هدى بوحمام - رمضان في المهجر.. ذكرى وتحديات

حل رمضان الذي لا يخذل الوعد أبدا، مخلص العهد ودائم الوصل. عمت نسائمه المرسلة من الله وساد عبقه في بقاع العالم. يختلف الاستقبال والترحيب به باختلاف المكان والعادات، ولكن المراد منه يوحدنا؛ كلنا نطمع في ترميم الروح وتطهيرها من شوائب السَنة بالتقرب من الخالق والتسليم إليه.

وتنهال علينا النعم في هذا الشهر الكريم خاصة نعمة الاستشعار والخشوع، نتلذذ طعم السكينة والهدوء النفسي بقلب مفتوح وروح خصبة ونحس بحب الله لنا ولطفه بنا، نعيد شريط السَنة الفارطة ونقف عند المواقف التي دبرها لنا الله بعلمه وأخرجنا منها ناجين، فنحمده كثيرا بقلب خالص. نتذكر الذنوب والمعاصي، فنستغفره ونطلب منه العفو. نخر له ساجدين ونسأله الاستجابة لدعائنا والتيسير في أمورنا.

ومن بين النعم المستهان بها والتي تظهر أكثر في رمضان نعمة الجماعة والعيش في بلد مسلم، بلد يتجهز فيه الكبير والصغير لحلول الشهر الفضيل، شعبا وحكومة. ربما لا يصوم كل الناس ولكنهم كلهم يعلمون أن رمضان هنا دون أن يحتاجوا للبحث عن هذه المعلومة لأنها بارزة في جميع النواحي، في الهدوء الذي يكون في الصباح الباكر وفي الارتجاج الذي يحدث مع قرب الإفطار وتزمير السيارات وفي ازدحام محلات الخبز والحلويات وتسامر الليل.. إن في هذه النعمة قوة ليس لها مثيل، قوة لا يعرف قيمتها إلا من يفتقدها في ديار المهجر.

والمغترب لا يملك قوة العيش مع الجماعة؛ ليس هناك سوق عريض مزين بالفوانيس يعرض ما طاب من البضائع الخاصة بهذا الشهر ويضج بالناس المتحمسة لاقتناء ملابس جديدة لصلاة التراويح ومقادير الحلويات وأطباق رمضان المعتادة، ليس هناك مسجد بصومعة طويلة وأبواب كبيرة مفتوحة وشوارع يملأ وسعها المصلون من الطرف إلى الطرف. ليس هناك جيران تلفك بالأحضان وتبارك لك حلول هذا الشهر العظيم. لن يدخل عليك أطفالك وهم يهتفون أن المعلمة أخبرتهم أن رمضان قادم وأنهم يرغبون بالصيام مثلما يصوم أصدقاؤهم. لن يفكر أحد في تغيير توقيت عملك لكي تتمكن من الإفطار في بيتك مع عائلتك. لا يحدث شيء من كل هذا في بلاد المهجر.

والمسلم في بلاد المهجر يمشي وحده عكس الجماعة؛ يحارب شعور التشرد والوحدة والبعد عن الأصل والهوية، ويصنع لنفسه دائرة من الانتماء ويزينها بالألوان والأضواء كي يفرح قلبه ويتذكر حماس الطفولة. يحضر الأجواء اللازمة لشهر رمضان بنفسه ولنفسه؛ فليس هناك سوق مزين ولا مسجد كبير ولا جيران يحضنون ويباركون. ويعير الاهتمام لأدق التفاصيل وأصغرها؛ مثل أن يكون إبريق الشاي ملائما للأكواب والصينية، وتكون المبخرة بجانب مكان الصلاة كما في بيت الجدة، ويكون جهاز التلفاز مفتوحا على قناة مكة وكأن مئذنة الإمام بجانب البيت. يحرص على إبقاء عادات سرية مثل صب زيت الزيتون فوق طبق الأكل كما كان يفعل أمامه والده أيام الزمن الجميل. يعيش المغترب هكذا على لملمة التفاصيل وجمعها بعناية كي يعيش جو رمضان الذي نشأ فيه. يرتدي ملابسه التقليدية ويذهب إلى المسجد كل ليلة بعد الإفطار ويسلم على المسلمين جميعا كأنهم العائلة والجيران والأصدقاء الذين يفتقدهم.

ويختلف الوضع إذا كان لدى المغتربين أطفال، ويزداد الشعور بالمسؤولية والخوف. الكبار يعلمون جيدا من أين أتوا وما هي أصولهم ولديهم النضج الكافي لاستيعاب الازدواجية في العيش التي يفرضها بلد المهجر. ولكن الأطفال لا يملكون هذا النوع من النضج؛ مازالت بنيتهم النفسية هشة وفي طور تكونها، مما يتطلب جهدا أكبر من الآباء في توفير جو رمضاني سلس ولافت ومقنع. يجب أن يشرح الآباء لأطفالهم لماذا نصوم 29-30 يوما ونصلي التراويح بلغة تناسب مستوى تفكيرهم، بأنشطة تتناسب مع اهتماماتهم وتجذب فضولهم. ثم يزن الطفل كل هذه المعطيات في رأسه كي يواجه زملاءه وأصدقاءه خارج البيت، الذين لا يعرفون شيئا عن رمضان وعاداته، ويشرح لهم اختلافه عنهم ببساطة يفهمونها كي لا يضايقوه، وليتعايشوا معه في سلام.

ويبدأ الآباء في التجهيزات الرمضانية بهمة، وتجدهم يبحثون في المواقع الإلكترونية عن أنشطة تساعدهم على إيجاد جو رمضاني ممتع للأطفال في البيت، وجوائز تحفيزية لمن صام اليوم كله وحفظ سور من القرآن وصلى الصلاة في وقتها. يختارون الزينة والأضواء بعناية ويرتبون ركن الصلاة كي يصلوا جماعة، ويكثرون من شراء الكتب التربوية محاولين بكل جهدهم أن يقوموا بما يقوم به السوق والمسجد والمدرسة والجيران والشارع في البلدان المسلمة. يأخذونهم إلى المساجد وتجمعات المسلمين كي ينموا شعور الانتماء فيهم. يتعبون كثيرا كي ينشأ أطفالهم في نفس الأجواء التي نشؤوا فيها وكي يتربوا على خلق الدين ومبادئه. يفعلون كل هذا ويدعون الله أن يعينهم على الصلاح والتربية الحسنة.

إن المسلمين أينما حل عليهم رمضان يستقبلونه بقلوب فرحة ومشتاقة ويغرسون ذلك في قلوب أطفالهم، ويحاربون من أجل ثبات هذا الحب وتقويته كي لا يضمحل بين كثرة الفتن. يتوارثون التشبث بالدين والتمسك بالقيم والعادات جيلا بعد جيل مهما كان التيار معاكسا؛ يبدعون في إيجاد الأجواء الخاصة بهم ويتفننون في إظهار التفاصيل والحفاظ عليها من الزوال والتلاشي.

إن هذا المقال بمثابة تحية احترام وتقدير ووقفة امتنان وشكر لكل المغتربين المحاربين والمجاهدين من أجل العيش بالجلد الأولي، والحرص على تربية جيل مؤسس على قيمنا ومبادئنا الحسنة رغم كل مصاعب الغربة وعقباتها. كانت سيدة طيبة الروح تقول لي دائما إن أجر المغتربين مضاعف، لم أبحث في صحة قولها ولكنني أؤمن جدا بذلك.



هدى بوحمام
مدونة مغربية

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى