فاتن فاروق عبدالمنعم - أصحاب الأخدود...

أصحاب الأخدود في زماننا ما قتلوا، بل علمونا أبجديات جديدة لمعاني الحرية، لم ينسوا وهم ذوي النفوس الأبية، الكرام أبناء الكرام، أشراف سليلي الأشراف، يوم أن اقتادوهم مقرنين في الأصفاد، مصحوبون بالسب واللعن، بعربية مثقلة بعجمتهم، أولئك مجهولوا الأصل والنسب سطوا على أرض الناطقين بلسان عربي مبين، الأسرى محاطون بأمارات قوة جلاديهم وسطوتهم، صوت أقدام الجلادين المدججين يبوح أن لا أحد يقدر علينا، الأصفاد تؤلمهم طيلة الوقت، صممت لذلك، هنا في قلعة السجان، ظلمات بعضها فوق بعض، الأسرى ملقون في السجون خارج نطاق كل القوانين الصادرة من المزيفين، لا أحد يلتفت إليهم من تلك الوجوه المصبوغة بأمارات الكذب الصراح، يصيغون مفردات مثل حقوق الإنسان وحق تقرير المصير، وهم أول الكافرين بها، يسلكون مسلك الذين يزاحمون الحيوانات في سكنى الغابات دون خجل.
هنا في هذا المرقد يقبعون سنوات تتلوها سنوات، يسمعون صوت أنفاس بعضهم البعض بل ربما يعرف كل منهم عدد مرات الشهيق والزفير لرفقائه في الدقيقة الواحدة، شعور بالقهر تراكمي، فكيف يدفعون هذا الشعور بمكونه اللزج والذي يلازمهم ولا يغادرهم.
لم يخطر ببالهم انتظار وعود مؤسسات أممية، ولا يؤمنون بها، فقط التطلع إلى السماء، فالمؤمن يكفيه رحيق الإيمان وإن سدت في وجهه كل الأبواب فيكفيه التضرع إلى الله والتفكر في مآلاته والتي بها يبلغ سبل الرشاد.
التغيير يبدأ بحلم، والحلم يلزمه مقومات التحقق على الأرض، وصاحب الحق يرى ثقب الضوء الباهت مهما بعدت المسافة، عدوهم ينعت نفسه دوما "بالذي لا يقهر" نفوسهم المجلوة بالبلاء هدتهم إلى العدو الحقيقي، السامري الأول ذو العين الواحدة الذي صنع هؤلاء على عينه، عجول من ورق الكارتون، لم يعد يصنع عجولا من ذهب وإنما من أردأ الخامات، استخفافا وامتهانا لكل مذعن صاغر، الزنزانة صماء لا يوجد بها شباك يسرب لهم هواء يحمل حبوب لقاح الحرية، محاطون بأطنان من الحديد، الباب موصد دائما يعلوه طاقة تكفي لإدخال طبق الطعام فقط.
السماء لا تمطر ذهبا ولا فضة، والنخلة لن تساقط الرطب الجني دون أن تهزها الأيدي، والطفل الرضيع لن يحصل على اللبن من ثدي أمه دون أن يبذل جهد شفطه، فلماذا ينتظرون من يحررهم؟
استجابوا لأمر الله فأعدوا لهم ما استطاعوا، حتى ولو كانت عدتهم التي ما استطاعوا الحصول على أكثر منها ليست إلا الملعقة، قد يكون الوحي من الله بإلقاء الخاطرة في النفس كما أم موسى، الوحي الذي أمرها بإلقاء ابنها في اليم ليس إلا خاطرة ألقاها الله في نفسها، وقد يكون الوحي الإلهي رؤية منامية كما سيدنا إبراهيم الذي أمره الله بذبح ابنه من خلالها فأذعن وابنه للأمر الإلهي، فأي وحي هداهم إلى "الملعقة"؟
في ذلك المرقد المغلق وهاتيك الظلمات كما هي ظلمات يونس وهو في بطن الحوت، لا يكفون عن التسبيح والدعاء الذي يخترق الظلمات نافذا إلى السماء.
الاختراق دائما يكون من أضعف المناطق، الأرض التي يجوسون فيها مغلفة بطبقة من الأسمنت بسمك نصف متر فكيف يخترقونها وهي الحصينة المنيعة؟! فقط الحمام موضع امتداد المواسير، قام أحدهم يعبث في البلاط بالملعقة على سبيل التجريب لتلتهم ما يأفك السجان، حتى نجح في انتزاع بلاطة في غسق الليل، وهو يحتبس أنفاسه شعر بزهو النجاح في تخطي أولى العقبات، ومع خلعها أصيبت يده بخدوش متناثرة وكأنه الإعداد الإلهي له، يمحص راحة يده لتجف طراوتها ويزداد جلده تيبسا فلا تتألم ويستمر، وهل هناك ما يؤلمهم أكثر من الأسر؟!
ينظر الرفقاء لبعضهم بأفواه فاغرة غير مصدقين، فيتحلقوا معا في دائرة ويشتركون في ذات الفعل كل ليلة، فالليل دثار لهم، كل بملعقته، فتشتعل نفوسهم بالأمل ويستمرون بحذر كاتمي الأنفاس عاقدي الألسن عن أي تعليق، فالفعل يشرح نفسه دون منطق اللسان الذي قد يكون سببا في هلاكهم.
الرتق يتسع والوجوه تتهلل بالأمل الذي يترجمه الفعل والابتسامات المتبادلة، يتسابقون في توسيع الرتق كأن كل منهم يوثق إسمه بأحرف ذهبية في لوحة الشرف والعزة، كأنهم يفسحون الطريق للمارد الصاعد رغم أنف كل المتجبرين والمتغطرسين في تحد سافر للسامري الأول وليس لعجوله فحسب.
أربع بلاطات كافية لأن تكون بقعة الضوء الباهتة التي تقودهم إلى النجاة المنشودة، اشتركت الأيدي والسواعد بحذر شديد بعد أن تيبس جلدهم فلا يألمهم الضغط والدفع الذي يسبب التعرق أحيانا ولكن في كل ليلة يحرزون نصرا غير معلن ليكون لهم دافعا للمزيد، يوزوعون التراب في جيوبهم كي يتخلصوا منه في باحة السجن في غفلة من السجان، النفوس تشتعل بشموع الأمل التي أوقدوها طويلا حد تغير بعض شعرات في رؤوسهم من السواد إلى البياض كأنها النور الذي لاح لهم في الأفق بعد المرور بالترتيب الحرفي لما يمر به المؤمن، ذنوب فابتلاء، فاستغفار وتوبة، وإنابة، وصبر جميل في غير شكوى وعدم استبطاء الفرج ثم النصر المبين.
أعقب نزع البلاط نبش الأرض تباعا مرارا وتكرارا بالملعقة والأظافر والأصابع المتيبسة لتكبر الفرجة يوما بعد يوم حتى أصبحت ممرا آمنا، فالله معهم يسمع ويرى، بالملاعق التي ما استطاعوا أن يعدوا أكثر منها يوسعون الممر ويفسحون لأنفسهم حتى تمام المقاسات التي حددوها من قبل، وكان لزاما عليهم عمل نظام غذائي به يبلغ كل منهم وزنا أقل كي يتمكنوا من المرور من خلال الفرجة، لم يعد يبقى غير اختراق بقعة الأرض التي منها سيصعدون إلى سطحها، وهذه هي الأخطر لأنها مكشوفة لهم، فقال أحدهم ننبش مساحة تكفي لعبورنا ولا نترك سوى الطبقة الرقيقة النهائية وهذه نزيلها عند الخروج، واستكمالا لسيل الدعاء والابتهال إلى الله أخذوا يتلون سورة يس كما النبي الخاتم كي يجعل من بين أيدي المراقبين سدا ومن خلفهم سدا فيغشيهم ولا يبصرون، فاستجاب لهم الذي لا تأخذه سنة ولا نوم فجعل المراقبين تأخذهم سنة من النوم ليصعدوا واحدا تلو الآخر، ويقفزوا السور العالي ليغيروا كل الموازين والحسابات بعد أن صنعوا الأخدود في مؤخرة السامري الذي يرنو بعينه الواحدة صارخا من هول المفاجأة ويبطن التهديد والوعيد لعجوله الذين امتد الأخدود إلى مؤخراتهم ليبولوا فيها قبل أن ينطلقوا فاردين أجنحتهم مخلفين ورائهم العجول الكارتونية يقفون حائرين مدججين بالسلاح يخترق كيانهم الهش شعاع شمس الغروب في إشارة إلهية لقرب أفولهم.
خرجوا خائفين مترقبين، بعدت عليهم الشقة بينهم وبين الأرض التي جاسوا فيها منذ سنوات بعيدة، الوجوه ومعالم الشوارع تغيرت، أبطنوا اغترابا ملح، لا يسيرون وفق خطة مع ذويهم، فضلوا، وشقوا بعد شكوى أعضائهم الألم والجوع، الخطأ يبين العورة كما آدم وحواء، ويبدوا أنهم ارتكبوا جملة من الأخطاء فكان من السهل الوشاية بهم، فوقع منهم اثنان بين أيدي السجان، تلاهما اثنان آخران لم يبق غير اثنان، الأفق يلوح بالعودة إلى نقطة الصفر، العدو الغاشم يعذبهم آناء الليل والنهار، ولكنهم سطروا أسمائهم على لوحة شرف المؤمنين بكل ما هو جميل، عودتهم إلى نقطة الصفر ليست إلا تمحيص إلهي جديد يستوجب التجويد، مزيد من الحفر في نفق الحرية السرمدي، كي لا تذل قدم الجماعة بعد ثبوتها، دروس إلهية عملية يعجز عن قراءتها الذين هم في ضلالاتهم يعمهون، ولكن يقرأ شفرتها كل ذو قلب سليم.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى