في البيت القديم ، في الأحراش، كانت متجمدة على سريرها من الخوف والرعب،
ماذا ؟ هل هي القوارض اللعينة التي تأتي من الحقول المجاورة إلى البيت هي التي تحدث هذه الجلبة وهذا الضجيج ؟
أحست بأنفاسها تتقطع وحرارة تعتري جسدها ورعدة تنتابها وهي ترى واحدة من القوارض تقترب من سريرها ، وقد نبت لها منقار كالسيف لتغرقه في قارورة الماء على الطاولة قربها .
تجمد الدم في عروقها ، وهي تغلق عينيها من الفزع وتنتظر ضربة منقار على مكان ما من جسمها .
تشنجت أعضاؤها أكثر فأكثر وهي تسمع صوتا حادا :
ــ لماذا أتيت إلى هنا ، ستهدمين نظامنا وتخربين ما قمنا ببنائه ؟
وبصوت غاضب، حانق، وحاد كموسى مشحوذ ، صرخت :
ــ ما ذا نفعل بك الآن ؟
حاولت تهدئة أنفاسها التي أصبحت مسموعة من فرط الرعب والخوف ،
وأخذت تحاول أن تفتح عينيها :
ــ لا ، لا ، هذا مجرد حلم وكابوس رهيب ، ( الفئران لا تهدد ولا تصرخ ....) .
يجب أن تتمالك أنفاسها أكثر ، لتستطيع أن ترجع الحياة إلى جسدها الشبه ميت .
وأخيرا ، وبعد مجهود كبير ، فتحت عينيها ،
فقفزت، واقفة على السرير ،
ــ ماذا ؟ ــ إنه لأمر مرعب حقا ،
أحست بالاختناق وتشوش في الرؤية وهي ترى جيشا من القوارض يملأ المكان حولها ،
تسمرت في مكانها وخرج صوتها متحشرجا :
ــ لا تؤذوني ... لا .. لا تفعلوا ... لا تفعلوا ...
ـــ نحن لسنا قوارض يا هذه .
دارت بها الأرض ، سألت بصوت خافت وكأنها تخشى أن يسمعها أحد :
ـــ ماذا ؟ من... من أنتم ؟؟
ــ نحن عفاريت هذا المكان ، ههههه
لقد أقلقت راحتنا وهاجمت حياتنا ...
ـــ عفا ... عفا ... ريت ؟؟ يا إلهي .. يا إلهي ..
لا ... لا أنا لم أتطفل ولم أهاجم لا .... ولم أقلق راحة أحد
كادت تسقط أرضا وهي ترى بعضهم يتقدم نحوها ويقولون :
ــ لا بد أن نأخذها إلى أبينا الحاكم ...
ــ يا رب أعني ... يا ربي ساعدني .. ساعدني ،قالت في نفسها وهي تزدرد ريقها ،
وجدت نفسها وهي محمولة على مناقير كأنها مناقير الجن ،
لم تكن لتصدق ما يحدث لها لولا الوخز الذي تحس به في ظهرها ،
ــ لا تؤذوني.... لا تؤذوني ...أرجوكم ..
أحست بدموعها تصعد حارة إلى عينيها ،
ــ لم أفعل شيئا ، لم أؤذيكم في شيء أبدا .
كانت تعيش كابوسا لم تتخيله قط ،
كانت عيناها إلى السماء ، فلم تعرف إلى أين يأخذونها ، وكلما تململت أو تحركت في محاولة للفرار ، تغرس مناقيرهم في ظهرها أكثر،
كانت تود لو تستطيع أن تصرخ بأعلى صوتها غاضبة :
( ابتعدوا عني أيها المسخ ) ،
لكن صوتها يخونها كلما مرة ، لا يخرج من حنجرتها من هول ما يحدث لها ،
كانت لا تستطيع شيئا إلا ترديد كلمة ( يا إلهي ، يا إلهي ) فقط .
وفجأة أسقطوها على الأرض كالجثة ،
حاولت النهوض لكن المناقير اللئيمة كانت لها بالمرصاد ، سمرتها من كلا الجانبين على الأرض في وضعيتها تلك وهي ملقاة على ظهرها .
صاح صوت فج كالصفير في القوارض ذات المناقير، الممسكين بها :
ـــ أقعدوها ...
أحست بالمناقير تغرز في أضلاعها ورقبتها ، فهبت جالسة وقد تدلي عنقها كالمغمى عليها ،
( إلهي...لا تجعلني أفقد وعيي ... لا تجعلني أفقد وعيي ).
رددت بينها وبين نفسها وهي تحاول أن تتماسك حتى لا يظهر ضعفها الشديد أمام هذا الجمع الغفير من العفاريت أو القوارض ذات المناقير، فهي لم تعد تدري ما نوع المصيبة التي حلت بها .
حركت رأسها بشدة لتبعد عنها أي فرصة للإغماء ،
ونظرت إليه أمامها ،
كان يشبه ساحرا ، متعاظما ،له قرنين كبيرين ، وعينين محمرتين يتطاير منهما الشرر ، ومخالب معقوفة ، تغطي جزءا من الصولجان الذي يمسك به ،
طافت بها نظراته كأتون من الجحيم ،
أحست بنار تشعل جسدها كله ،
حاولت النطق ، لم تتمكن ....
فقط ظل نظرها مصوبا إليه ، لا يزوغ عنه أبدا ،
بدت كالصنم ، يكاد قلبها يتوقف من الرعب ،
اقترب منها ، نظر إليها مليا في ابتسامة صفراء أبرزت أنيابا كبيرة،حادة يشوبها السواد ،
ثم عاد إلى مكانه ليجلس على عرش مزخرف بتواشيح مشتعلة بالنار وأمرها :
ــ قفي..
كيف يمكنها أن تقف وهي تحس بكل شيء يدور حولها ولولا فضولها لخرت مغشيا عليها .
عاد لينظر إليها وهو يلاحظ ترددها ويقول :
ــ أتخافينني ؟
تجلدت كثيرا واستجمعت كل قواها وهي تحرك رأسها يمينا وشمالا دليل النفي .
قهقه كثيرا ، قبل أن يشير بصولجانه تجاهها ،
ـــ إنها أنت ؟ أنت إذا من أبحث عنها في دنياكم هذه ؟؟
تحركت في محاولة لمعرفة ماذا يحدث لها ، وأرادت النظر خولها ، لكنه أشارمرة أخرى بصولجانه نحوها قائلا بصوت كالرعد :
ــــ لا تحاولي ..
( يا إلهي ــ أنقذني ..)
وفي صوت آمر أكمل :
ـــ لو حاولت الهروب مرة أخرى ستصبحين واحدة من هذه ... واضح
صدر منها صوت ضعيف وهي تقول في رجاء:
ــ لا لا أرجوك.. لا تؤذيني ... لا تجعلني واحدة منهن ..
ضحك باستهزاء وقال في تكبر مشوب بالغضب والتهديد :
ـــ إنهن نساء مثلك أيتها السيدة التي لا تخاف ، إنهن عصين أوامري فحولتهن إلى ما هن عليه ..
شعرت وكأن كل حواسها تتخلى عنها وبالكاد سمعته يقول :
( أنا أمير من الجن أتيت إلى دنياكم أبحث عن زوجة لي من الإنس ،وقد وجدتك أخيرا ..)
(فكري في عرضي ، لديك حتى صباح الغد ) .
أشار مرة أخرى إليها بصولجانه ، فإذا هي في غرفة وردية جميلة ، وتلبس منامة وردية زاهية وهنا كسرير كبير موشى بالذهب وعليه ملاءات من الحرير الصافي في ألوان رائعة تخطف الأبصار .
(يا رب ماذا يحدث لي ؟ ماذا يحدث لي ؟؟ ) ( أنقذني يا ربي ولا تتركني)
كانت في الجانب الآخر من الغرفة ،مائدة عليها كل ما لذ وطاب من الأطعمة والفواكه والمشروبات ،
(لا..لا كل هذا خداع ، هذا غير معقول ، هل يلعب لها عقلها الأدوار..) .
جلست تفكر فيما حصل لها ،
يجب أن تتصرف بذكاء ،لكي تتمكن من الخروج من هذا المأزق ، الآن
هي بين يدي أمير من الجن ،
( ماذا أفعل يا إلهي ؟؟ ماذا أفعل ؟ )
وبينما هي على حالها ، في حيرة وترقب شديدين وقد نال منها الخوف والتعب ،
سمعت طرقا على بابها ،
وإذا بإحدى القوارض تدخل غرفتها ،مستفسرة ما إن كانت في حاجة إلى شيء قائلة :
ــ سيدي يريدك ألا تحتاجي لشيء أبدا ،
واقتربت من السرير وتركت ورقة صغيرة تسقط على أرض الغرفة ،وعادت أدراجها كما أتت .
( يا إلهي ، إنها تريد مساعدتي ولاشك ... نعم ، نعم ...)
( لكن لا يجب أن يلاحظ الجني علي أي شيء ، ويجب أن أتصرف بدهاء كبير ، )
تركت الورقة هناك لمدة ، مخافة أن تكون تحت مراقبة الجني .
بعد مرور بعض الوقت ، قامت وتجولت في الغرفة دون أن تثير انتباه أحد إلى شيء ، وأخذت الورقة بخفة ودخلت السرير لتقرأها تحت الأغطية .
كانت الورقة تقول : ( يجب أن تأخذي صولجانه وتشيري به إليه ، فنعود إلى حالتنا الطبيعية ، فأنت منقذتنا ..).
كيف ؟
كيف ستتمكن من أخذ صولجانه ؟
بل كيف تقترب منه حتى ؟
من أين تأتي بالشجاعة والجرأة والقوة لفعل ذلك ، والفزع يأخذ منها كل مأخذ ؟؟
( أه .. أه ... سأتقرب منه رغم أنفي.. سأستجمع كل قوتي ،
يجب أن أضحي لأنقذ كل تلك القوارض ذات المناقير.
لكن كيف؟ كيف؟
غالبها النوم ، رغم رعبها وتفكيرها في وجوب إيجاد حل مناسب لا يضربها .
في الصباح الباكر فتحت عينيها ,قد تجمد الدم في عروقها ،لتذكرها كل ما مر بها من أحداث .
ولعدم إجابتها على السؤال الأهم في كل ذلك وهو كيف ستحصل على صولجانه.
وإذا بطرقات على الباب وجلبة ، وعدة قوارض ذات مناقير تكتسح غرفتها لأخذها إلى الحاكم ،
رفعوها على مناقيرهم كعادتهم ، وذهبوا بها إليه وقد جلس على عرشه الكبير المزخرف باللآليء والجواهر والموشى بالذهب تنبعث منه أضواء وأشعة أعمت عينيها .
وقف وهم يسقطونها كما فعلوا أمس أمامه ، فهبت واقفة بغضب ،
تجاهل ذلك وهو يبتسم ابتسامته اللئيمة تلك وسألها وكأنه يأمرها :
ــ ما قولك ؟
نظرت إليه بإمعان وجرأة وأجابت :
ــ ماذا أقول ؟ ــ أمرك ...لكن لدي شروطا ...
قهقه مستغربا من شجاعتها وقال باستهزاء:
ـــ ما هي؟
قالت وهي تكاد تتلعثم :
ـــ يجب أن أحبك أولا ...لن أتزوج منك دون حب ، والأمر يجب أن يكون متبادلا بيني وبينك ....
تقدم نحوها وقد استشاط غضبا وكادت عيناه الجاحظتين أ ن تخرجا من بؤبؤيهما الصفراوي والشرر يتطاير منهما وصاح :
ــ كيف تشترطين ذلك ؟ أنت مخادعة ولاشك ؟
أجابت وهي تتصنع الدهشة والاستنكار :
ــ لماذا الغضب؟
ألا تريد الزواج بآ دمية ؟؟ هذا شرع الآدميين ــ يمكنك أن تحولني إلى إحدى قوارضك إذا لم تقبله ...
تعجب من فكرتها وشجاعتها وعدم خوفها منه .
فقال وهو يطوف حولها متأملا إياها :
ـــ وكيف ستحبينني وأحبك ؟؟
قالت بصبر وهدوء :
ـــ سأعلمك ذلك وسوف نتزوج لو أحببتني حقا ...
استغرب كلامها كثيرا وبدا على ملامحه التفكير الشديد (فالجن لا يعرفون ما معنى كل ذلك ولا يتعلمون شيئا من أحد أبدا ،).
ساورته الشكوك في مسألة الحب هذه التي تقترحها عليه ،
قال لنفسه بغضب ( لو لم تكن بهذه الجرأة ولا تخاف مني ، لكنت حولتها إلى مثيلاتها على التو .)
ثم بدا عليه الهدوء وهو يقول :
ــ لك ذلك ، سوف أغامر ...
كانت تكاد تموت خوفا من فشل خطتها التي اخترعتها في الحال.
وكاد الرعب أن يطرحها أرضا وهي تطلب منه بهدوء الانسحاب للتزين له على عادة البشر.
راق له ذلك ولم يلاحظ أن قدميها تكادان لا تحملانها .
في ذلك اليوم ، طلبت منه أن يتنزها في حديقة قصره المترامية الأطراف وقد طردت خوفها منه والرعب الذي يكاد يقتلع قلبها من مكانه ، كلما اقترب منها لدرجة أنها ابتسمت له ،
فاقترب منها أكثر، يريد معانقتها ،
كانت ترتعد من الفزع ، لكنها تركته يقوم بذلك بينما وضع صولجانه إلى جانبه على طاولة كانا يقفان عندها في تلك الحديقة ، فما كان منها إلا أن مدت يدها إلى الصولجان وأخذته بخفة ودون أن ينتبه لها الجني الذي كان ينظر إلى وجهها الجميل .
وفي نفس اللحظة التي سحب فيها ذراعيه الكبيرتين اللتين احتوتا جسدها الصغير كله تقريبا، في تلك اللحظة بالذات اندفعت إلى الوراء وهي توجه له الصولجان ،
ورأته يتبخر، لم يبق منه إلا دخان كثيف تصاعد إلى السماء ،
وفي نفس اللحظة ، كانت إلى جانبها امرأة فائقة الجمال تصرخ بها :
ــ ارم بالصولجان .. ارم به إلى الأرض ...
فما كان منها إلا أن ألقت بالصولجان في فزع إلى الأرض ، فاندثر بدوره ولم يبق له أي أثر.
وكم كانت فرحتها كبيرة لما بدأت أفواج من النساء الجميلات اللواتي صب عليهن الجني الساحر لعنته وحولهن إلى قوارض ذات مناقير، تخرجن من القصر إلى الحديقة .
وفجأة ،
غاب القصر والحديقة وكأنهما لم يوجدا من قبل ، بل وجدت تلك النساء أنفسهن في خلاء فارغ تحت شمس محرقة .
توجهن إلى طريق على جانبيه أشجار وأخذن يسرن زرافات وفرادى بينما تراءى لها بيتها القديم في الأحراش المجاورة ، فتوجهت إليه برفقة بعض النساء من بلدان بعيدة أحضرهن الجني من أوطانهن إلى قصره ، في انتظار وسيلة قصد رجوعهن إلى بلدانهن .
قصة: فاطمة البسريني
ماذا ؟ هل هي القوارض اللعينة التي تأتي من الحقول المجاورة إلى البيت هي التي تحدث هذه الجلبة وهذا الضجيج ؟
أحست بأنفاسها تتقطع وحرارة تعتري جسدها ورعدة تنتابها وهي ترى واحدة من القوارض تقترب من سريرها ، وقد نبت لها منقار كالسيف لتغرقه في قارورة الماء على الطاولة قربها .
تجمد الدم في عروقها ، وهي تغلق عينيها من الفزع وتنتظر ضربة منقار على مكان ما من جسمها .
تشنجت أعضاؤها أكثر فأكثر وهي تسمع صوتا حادا :
ــ لماذا أتيت إلى هنا ، ستهدمين نظامنا وتخربين ما قمنا ببنائه ؟
وبصوت غاضب، حانق، وحاد كموسى مشحوذ ، صرخت :
ــ ما ذا نفعل بك الآن ؟
حاولت تهدئة أنفاسها التي أصبحت مسموعة من فرط الرعب والخوف ،
وأخذت تحاول أن تفتح عينيها :
ــ لا ، لا ، هذا مجرد حلم وكابوس رهيب ، ( الفئران لا تهدد ولا تصرخ ....) .
يجب أن تتمالك أنفاسها أكثر ، لتستطيع أن ترجع الحياة إلى جسدها الشبه ميت .
وأخيرا ، وبعد مجهود كبير ، فتحت عينيها ،
فقفزت، واقفة على السرير ،
ــ ماذا ؟ ــ إنه لأمر مرعب حقا ،
أحست بالاختناق وتشوش في الرؤية وهي ترى جيشا من القوارض يملأ المكان حولها ،
تسمرت في مكانها وخرج صوتها متحشرجا :
ــ لا تؤذوني ... لا .. لا تفعلوا ... لا تفعلوا ...
ـــ نحن لسنا قوارض يا هذه .
دارت بها الأرض ، سألت بصوت خافت وكأنها تخشى أن يسمعها أحد :
ـــ ماذا ؟ من... من أنتم ؟؟
ــ نحن عفاريت هذا المكان ، ههههه
لقد أقلقت راحتنا وهاجمت حياتنا ...
ـــ عفا ... عفا ... ريت ؟؟ يا إلهي .. يا إلهي ..
لا ... لا أنا لم أتطفل ولم أهاجم لا .... ولم أقلق راحة أحد
كادت تسقط أرضا وهي ترى بعضهم يتقدم نحوها ويقولون :
ــ لا بد أن نأخذها إلى أبينا الحاكم ...
ــ يا رب أعني ... يا ربي ساعدني .. ساعدني ،قالت في نفسها وهي تزدرد ريقها ،
وجدت نفسها وهي محمولة على مناقير كأنها مناقير الجن ،
لم تكن لتصدق ما يحدث لها لولا الوخز الذي تحس به في ظهرها ،
ــ لا تؤذوني.... لا تؤذوني ...أرجوكم ..
أحست بدموعها تصعد حارة إلى عينيها ،
ــ لم أفعل شيئا ، لم أؤذيكم في شيء أبدا .
كانت تعيش كابوسا لم تتخيله قط ،
كانت عيناها إلى السماء ، فلم تعرف إلى أين يأخذونها ، وكلما تململت أو تحركت في محاولة للفرار ، تغرس مناقيرهم في ظهرها أكثر،
كانت تود لو تستطيع أن تصرخ بأعلى صوتها غاضبة :
( ابتعدوا عني أيها المسخ ) ،
لكن صوتها يخونها كلما مرة ، لا يخرج من حنجرتها من هول ما يحدث لها ،
كانت لا تستطيع شيئا إلا ترديد كلمة ( يا إلهي ، يا إلهي ) فقط .
وفجأة أسقطوها على الأرض كالجثة ،
حاولت النهوض لكن المناقير اللئيمة كانت لها بالمرصاد ، سمرتها من كلا الجانبين على الأرض في وضعيتها تلك وهي ملقاة على ظهرها .
صاح صوت فج كالصفير في القوارض ذات المناقير، الممسكين بها :
ـــ أقعدوها ...
أحست بالمناقير تغرز في أضلاعها ورقبتها ، فهبت جالسة وقد تدلي عنقها كالمغمى عليها ،
( إلهي...لا تجعلني أفقد وعيي ... لا تجعلني أفقد وعيي ).
رددت بينها وبين نفسها وهي تحاول أن تتماسك حتى لا يظهر ضعفها الشديد أمام هذا الجمع الغفير من العفاريت أو القوارض ذات المناقير، فهي لم تعد تدري ما نوع المصيبة التي حلت بها .
حركت رأسها بشدة لتبعد عنها أي فرصة للإغماء ،
ونظرت إليه أمامها ،
كان يشبه ساحرا ، متعاظما ،له قرنين كبيرين ، وعينين محمرتين يتطاير منهما الشرر ، ومخالب معقوفة ، تغطي جزءا من الصولجان الذي يمسك به ،
طافت بها نظراته كأتون من الجحيم ،
أحست بنار تشعل جسدها كله ،
حاولت النطق ، لم تتمكن ....
فقط ظل نظرها مصوبا إليه ، لا يزوغ عنه أبدا ،
بدت كالصنم ، يكاد قلبها يتوقف من الرعب ،
اقترب منها ، نظر إليها مليا في ابتسامة صفراء أبرزت أنيابا كبيرة،حادة يشوبها السواد ،
ثم عاد إلى مكانه ليجلس على عرش مزخرف بتواشيح مشتعلة بالنار وأمرها :
ــ قفي..
كيف يمكنها أن تقف وهي تحس بكل شيء يدور حولها ولولا فضولها لخرت مغشيا عليها .
عاد لينظر إليها وهو يلاحظ ترددها ويقول :
ــ أتخافينني ؟
تجلدت كثيرا واستجمعت كل قواها وهي تحرك رأسها يمينا وشمالا دليل النفي .
قهقه كثيرا ، قبل أن يشير بصولجانه تجاهها ،
ـــ إنها أنت ؟ أنت إذا من أبحث عنها في دنياكم هذه ؟؟
تحركت في محاولة لمعرفة ماذا يحدث لها ، وأرادت النظر خولها ، لكنه أشارمرة أخرى بصولجانه نحوها قائلا بصوت كالرعد :
ــــ لا تحاولي ..
( يا إلهي ــ أنقذني ..)
وفي صوت آمر أكمل :
ـــ لو حاولت الهروب مرة أخرى ستصبحين واحدة من هذه ... واضح
صدر منها صوت ضعيف وهي تقول في رجاء:
ــ لا لا أرجوك.. لا تؤذيني ... لا تجعلني واحدة منهن ..
ضحك باستهزاء وقال في تكبر مشوب بالغضب والتهديد :
ـــ إنهن نساء مثلك أيتها السيدة التي لا تخاف ، إنهن عصين أوامري فحولتهن إلى ما هن عليه ..
شعرت وكأن كل حواسها تتخلى عنها وبالكاد سمعته يقول :
( أنا أمير من الجن أتيت إلى دنياكم أبحث عن زوجة لي من الإنس ،وقد وجدتك أخيرا ..)
(فكري في عرضي ، لديك حتى صباح الغد ) .
أشار مرة أخرى إليها بصولجانه ، فإذا هي في غرفة وردية جميلة ، وتلبس منامة وردية زاهية وهنا كسرير كبير موشى بالذهب وعليه ملاءات من الحرير الصافي في ألوان رائعة تخطف الأبصار .
(يا رب ماذا يحدث لي ؟ ماذا يحدث لي ؟؟ ) ( أنقذني يا ربي ولا تتركني)
كانت في الجانب الآخر من الغرفة ،مائدة عليها كل ما لذ وطاب من الأطعمة والفواكه والمشروبات ،
(لا..لا كل هذا خداع ، هذا غير معقول ، هل يلعب لها عقلها الأدوار..) .
جلست تفكر فيما حصل لها ،
يجب أن تتصرف بذكاء ،لكي تتمكن من الخروج من هذا المأزق ، الآن
هي بين يدي أمير من الجن ،
( ماذا أفعل يا إلهي ؟؟ ماذا أفعل ؟ )
وبينما هي على حالها ، في حيرة وترقب شديدين وقد نال منها الخوف والتعب ،
سمعت طرقا على بابها ،
وإذا بإحدى القوارض تدخل غرفتها ،مستفسرة ما إن كانت في حاجة إلى شيء قائلة :
ــ سيدي يريدك ألا تحتاجي لشيء أبدا ،
واقتربت من السرير وتركت ورقة صغيرة تسقط على أرض الغرفة ،وعادت أدراجها كما أتت .
( يا إلهي ، إنها تريد مساعدتي ولاشك ... نعم ، نعم ...)
( لكن لا يجب أن يلاحظ الجني علي أي شيء ، ويجب أن أتصرف بدهاء كبير ، )
تركت الورقة هناك لمدة ، مخافة أن تكون تحت مراقبة الجني .
بعد مرور بعض الوقت ، قامت وتجولت في الغرفة دون أن تثير انتباه أحد إلى شيء ، وأخذت الورقة بخفة ودخلت السرير لتقرأها تحت الأغطية .
كانت الورقة تقول : ( يجب أن تأخذي صولجانه وتشيري به إليه ، فنعود إلى حالتنا الطبيعية ، فأنت منقذتنا ..).
كيف ؟
كيف ستتمكن من أخذ صولجانه ؟
بل كيف تقترب منه حتى ؟
من أين تأتي بالشجاعة والجرأة والقوة لفعل ذلك ، والفزع يأخذ منها كل مأخذ ؟؟
( أه .. أه ... سأتقرب منه رغم أنفي.. سأستجمع كل قوتي ،
يجب أن أضحي لأنقذ كل تلك القوارض ذات المناقير.
لكن كيف؟ كيف؟
غالبها النوم ، رغم رعبها وتفكيرها في وجوب إيجاد حل مناسب لا يضربها .
في الصباح الباكر فتحت عينيها ,قد تجمد الدم في عروقها ،لتذكرها كل ما مر بها من أحداث .
ولعدم إجابتها على السؤال الأهم في كل ذلك وهو كيف ستحصل على صولجانه.
وإذا بطرقات على الباب وجلبة ، وعدة قوارض ذات مناقير تكتسح غرفتها لأخذها إلى الحاكم ،
رفعوها على مناقيرهم كعادتهم ، وذهبوا بها إليه وقد جلس على عرشه الكبير المزخرف باللآليء والجواهر والموشى بالذهب تنبعث منه أضواء وأشعة أعمت عينيها .
وقف وهم يسقطونها كما فعلوا أمس أمامه ، فهبت واقفة بغضب ،
تجاهل ذلك وهو يبتسم ابتسامته اللئيمة تلك وسألها وكأنه يأمرها :
ــ ما قولك ؟
نظرت إليه بإمعان وجرأة وأجابت :
ــ ماذا أقول ؟ ــ أمرك ...لكن لدي شروطا ...
قهقه مستغربا من شجاعتها وقال باستهزاء:
ـــ ما هي؟
قالت وهي تكاد تتلعثم :
ـــ يجب أن أحبك أولا ...لن أتزوج منك دون حب ، والأمر يجب أن يكون متبادلا بيني وبينك ....
تقدم نحوها وقد استشاط غضبا وكادت عيناه الجاحظتين أ ن تخرجا من بؤبؤيهما الصفراوي والشرر يتطاير منهما وصاح :
ــ كيف تشترطين ذلك ؟ أنت مخادعة ولاشك ؟
أجابت وهي تتصنع الدهشة والاستنكار :
ــ لماذا الغضب؟
ألا تريد الزواج بآ دمية ؟؟ هذا شرع الآدميين ــ يمكنك أن تحولني إلى إحدى قوارضك إذا لم تقبله ...
تعجب من فكرتها وشجاعتها وعدم خوفها منه .
فقال وهو يطوف حولها متأملا إياها :
ـــ وكيف ستحبينني وأحبك ؟؟
قالت بصبر وهدوء :
ـــ سأعلمك ذلك وسوف نتزوج لو أحببتني حقا ...
استغرب كلامها كثيرا وبدا على ملامحه التفكير الشديد (فالجن لا يعرفون ما معنى كل ذلك ولا يتعلمون شيئا من أحد أبدا ،).
ساورته الشكوك في مسألة الحب هذه التي تقترحها عليه ،
قال لنفسه بغضب ( لو لم تكن بهذه الجرأة ولا تخاف مني ، لكنت حولتها إلى مثيلاتها على التو .)
ثم بدا عليه الهدوء وهو يقول :
ــ لك ذلك ، سوف أغامر ...
كانت تكاد تموت خوفا من فشل خطتها التي اخترعتها في الحال.
وكاد الرعب أن يطرحها أرضا وهي تطلب منه بهدوء الانسحاب للتزين له على عادة البشر.
راق له ذلك ولم يلاحظ أن قدميها تكادان لا تحملانها .
في ذلك اليوم ، طلبت منه أن يتنزها في حديقة قصره المترامية الأطراف وقد طردت خوفها منه والرعب الذي يكاد يقتلع قلبها من مكانه ، كلما اقترب منها لدرجة أنها ابتسمت له ،
فاقترب منها أكثر، يريد معانقتها ،
كانت ترتعد من الفزع ، لكنها تركته يقوم بذلك بينما وضع صولجانه إلى جانبه على طاولة كانا يقفان عندها في تلك الحديقة ، فما كان منها إلا أن مدت يدها إلى الصولجان وأخذته بخفة ودون أن ينتبه لها الجني الذي كان ينظر إلى وجهها الجميل .
وفي نفس اللحظة التي سحب فيها ذراعيه الكبيرتين اللتين احتوتا جسدها الصغير كله تقريبا، في تلك اللحظة بالذات اندفعت إلى الوراء وهي توجه له الصولجان ،
ورأته يتبخر، لم يبق منه إلا دخان كثيف تصاعد إلى السماء ،
وفي نفس اللحظة ، كانت إلى جانبها امرأة فائقة الجمال تصرخ بها :
ــ ارم بالصولجان .. ارم به إلى الأرض ...
فما كان منها إلا أن ألقت بالصولجان في فزع إلى الأرض ، فاندثر بدوره ولم يبق له أي أثر.
وكم كانت فرحتها كبيرة لما بدأت أفواج من النساء الجميلات اللواتي صب عليهن الجني الساحر لعنته وحولهن إلى قوارض ذات مناقير، تخرجن من القصر إلى الحديقة .
وفجأة ،
غاب القصر والحديقة وكأنهما لم يوجدا من قبل ، بل وجدت تلك النساء أنفسهن في خلاء فارغ تحت شمس محرقة .
توجهن إلى طريق على جانبيه أشجار وأخذن يسرن زرافات وفرادى بينما تراءى لها بيتها القديم في الأحراش المجاورة ، فتوجهت إليه برفقة بعض النساء من بلدان بعيدة أحضرهن الجني من أوطانهن إلى قصره ، في انتظار وسيلة قصد رجوعهن إلى بلدانهن .
قصة: فاطمة البسريني