د. محمد الهادي الطاهري - ثلاثة أسابيع في حمّام ملاّق

وصلنا إلى حمام ملاق في الفاتح من شهر أوت سنة 1992. كنّا ثلاثة، أنا والخالة حفصيّة رحمها الله وزوجها عمّي المختار الديمقراطي رحمه الله. أمّا هو فقفل راجعا في السيارة التي أقلّتنا إلى هناك بعد أن جلس بضعة دقائق قضّاها في إملاء الكثير من النصائح والتوصيات، وأمّا أنا فقد كنت متطوّعا لمرافقة الخالة حفصيّة مدّة بقائها في هذه المحطّة الاستشفائيّة. كانت المسكينة تعاني منذ سنوات طويلة آلاما حادّة في المفاصل جعلتها تزور كلّ الأطبّاء تقريبا دون أن تظفر بعلاج يبرئ سُقمها. كان الحمّام غرب مدينة الكاف على مسافة ثلاثين كيلومتر من قريتنا تقريبا . لم أزره من قبل ولكنّي سمعت عنه حكايات كثيرة أغلب أبطالها رجال ونساء مصابون بشتّى الأمراض المزمنة جاؤوه من مسافات بعيدة وهم على شفير الموت وغادروه سالمين غانمين. حكايات قصّها عليّ الكثير من كبار قريتنا مذ علموا بتطوّعي لمرافقة الخالة حفصيّة إلى هناك، ومنهم من روى لي حكايات أخرى عن بعض سكّان هذا الحمّام من غير الإنس، مثل الجنّيات اللاتي يظهرن كلّ ليلة بعد غياب القمر في صور شتّى وينزلن في أحواض السباحة. ومنهم من حذّرني من دخول حوض السباحة في ذلك الوقت من الليل كي لا تصيبني جنّية بأذى، ومنهم من كان ينهي حديثه بضحكات غريبة أفهم منها أنّه يحرّضني على دخول حمّام السباحة في تلك الأوقات الممنوعة لعلّ الله يفتح لي فتحا عظيما. لم يكن الحمّام حين دخلته أوّل مرّة شيئا ذا بال. حوضان اثنان للسباحة لا يتّسعان لأكثر من أربعة أشخاص، يتدفق فيهما ماء معدنيّ حار من فوهتين صغيرتين محفورتين في الجبل، وبين الحوضين ستار خفيف من القصب يجدّده القيّمون على الحمّام مرّة كلّ سنة كما قالت لي السيدة منّانة المشرفة على إدارة هذا المنتجع. وحول الحوضين بضعة غرف صغيرة بنيت حديثا ممّا تناثر من المعلم الأثري القديم من أحجار ضخمة. وكان الوافدون إلى الحمّام يأتون بخيامهم فيصنعون منها بيوتا لهم يأوون إليها. أمّا نحن فلا أدري لِمَ جئنا إلى هنا دون أن نصحب معنا خيمة، لذلك كان علينا أن نستأجر من السيدة منّانة غرفة من تلك الغرف. كانت لغرفتنا نافذة صغيرة تطلّ على نهر ملاّق ومن خلف النهر تتراءى للناظر منها غابة صنوبر حلبيّ ممتدّة، ولم يكن للنافذة شبّاك لا من زجاج ولا من خشب ولا من حديد، كانت كما تقول الخالة حفصيّة مجرّد "طاقة" أي مجرّد كوّة في الجدار. قالت لي السيدة منّانة لابدّ أن تترك هذه النافذة مفتوحة ليلا نهارا، وإيّاك أن تسدّها بشيء. ولمّا سألتها عن سبب ذلك قالت ستتلقّى منها في ساعات القيلولة نسمات لطيفة تصدر من الغابة وتمرّ على النهر فتتشبّع برطوبة الماء لتصلك نديّة منعشة، فإذا جاء الليل يأتيك منها ضوء القمر الممزوج بظلال الأشجار المرتعشة، فإذا غاب القمر تتدفّق من النافدة الصغيرة ظلمة شديدة سرعان ما تقودك إلى النوم. هممت بسؤالها عن أشياء كثيرة ولكنّها تركتني وهي تقول بنبرة حازمة: لا تنس ذلك. تركتني الخالة حفصيّة أنظر إلى تلك النافذة وسارعت إلى حوض السباحة. تخيّلت أشياء كثيرة تصلني عبر النافذة غير النسمات اللطيفة وضوء القمر والظلمة الشديدة ولكنّ شيئا من ذلك لم يصلني طيلة الأسبوع الأول من الأسابيع الثلاثة التي قضّيتها هنالك. وحين أطلّ الأسبوع الثاني، ورأيت الخالة حفصيّة تتماثل إلى الشفاء شيئا فشيئا قلت في نفسي لعلّ هذه النافذة المفتوحة أبدا لا ترسل شيئا سوى ما ذكرت منّانة لأنّها مفتوحة أبدا، وخطرت لي فكرة سدّها بعد غياب القمر بقطعة من قماش. وجاء الليل وظللت أنتظر غياب القمر ثم قمت إلى النافذة وسددتها وظللت أنتظر. مرت ساعة أو بضع ساعة وإذا بصوت خفيف من وراء النافذة، كان الصوت ضعيفا متقطّعا، تخيّلته في البداية حفيف أشجار ثم استبعدت ذلك حين تذكّرت أنّ الجوّ هادئ ولا رياح فيه تحرّك الأشجار، ثمّ تخيّلته حشرجة وقلت في نفسي لعلّ أحدهم يموت الآن خلف النافذة فاقشعرّ جلدي وكدت أرفع صوتي مستغيثا لولا أنّي خشيت إزعاج الخالة حفصيّة وهي تغطّ في نومها. نظرت إليها في تلك الظلمة الشديدة فلم أتبيّن شيئا سوى شخيرها المتقطّع. الله يهديك يا خالة. كدت أموت من الخوف. وظلّ الأمر يتكرّر بحذافيره كلّ ليلة، وكنت في كلّ ليلة أتخيّل الصور نفسها على الترتيب نفسه وأنهي تخيّلاتي بالجملة نفسها إلى أن جاء الأسبوع الثالث فتبدّل كلّ شيء. تنام الخالة حفصيّة كعادتها بعد صلاة العشاء بقليل وأظل أنا أقرأ شيئا ممّا كان معي من الكتب على ضوء شمعة، فإذا غاب ضوء القمر وحلّت الظلمة وغلبني النعاس أقوم إلى تلك النافذة فأسدّها بقطعة القماش التي جعلتها لها. وما أن أعود إلى فراشي وأستلقي على ظهري مستسلما للنوم حتّى يظهر ذلك الصوت الخفيف المتقطّع فأقول في نفسي إنه شخير الخالة حفصيّة ولكنّ قطعة القماش تسقط من مكانها. أسمع وقوعها على سطح الأرض فأنهض إلى النافذة أتطلّع إلى ما وراءها فلا أجد شيئا فأعيد قطعة القماش إلى مكانها ولكنّها تسقط من جديد. فأظلّ أفكّر لبرهة وإذا بيد تمتدّ إليّ من النافذة فتلامس وجهي، إنّي أتحسّس أصابعها الطويلة الرقيقة وهي تداعبني بلطف أوّلا ثم بشيء من العنف ثانيا ثم بعنف شديد ثالثا فإذا هممت بالصياح أحسست بتلك اليد تبتعد عنّي فأقول في نفسي: هذه اليد الغريبة تأبى غلق النافذة وتأبى أن أستغيث إذا اشتدّت عليّ. فلمن تكون يا ترى؟ أهي يد إحدى الجنّيات تمتدّ إليّ؟ ولكنّ الجنّيات حسب ما حدّثوني به لا يأتين على هذا النحو. وظلّ الأمر يتكرّر كل ليلة، حتّى أنّي صرت أنتظر تلك الساعة البعيدة من الليل على أحرّ من الجمر. وجاءت الليلة الأخيرة من مدّة إقامتنا بتلك الغرفة وأنا لم أدرك سرّ النافذة فأصابني شعور غريب بالخيبة ودعوت الله في سرّي أن يكشف لي سرّها ولكنّ الله لم يستجب لدعائي. فلمّا طلع النهار وجمعنا أمتعتنا استعدادا للرحيل جاءت السيّدة منّانة لتوديعنا ومعها نساء أخريات لا أعرفهنّ ولكنّ الخالة حفصيّة تعرفهنّ، وعلمت من حديثهن إليّ أنّ الخالة حفصيّة حدّثتهن عنّي طويلا، وأنّ واحدة من بنات السيّدة منّانة تطوّعت بتدبير منهنّ جميعا لتلعب معي لعبة الجنّية ولكنّها لم تنجح. قالت: ما أكبر قلبك يا رجل، تعني ما أقساك يا رجل. لم أكن في الحقيقة قاسي القلب، فقد كنت في غاية الخوف ولكن شيئا من الحياء منعني من التعبير عنه وشيئا آخر من التلهّف إلى عالم الجنّيات ألزمني بالصمت والاستمرار في اللعبة.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى