّة كان موقع رسالة الّتي وجّهتها إلى رئيس الدولة ، تركت أمامها فراغا خصّصته لرسالة الاعتذار.
ومع مرور الأيام، كاد خيالي يتحوّل إلى حقيقة، فقد أصبح الحائط وطني ومرآتي وعالمي ،أحرّكه أحدّثه، أغيّر من مواقعه، وأنا أستعيد حياتي الماضية بحلوها ومرّها ، رائحة القهوة ،حديقة بيتي المطلّة على المواني ، ابتسامة ابني منيرصباحا وأنا أقبّل جبينه ، عطر زوجتي رفيقة عند المساء ، طلبتي ، المحاضرات التي كنت ألقيها ،جلساتي المعتادة مع سندة والنّقاش الطويل الذي كان يجمعنا ، نشوة الافتخار بذكائها وأنا أستمع إليها ، عصبيتي ، خلافاتي مع رفيقة ، توتّري أثناء امتحانات نهاية السنة ، اجتماعات المجالس العلميّة ،أعيش في ذلك العالم الخيالي لأقاوم بشدّة فكرة الاستسلام وطلب عفو من رئيس الدولة تلبية لرغبة زوجتي رفيقة ، كنت أرسم صورتي سندة ومنير ، وأغمض عينيّ، وأنا أردّد داخلي ذلك الاعتذار المهين، فيصعد إلى صدري إحساس دفين بالغضب وأنا أستعيد لحظة مغادرة بيتي القرطاجني حين أجبرتني الشرطة على الخروج منه، دون أن أحمل معي ملابسي الشخصيّة أو حتّى صوري الفتوغرافيّة ، كنت عاجزا عن حماية زوجتي وابني يومها ....... كانوا في حالة من ذعر وذهول لا مثيل لهما ،خرجنا جميعا مطأطئي الرؤوس ، مهزومين ، لا حول لنا ولا قوّة تنفيذا للحكم القاضي بتسليمه إلى مالكه الجديد محمد نبيل............لا لن أكتبها.........لن أكتبها ،حتّى وإن بقيت هنا ،في هذه الغرفة طيلة العمر، لن أستسلم ولن أعتذر ...
بقيت على تلك الحال إلى أن تملّكتني ذات يوم عاصفة من الغضب ، فغادرت سريري فجأة ، وداهمت الحائط ،أسدّد له بكلّ ما أوتيت من قوّة ومن جهد الضّربة تلو الأخرى ، أصيب المساحة التي خصّصتها لكتابة رسالة الاعتذار ، حتى أتخلّص من العذاب الذي بات ينخر داخلي .
تجمّدت أصابعي ،فجلست على ركبتيّ أئنّ من شدّة الألم. وبعد فترة قصيرة، سمعت الباب يفتح، وخطى الحارس تقترب مني وهو يستفسرالأمر:"ماذا حدث؟" ثمّ يجذبني من ذراعي، حتّى يساعدني على النهوض ، قائلا : " لن ينفعك ما فعلته بنفسك ، هيّا انهض كي ترافقني إلى حجرة التمريض لتلّقي العلاج، وبعد ذلك ،سأعود بك إلى غرفتك "
أخذ الممرض يحرّك أصابعي ويقلّب يدي وهو يقول:" لم تصب بكسور ، عليك أن تنتظر مدة أربعة وعشرين ساعة، لنتأكّد حتى نرسلك إلى المستشفى للقيام بالفحوص اللاّزمة" .
تورّمت يدي اليمنى دون أن تصاب بكسور حتّى أصبحت عاجزا عن تحريك أصابعي ، فلم تزدني آلامي إلا تشبثا بموقفي رغم شوقي الدائم لرؤية ابني ولو للحظة عابرة ، ولم أجد من عزاء للوعتي إلاّ الانشغال ليلا نهارا بما سأقوله للقاضي للدّفاع عن نفسي ، بعد أن حدّد موعد محاكمتي ، كنت أستعيد في أوقات عزلتي الكابوس الذي عشته ، منذ أن تلقيت أولّ مكالمة لمحمد نبيل إلى حين دخولي السّجن ،وكان أنيس يسخر منّي كلّما التقينا وهو يصغي إلّي، قائلا : "لا ترهق نفسك، لقد صدرالحكم الاستئنافي في شأنك ،مسبقا، "فجريمتك سياسية"
- وما دخل السّياسة في افتكاك منزلي ؟
- أنصحك أن تتراجع عمّا كتبت ، إن لم تستطع الاعتذار لرئيس الدولة ، فاعتذرللقاضي على الأقل ، إنها فرصتك الأخيرة ، للخروج من السّجن فلا تضيعها.
- إن فوّتت على نفسي تلك فرصة ، سيكون عزائي الوحيد، المثل الشعبيّ الذي ذكرتني به : الحبس للرجال .
- كنت على ثقة من أولّ لقاء جمعنا ، أنّنا سنصبح أصدقاء .
وحين حانت اللّحظة الحاسمة ،وجدتني جالسا على أريكة خشبيّة ، قبالة القاضي ، أنتظر أن ينادي على رقم قضيتي ، وما إن سمعت اسمي، حتى غابت عن ذهني جميع الكلمات التي حفظتها عن ظاهر قلب، جفّ حلقي فارتجلت وأنا أصرخ بصوت عال : والله إني مظلوم، أنا مظلوم يا سيدي الرئيس لم أرتكب أي جرم ، كل ما كتبته هو الحقيقة ، إنّها الحقيقة ، يا جناب الرئيس صدّقني، إنّها الحقيقة .... لكنّه قاطعني قائلا : المحكمة مطّلعة على ملّف القضّية ، لذلك نأمرك بأن تجيب على الأسئلة الموجّهة إليك، دون التطرّق إلى مسائل جانبيّة ، هل نشرت تلك الرسالة ، على صفحة الأنترنت كي يقرأها العموم ؟
- "نعم".
- ما غايتك من ذلك ؟
- والله ، استرجاع بيتي، يا سيدي الرئيس.
- لقد تمّ بيعه بمقتضى حكم صادر من المحكمة، إلاّ أنّك رفضت الامتثال له ؟
- يا سيدي الرئيس ، يا سيدي الرئيس، إنها مؤامرة دبّرت ضدّي من قبل المدعو محمد نبيل .
- لا تذكرمثل هذه الاشاعات، لقد أحال شقيقك منابه في ملكيّة العقار للغير الذي طالب بقسمته ، كفى بلبلة إذا . ثم أشار على المحامي بأن يشرع في المرافعة، فقاطعته وأنا أصرخ بصوت
عال بعد أن نفذ صبري : " لكنني مظلوم، مظلوم ، مظلوم يا سيدي الرئيس ، أنا مظلوم ، لقد دمرّت حياتي ، أخرجت من بيتي بالقوّة العامة وشرّدت عائلتي ، أنا مظلوم " .
- لقد سجّلت المحكمة استنطاقك واستمعت إليك ، إن لم تلتزم الصّمت ، سآذن بإخراجك فورا من قاعة الجلسة.
لم أستمع إلى مرافعة المحامي المكلّف بالدّفاع عني، فقد تشتّت أفكاري وعاودني اليأس والاحباط ، كنت واقفا أمام منصة القاضي، منحني الرأس وقد جمعت يدي خلف ظهري ، منهارا تماما ، وعند انتهاء المرافعة ، فوجئت بالقاضي ينزل بالعقوبة إلى عامين سجنا.
تسعون يوما مرّت منذ دخولي إلى السّجن ، تسعون يوما ، فكم هو عدد الايّام المتبقيّة بعد النزول بالعقوبة الى سنتين ؟ ستمائة وأربعون يوما .... كلاّ ستمائة وتسعة وثلاثون .......وربمّا ستمائة وثمانية وثلاثون يوما ، لا أدري بالضبط ، فلم تكن بحوزتي يوميّة ، تساعدني على معرفة عدد الأيّام المتبقيّة بينما كنت في طريق عودتي الى السّجن ، أعيد احتساب تلك الأيّام يوما بيوم ، أضيف بعض أيام للعدد الجملي ثم أحذفها فتبدو لي المسافة التي تفصلني عن موعد سراحي تارة قصيرة وطورا بعيدة بعد النجوم ، ستمائة ونيف يوم ، هي في الحقيقة ستمائة سنة ، فاليوم الذي أقضيه قبالة حائطي الرمادي منعزلا عن العالم في تلك الغرفة الكئيبة يعادل سنة كاملة خارج السّجن.
كنت أنتظر بفارغ الصبر لقاء أنيس في الأوقات الممنوحة لي بمغادرة زنزانتي، وحين أعلمته بالحكم
الصادر ضدي ، قال لي مبتسما : لا تحزن يا صديقي، ،القاضي فعل ما في وسعه، كان مدركا ماعانيته ، لم يقدرعلى النزول بالحكم إلى أقل من السنتين ، أنت تعلم التهمة الموجهة إليّ ، وسبب دخولي الى السّجن، إصدار جريدة مستقلّة و عجزي عن تسديد مصاريف النّشر و تراكم ديوني و إفلاس الشّركة التي كنت أديرها ، نحن في دولة تديرها " المافيا " التي تتظاهر بتطبيق القانون ، تأكّد من أنّك ستغادر السّجن، بعد بضعة أشهر، سيمنحك فخامة الرّئيس العفو ، لذرّ الغبار على الأعين ، حتى تبدو للنّاس أنّك الظالم والمعتدي ، ألم تتفطّن لقوانين اللّعبة ، بعد كلّ ما حدث لك ؟
- ما تقوله يفوق الخيال ؟ أيمكن للحاكم أن يكون عدوّ شعبه وهو المؤتمن عليه ؟
- لا ، ليس في كلّ الحالات ولا في كلّ المجتمعات ، لكنّ حاكمنا الحالي مستبدّ، لا همّ له إلاّ الاستئثار بالثروة والانفراد بحكم البلاد، إنّه يكمّم جميع الاصوات الحرة، لحماية مصالحه ومصالح المقربين منه والموالين له و حاشيته ، حتّى يضمن بقائه في الحكم أطول مدّة ممكنة...........
- أمازالت السّلطة تعتبر غنيمة ، يستحوذ عليها القويّ ، حتّى يكون له المال والجاه ؟
- للأسف نعم ، ذلك هو وضع بلادنا ، وكلّ ما يكتب وما يقال خلافه ، هوشبيه بكوميديا حزينة وهزيلة. من أنت يا الحبيب، حتّى تسكن قرطاج ، قريبا من المواني البونيّة ومن القصر الرئاسي ؟من تكون ؟ ألم تدرك بعد أنّ هذه البلاد هي ملك حاكمها ؟
- لماذا يعاملوننا على أنّنا عبيد ، رهن إرادتهم وإشارتهم ، ولا يفكّرون في النهوض بهذا البلد ؟
- لا أدري ، ربما لابتلائهم بجنون العظمة.
وما إن عدت إلى زنزانتي، حتى تلاشت جميع الصور التي رسمتها على حائطي ، وتبخّرت رويدا رويدا كالسّحب العابرة: بيتي القرطاجني ، المقهي ، الكليّة ، الأصدقاء ، زوجتي ، شقيقي ، وآخرهم ابني ،
انسحبت مع مرور الأيام ، الصورة تلو الأخرى ، حتّى غابت عنّي بما تحمله من ذكريات وأفراح وأحزان : ليالي قرطاج الصيفيّة ونسائم سيدي بوسعيد ، صبحيات المواني البونيّة و براءة منير، جمال
رفيقة ورقتها ودلال سندة الأغاني التي أحبّها ، رائحة الفلّ والياسمين كتبي التي لم أنجزها وطعم القهوة والجلوس إلى الأصدقاء ، تبدّدت كلّها فلم يعد لها أيّ وجود لا في ذاكرتي ولا في مخيّلتي.
حينئذ تحوّل الحائط إلى سبّورة سوداء فارغة ، خالية من كلّ رسم ، فانطفأت شموع عالمي الصغير وبتّ لا أنتظر حاضرا ولا مستقبلا بعد أن توقّف الزّمن ،لا تحرّك وجداني إلّا رغبة واحدة غريبة عجيبة : أن ألعب الشطرنج، هوايتي المفضّلة منذ نعومة أظفاري ، وقد باتت ملاذي الوحيد ، لأقاوم الفراغ الرّهيب المخيّم على غرفتي وأنا أصارع حينا الانحدار إلى مزالق الجنون وأحيانا أخرى الرّغبة في الانتحار، كنت أقضّي ساعات طويلة من الوقت في التفكير والتركيز ، وأنا أزحزح البيادق فوق تلك الرّقعة المرسومة على حائطي ، و أتقدّم بجيوشي نحو الملك حتّى أحاصره فأحقّق الانتصار المرتقب ومع كلّ معركة ، كنت أردّد تلك الجملة السحريّة : "كش مات، كش مات ، كش مات ، كش مات ، كش مات ،كش مات ،كش مات." كش مات، كرّ وفرّ وتراجع .. فالحرب خدعة ليست قوّة عتاد ولا سلاح ............ الفرس تتقدّم بثبات تحتلّ الوسط تحاصر البيادق السوداء ثم تزيحها ، الملك الأسود محاصر من جميع الجهات ، فالتّاريخ يعود و المجد يعود وما افتكّ منّي يعود ، المواني الحربيّة لقرطاجنّة تتحولّ إلى رقعة شطرنج أمتلكها كليّا وأنا أسير لا أرى الشّمس ولا استنشق الهواء ، كش مات ، كش مات ، والانتصار بعد كلّ معركة محقق ، حتى بلغني ذات يوم خبراندلاع الثّورة التونسيّة وهروب رئيس الدولة من البلاد، فغادرت السّجن ، دون أن أسترجع أبدا بيتي القرطاجني .