عماد أبو زيد - شارع الرحمة..

النهار يتسلل حزينًا إلى مخدعه، و ضؤوه ينزوي خافتًا شاحبًا. وثيابي تصطبغ بإصفراره. آذان المغرب يتعالى من ميكروفونات المآذن، وصوت امرأة مكلومة يصافح أذني، وأنا أسير في شارع الرحمة. يقترب الصوت المتوجع مني، لاهثًا بالدعوات:
- ربنا ينتقم منك يابعيد، تعدم عيالك ياظالم.
كانت امرأة مسنة، لم أقترب منها، ولم أشأ أن أتطلع إلى وجهها، فماذا عساي أن أفعل إذا انعطفت عليها، وحدثتها؟، كان الشارع خاليًا من الناس إلا قليلًا. منذ أيام قليلة مضت، وفي شارع آخر، كان ثمة رجل طاعن في السن يعلو صوته بالدعاء، عيناه تزوغ يمينًا ويسارًا، كأنما يبحث عن واحد بين المارة، يجتذب معه أطراف الحديث. كانت ملابسه غير مهندمة أيضًا، ويجر ساقيه بصعوبة. جاوزت خطاي المرأة، لم ألتفتُ إليها، ليس تكبرًا، بل كنت متألمًا لحالها، مُشفقًا عليها؛ إذ مررت ببعض المحن، ودنا اليأس مني، وقد توجعت كثيرًا، وكان عناء النفس يشتد علي في وحدتي، فيشتعل رأسي بالنار، ويسخن وجهي. لا أحد بيده شيء يقدمه لي، وربما لا أحد يشعر بي، وإذا تحدثت لصديق أو راكب بجواري في القطار أو الباص، لايتفهمني جيدًا، أنا الذي أحمل جراحًا كبيرة لم تندمل بعد، أنا الذي توالت عليَّ المحن، واشتدت الابتلاءات بي، أنا الذي تخضب رأسي بالبياض، وقد أبيضت عيناي من الحزن، أنا الذي استطعت تجاوز جدران اليأس، يدمى قلبي لآهات العابرين، أخشى النظر إلى وجوههم، أعلم إنهم حين يتألمون، يكونوا صادقين. غارقين هم في قاع أحزانهم، فتبدو المدن لهم مقفرة، والشوارع فارغة، البراح لايتسع إلا لصرخاتهم، كيف بالله عليَّ وأنا أعلم كل ذلك أن أطرق أبوابهم؟، أن أمزق ستائر سوءاتهم. كثيرًا ما تمنى المرء أن تنشق الأرض وتبتلعه، وهو غارق في حزنه. هذه المرأة ربما لم تجد من يحنو عليها، وهي في مثل هذه السن المتقدمة، استدعيت من ذاكرتي امرأة تدعو الله على أخيها الذي حرمها من ميراث أبيها، وتلك المرأة التي تعرضت لأذى وعنف شديد من زوجها، وفرت إلى الشارع هاربة، وهي تصرخ وتنتحب، وأم سندس كانت تحسر "الإيشارب" عن رأسها عند سماع الآذان، وترفع أكفها إلى السماء. كنت أتأملها من نافذة شقتنا؛ أذكر أن أمي أرسلتني إليها عند آذان الظهر، أشتري منها طماطم وخضراوات، فسألتها:
- أنتِ بتدعي على مين؟
فقالت هجرني أنا والعيال، ومشي من غير سبب.
الأستاذ سالم زميلي حكى لي كثيرًا عن سيدات وأرامل يدعون له بالخير، ويقبلون رأسه حين ينهي إجراءات صرف مستحقاتهن في المعاش بيسر وسهولة. من الممكن أن تكون تلك المرأة التي مرت إلى جانبي في شارع الرحمة عند آذان المغرب، لها مظلمة عند مكتب المعاشات أو مكتب التموين.
طاف برأسي رجل طاعن في السن، يرتدي قميصًا وبنطالًا فقط رغم زمهرير الشتاء، والأمطار تواصل هطولها، وتعوق حركة السير. كان الرجل يقف شامخًا، متمتعًا بنفس أبية، يرفض الإنحناء لغدر الزمان، وعلى وجهه ابتسامة عريضة، يعرض خدماته على شابة أنيقة المظهر، تجر بيدها حقيبة كبيرة بعجلات على الأرض. كانت الأمطار بللت رأس الرجل ووجهه وملابسه، وهو يتحدث بأدب جم إلى السيدة، وقد بدا في أمس الحاجة إلى المساعدة. تم تداول مقطع الفيديو لهذا الرجل العراقي عقب الاحتلال الأمريكي الإنجليزي للعراق. في اليوم التالي ضربت بخطاي في شارع الرحمة، عند آذان المغرب، كانت أصوات مكلومين كثر تصافح أُذني.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى