د. هدى النعيمي - الشرنقة...

كثيراً ما كان أبي يردد: إذا أردت أن تعيش سعيداً، فكر كما يفكر الآخرون من حولك. شببت ونموت وكبرت وأنا أعيش أسيرة لتلك المقولة. رأيت الجميع مولعين بحديث الغيبة والنميمة، فتصيدت أخبار الأقارب والجيران وزميلات الدراسة، أبثها وأنشرها في محيط الأسرة وعند زيارة الخالات والعمات. أحرفها وأضيف إليها الكثير من التوابل والبهارات، فأنا طاهية جيدة، أتقن كل فنون المطبخ ومشهود لي بابتكار وجبات لا يتميز فيها سواي. الحدث العادي البسيط، أنبش فيه، أخلق له ماضياً وتاريخاً، أكسوه بتفصيلات لامعة براقة، أخلق له مواطن للإثارة والتشويق، أكنفه بالغموض، ألمح الدهشة والترقب في عيون الأخريات وهن يولينني آذانهن المصغية، يستحثونني على الإفاضة، أتمنع، يزداد تلهفهن، أتمنع، يزداد رجاؤهن، أتمنع، يفقدن صبرهن. تتلاقى عيونهن على تصميم أعرفه جيداً. ينتشرن في نصف دائرة من حولي، وقبل أن يبدأن في انقضاضهن عليَّ ابتسم في مكر وأقول: سأبدأ الحكاية.. يتراجعن. فأقول: بشروط. يهمهمن. أولاً: تتطوع إحداكن لتصفيف شعري، يوافقن. ثانياً: أريد أن أروي ظمأي. تسرع إحداهن إلى الثلاجة وتفتح زجاجة مياه غازية وتقدمها إليَّ في انحناءة مسرحية. وقبل أن تصل الزجاجة إلى فمي، يصرخن في صوت واحد: هيه... فأسرع متحاشية نفاد صبرهن وأقول: الحكاية بدأت منذ شهر تقريباً وبالتحديد في عيد ميلاد منى..

* * * في الحفلات الخاصة، أعراس الزفاف، وأعياد الميلاد، واحتفاليات الفوز بالنجاح في الشهادات المتوسطة والعليا.. كنت أرقب الرفيقات وهن يتباهين بما يرتدين من فساتين وحلي ومجوهرات.. كن يتفاخرن بالماركات العالمية التي يأتين بها من خلال أسفارهن، أو يبعثن في طلبها خصيصاً لهذه المناسبات، وكان رأسي يدوخ من أسعارها الفلكية.. قررت الاحتفاظ بالعلامات التجارية لبيوتات الأزياء العالمية أضعها على ملابسي التي تطرزها أمي، أستعير بعض المجوهرات من أبناء عمومتي. أبدو نجمة كل احتفال.. أتجاهل في تدلل رغبتهن في معرفة ماركة الفستان ومصدره وسعره.. يهجمن عليّ. يقلبن الياقة ويشاهدن العلامة التجارية، يصرخن: أوه.. كريستيان ديور!.. وتتوالى الأسئلة: متى حصلت عليه.. من أحضره إليك.. هل سافرت خصيصاً من أجله.. تلتمع عيناي بنشوة الظفر العجيبة.. أحس بأنني أصبحت محط أنظار الجميع.

تزداد الدائرة التي تلتف من حولي. أبدأ في نسج القصص واستولي بمهارة على لب الجميع.

* * * لي دراية غير قليلة ببعض القراءات التي لا تستلزم قدراً من التفكير. عبارات مأثورة تتميز بإيقاع راقص وطعم حريف.. أسجلها في مفكرتي.. أستعيدها كل مساء.. أنثرها بميزان معتدل في الجلسات.. لا أنسبها إلى أصحابها، فينبهر الجميع من عمق تفكيري وأصالة ثقافتي.. وألمح في العيون نظرات الإكبار التي لا تخلو من حسد. أنتشي.. أتطاول.. أحس أن بإمكاني الرقص فوق الماء دون أن تبتل قدماي.

* * * كثيرا ما انتزعتني نداءات أمي من أجمل لحظات أحلام يقظتي.. كنت أدمن هذه الأحلام.. في اللحظات التي أخلو فيها إلى نفسي.. يبدأ على الفور الذهن في الشرود.. يشف العالم من حولي حتى لا يكاد يبين.. أسبح في عوالم جديدة كل ما أطلبه فيها مجاب.. تتفتح أمامي كل الأبواب المغلقة.. أعبر بحاراً ومحيطات، أسكن قصوراً وضياعاً، أركب سيارات فارهة يتطاير فيها شعري وهي تنطلق في ذرى الجبال والمرتفعات. أحس بضوء فلاشات التصوير وهي تتبعني في كل مكان.. صوري تحتل أغلفة الصحف والمجلات.. والأحاديث واللقاءات وآلاف المعجبين يطمعون في توقيعي على الأوتوجرافات. لقطات لي وأنا أداعب قطاً أليفاً أو امسح دمعة طفل محروم أو أقص شريطاً لمشروع خيري وانساني. أسمع صراخ أمي: لقد احترق الطعام، ماذا كنت تراك تفعلين؟ يا خيبة أملي فيك.

* * * في وقت متأخر من الليل سمعت أصداء حديث هامس يدور بين أمي وأبي.. حديث ناعم لا غضب فيه. قالت أمي بصوت ينبض بالفرحة: هل سألت عنه؟ ويرد أبي بصوت قاطع لا يخلو من البهجة: وهل يسأل عمن كان في مكانته أو تجارته!.. وفي الصباح كان منزلنا خلية نحل.. انزاحت الستائر فأشرق البيت بالضياء.. أعيد ترتيب وتلميع الأثاث.. فتح دولاب الفضيات وأخرجت أطقم القهوة والشاي، تصاعدت أبخرة الطهي من المطبخ، والإخوة الصغار منحوا اجازة من الذهاب لمدارسهم، والأم بوجهها المتغضن الحنون تزحف نحوي وأنا بعد راقدة في السرير.. هيا استيقظي يا حبة عيني.. فزعت لأن موعد المدرسة قد فاتني، ولكن وجه أمي الذي بدا غاية في البشاشة بدد فزعي. وسمعتها تقول: لا مدرسة بعد اليوم ألا تعتقدين بأنك قد كبرت وأصبحت امرأة.. لقد جاءك العريس.. والليلة موعد زفافك يا عروسة. كان للكلمة وقع جميل. من مخزون أحلام يقظتي استدعيت القصر واليخت والفارس النبيل. ومن عجب أنني صرخت من الفرح: وداعاً للطفولة والدراسة والتعليم.

* * * لم أخف عن الجميع زيجات زوجي السابقة، ولا عدد أطفاله العديدين، كنت أتباهى بالمنزل الجميل وبالعطور. لم أعد في حاجة للاحتفاظ في درج مكتبي بعلامات الفساتين التجارية. كان دولاب ملابسي يكتظ بموديلات حقيقية من كل ركن في العالم. وكلما زارتني صديقة أو قريبة ولاحظت غياب زوجي قلت: إنه دائم الأسفار، لعله الآن في مدينة بعيدة مغروسة في الضباب أو على خط الاستواء. كنت أتجرع المهانة ولا أصرح بأنه هناك بين أولاده أو لعله يداعب إحدى زوجاته.. كنت أتصنع الفرح وأقول: سفر جديد يعني هدايا جديدة، ملابس ومجوهرات وعطورا.. وكن يحسدنني وهن يقلِّبن ما تحويه علبة المجوهرات الكبيرة ويقلن: كنت متميزة ومحظوظة. وأقول وأنا أداري وخز السكين: كنت، وما زلت فموتوا بغيظكم.

* * * سألتني ابنة عمتي القريبة إلى قلبي دوماً: اصدقيني القول: هل تحبين زوجك؟ سؤال كطعنة خنجر. ولكنني أجبت: أكون كاذبة لو قلت لك إنني لا أحبه. أنا في الحقيقة لم أعرف يوماً معنى الحب. وما زلت إلى اليوم أجهل هذا الشعور. هل أنا أحبه، هل أكرهه، ما هو الحب، لا أعرف.. صدقيني لا أعرف.

* * * تمر عليَّ الأيام والليالي ثقيلة بطيئة.. الستائر مسدلة والضوء شفيف. سئمت حديث التليفون، برامج التلفزيون، أشرطة الفيديو.. أنتظر الذي يأتي ولا يأتي.. أيام تمر، وشهور تتوالى. وعمر ينقضي. أغوص في كرسي الفوتيل ذي المساند العالية، تحوطني باقات عديدة من الزهور الصناعية، ومن جهاز التسجيل يتردد آي من الذكر الحكيم.. فجأة تبرق في الرؤيا سهول ومروج، أعبرها مسرعة فإذا بها تنتهي بمساحة لا نهائية من مياه زرقاء كأنها بحر أو محيط، أتأمل طيور النورس وهي ترتفع محلقة، ثم تهبط مسرعة وكأنها تغوص في المياه. اتنهد، أغمض عيني، وأدخل من جديد.. شرنقتي.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى