د. سيد شعبان - الليالي الألف... الليلة الأولى!

الليلة الأولى!

حين انتصف الليل صعدت إلى سطح منزلنا الحجري، ذلك الكائن وسط الصحراء تحفه هضاب وتحوطه كثبان رملية، ثمة هاتف دعاني إلى ذلك الصعود، تخفيت عن عيون زوجتي فقد اعتادت منذ فترة أن تغلق باب البيت الكبير بالمزلاج، تخشى علي من هؤلاء الذين يطوفون بالليل والناس نيام، مرة تربط قدمي في حجر، أخرى تطعمني حب العزيز، لا أدري ما الذي جعلها نسيت إحكامه، على أية حال سرح بي في النوم ذلك الطارق، أريت طائرا عملاقا يقارب حجم الناقة التي تربض في حظيرة عم المكاوي، رجل مبارك يعمل جمالا، يحمل القمح ويختزن الحكايات نتقوت بها ليالي الشتاء الطويلة!
سرق الوالي شمس النهار؛ لذا بتنا في ليل طويل ظلمته أشد سوادا من قرن الخروب كما كانت الطيبة تردد على مسامعي حين لاتجد في الوعاء تمرا أو تحلب العنزة لبنا؛ ربما عدا فأر الخزانة على أشيائنا.
لمع النجم الكبير وسط السماء، توكلت على الله ومن ثم امتطيت ذلك الطائر الذي يشبه الناقة، تحسست مقعدي فإذا بجواري غراب ويمامة وسلحفاء وبومة، بيضة كبيرة تكاد تزن خمسة أرطال من ذهب، مؤكد أنني مكلف بمهمة خطيرة، أسمع صوتا ينطلق من البومة العجوز:
لاتلتفت يمينا ولايسارا، إذا فعلت ذلك ستخرج فتاة حمراء في يديها سنبلات من قمح إن نثرتها طارت السلحفاة بعيدا، سيلتهم الغراب الماكر اليمامة!
هبطت بنا الناقة ذات الأجنحة السبعة فوق قصر السلام، عرفت ذلك حين عبرنا نهرا يشبه النيل، قالت البومة الحكيمة إننا في بلاد هارون الرشيد، رقص الغراب طربا، تثاءبت السلحفاة العجوز، حانت مني إلتفاتة عجلى، لا أدري أكانت جهة اليمين أم اليسار، سمعت خربشة في الخرج فإذا شعر طويل فاحم يتماوج كماء البحر، انشقت البيضة الكبيرة عن فتاة ترتدي ثوبا من حرير، تتدلى من جيدها سلسلة مرصعة بالياقوت والزمرد والمرجان!
صاحت البومة العجوز غاضبة:
سيقطع هارون الرشيد رقابنا، لقد خرجت ابنة ملكة الجن الأحمر قبل الأوان!
توعد من ينظرها بألف سوط وسوط وبعد يحبس في قرارة جب.
تغلق عليه الأبواب وينفى من البلاد، تهمته أنه من آل برمك!
أصاب الغراب الخوف وتملكه وسواس الموت؛ يتهمني بأنني ارتكبت جناية لاتغتفر!
اقتربت اليمامة من أذني همست قائلة:
انثر حبات الزمرد والياقوت والمرجان على رأس الفتاة الجنية!
حين ذاك؛ ابتمست تلك الأميرة، أمسكت بيدي؛ هرولت بي حتى وصلنا إلى مخدع الخيزران ذات الملك والجمال، تكاد تنسي بلقيس، كيف لا وهي عقيلة بني هاشم ومن يتثنى الماء بين يديها، زبيدة تضارعها وولادة تشاكلها!
أخذت البومة الحكيمة ترتجل شعرا، ينادي الرشيد على السياف مأمون:
هات الفتاة ذات السلسلة من الزمرد والياقوت والمرجان إلى بهو القصر الأبيض، تمسك بي أميرة الجن الأحمر؛ أنقلب طائرا ذا لون أبيض!
يتماهى إلى مسمع الرشيد صوت رخيم، يأمر السيف مأمون بأن يدع الجنية الحمراء ليلة أخرى؛ ومن تلك ليال وراء ليال، وأنا أرقص طربا كلما جاء الديك ذو الذيل المحنى!
قالت له:
مولاي سيأتي زمان تكون البيضة بنصف أوقية من ذهب، يكاد الرغيف يلمسه الجوعى، تبتلع الحيتان مياه البحار، لايكاد المارة في الطرقات يبصرون القمر، فقد أمر حاكم ذلك الزمان بأن يسكن هؤلاء السردايب لايختزنون للطعام غير حبات من الفلفل الحار وحفنة من تمر!
سألها الرشيد:
ومتى ذلك يكون؟
-يامولاي حين يخرج من بلاد يأجوج ومأجوج وطواط من وراء السور العظيم يصاب الناس بالذهول، وباء يحظر الاقتراب، بعدها بسنوات ثلاث يكثر الهرج تغلو الأقوات لحرب بين الروس والأوكران!
أتمايل طربا؛ فقد لعبت ابنة ملك الجن الأحمر برأس الرشيد، تمرح السلحفاة العجوز، تلقي البومة قصائد الشعر في بلاط بني عباس، يطير الغراب وراء البومة في شرفات قصر السلام!
ينادي الجوعى:
كسرة خبز يامولانا!
يأمر الخليفة بألف سوط لمن طالب بمزقة لبن ومائة أو تزيد لمن اختزن حبات البازلاء الشهية؛ وحده يطعم المن والسلوى مائدة شهية!
ماذا يفعل الفقراء وقد رفع المسيح إلى السماء!
تردد البومة العجوز: ابنة ملك الجان ذات النهد المدور يشبه حبة الرمان!
تسقي الرشيد ماء الفرات؛ ينتشي طربا؛ غير أن الأقوات في بلاد النهرين شحيحة؛ في الليلة الأولى بعد الألف سيأتي فارس يعبر النهر!

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى