عباس عجاج - ذكريات مبعثرة

يبدو أن تلك العقاقير التي وصفها الطبيب لا تُجدي نفعا , لا أدري لم أنا مصرّ على مراجعة العيادة , فالأطباء متشابهون جميعا, الأشياء التي ترحل لا تكتفي بالفراق, لابد أن تترك أثرا على الجدران, العقل اللاواعي متخم بها حتى الثمل.

هذا الأزيز في أذني لا ينجلي، منذ الانفجار المريع أشعر بأن نحلة قد دخلت في أذني، وقد طاب المقام لها.

رغبة عارمة تدعوني إلى الفراش. يوم شاق آخر, لن أغطي وجهي, سأترك الهواء يرشقني, النسيم البارد يشعرني بالانتعاش, لن أوصد الباب والنافذة , قاعدة أرخميدس تنطبق بالمضمون نفسه, باعتبار جسدي مغمور في بحر من الهواء, لعله يستجيب كمانع للقوى المؤثرة فيه, عموما .. حين أغفو سيكون الأمران سيان.

(صوت) – أصبحت تغفو مبكرا على غير عادتك.

- عمّار!؟ كيف جئت إلى هنا؟

- بيننا موعد , أنسيت؟ اليوم موعد توقيع الكتاب, انتظرتك عند باب المركز الثقافي , لم يحضر أحد, وها أنت غير مهتم؟

- غدا الأربعين , سنقيم أمسية تأبينية.

- قبل توقيع الكتاب؟ اتفقنا أن تكون الأمسية ضمن الحفل, أنت قلت ذلك ونحن في طريقنا إلى المطبعة.

- نعم, تذكرت ذلك, قبل أن يحترق كل شيء, كنّا معا في الطريق لاستلام كتابك الجديد " ذكريات مبعثرة " , شربنا الشاي معا في المقهى, كنت تستعجلني للنهوض حتى أني لم أُكمل شرب الشاي, خطواتك المتلاحقة أزعجتني بصراحة, الوقت متاح لنا, لا أدري لِمَ العجلة, وقوفي عند الإسكافي أغضبك كثيرا, كل شيء كان يسير على ما يرام لولا الاستعجال الذي لحق بك, لو أنك انتظرتني قليلا, ماسح الأحذية كان ولدا لطيفا – رحمه الله – لا أعلم كيف مات!

كنتُ أنظر إليك حينها, لحظة أومأتُ لك أن تنتظرني, النّار التهمت كل شيء بسرعة فائقة, الأسواق كانت مكتظة بالناس , الباعة على الأرصفة, عمال النظافة, البضائع, ألعاب الأطفال, كل شيء تحوّل إلى كتلة لهب صعدت إلى السماء, رأيت الأجساد تتطاير قبل أن تقع أشلاء متفحمة.

- آخرون يصرخون بهلع, الدماء في كل مكان, أسرعت إلى مكانك حيث كنتَ تقف, لم أجدكَ, قوة الانفجار قذفتك بضعة أمتار, بدا لي للوهلة الأولى أنك ما زلت حيّا, ابتسامتك كانت راسخة على شفتيك, وعيناك مفتوحتان, السرعة التي حصل بها الحادث لم تتح لك الوقت لإغلاق عينيك, أتعلم يا عمّار؟ ثمانية وأربعون قتيلا, أما الجرحى فقرابة المئة جريح.

- أعلم ذلك, لقد أخذونا معهم دفعة واحدة, ولحق بنا آخرون تباعا.

- من الذي أخذكم!؟ لم يأخذكم أحد, أمضينا الليل نجمع الأشلاء , ونُسعف الجرحى.

- وماذا نفعل بالأجساد, لم تعد لنا حاجة لها.

- آه .. نسيت أنكم موتى.

- ههههه, موتى ! نحن أم أنتم؟ مازلنا أحياء, ألا تراني؟ هاأنذا أحدثك, أنتم نسيتمونا, ألم أقل لك إنكم تنسون بسرعة؟.

- عمّار, أنت هنا بكامل جسدك, لا أثر للجروح على بدنك, لا أعتقد بأني أحلم, فأنا لم أنم بعد, إصرارك على تسميته ذكريات مبعثره أعتقد بأن له علاقة بما يجري الآن, أخبرني, كيف جرت الأمور هناك؟ مضى وقت طويل, لابد أنها كانت صعبه.

- تلك الثواني تحسبها وقتا طويلا؟ لا بأس , أنت لا تستوعب فارق الوقت بيننا, لن تفهم, دعك مني, حدّثني عنك, ماذا ستفعل؟ هل ما زلت تراجع عند الطبيب؟

ذكرُ الطبيب أعاد الضجيج في أذني, متى ينتهي هذا الألم, قال لن يستمر طويلا, سأتناول حبة مهدئة, هلاّ ناولتني شريط المهدئات؟

لابد أني كنت أحلم , كيف للأموات أن يكونوا بين الناس؟, لكنني لم أنم, عمّار كان هنا, وكان يحدّثني عن كتابه الجديد, ما هذه التوهّمات؟, ربما غفوت قليلا, فمن غير المعقول أن يكون هنا وهو هناك بنفس الوقت, سأجلب كأس ماء بارد, أشعر ببعض الحمّى.

أذان الفجر يصدح من مأذنة المسجد القريب, ينفذ الصوت عبر النافذة المفتوحة, يصطحب موجة هواء عليل, الوقت الطويل الذي قضاه صديقي بقربي حرمني النوم, سأصلّي الفجر وأعود للفراش مرة أخرى بعد أن أتناول حبة المهدئ, لن أذهب للعمل, غياب يوم لن يغير من الأمر شيئا؛

أين اختفى شريط المهدئ, كان مع الأدوية فوق المنضدة قرب التلفاز, لا أعرف لم تختفي الأشياء حين نكون بحاجة لها.

الماء البارد يعيد إلى الجسم حيويته, هنا تكمن فلسفة الموت والحياة, أشعر بأني قد نفضت تراب القبر عن جسدي بعد الوضوء, فاتني أن أسأل عمّار كيف خرج من القبر, كم أنا غبي, الأموات أجسادهم روحانية, لذا ينظرون للجسد كسجن باعتبار أنّ الأرواح سجينة الأجساد, اولئك الذين وقعوا بالانفجار قدموا أجسادهم مقطعة الأوصال قربانا لحرية أرواحهم, كتب عمّار في إحدى قصصه : " .. وكانت شهقتي الأخيرة امتدادا لتلك الصرخة عند الولادة", هل حياتنا الدنيا بمقدار صرخة من ذلك الزمان؟

سأعاود البحث عن المهدئ قبل أن أصاب بالهلوسة , عجبا, كيف وصل الشريط إلى وسادتي , أنا واثق أنه لم يكن هنا من قبل.

أمور كثيرة تحدث لا أستطيع أن أستوعبها, أي كان من أوصل الدواء إلى هنا فقد قدّم لي خدمة مجانية في زمن لا مكان لشيء مجاني به سوى أرواحنا التي تزهق كل يوم بلا ذنب.

عند المساء , الجمهور يملأ القاعة التي توشّحت بالسواد , تقبع على مدخل المركز لافتة تراصفت على محيطها صور الشهداء لتلك الليلة, وتناثرت الورود على تابوت رمزي مغطّى بالعلم الوطني.

وقف الجمهور يردّد بأسى : " هل أراك سالما منعما؟ وغانما مكرّما؟ هل أراك !".*

خلف المنصة , جلستُ بصفتي مقدمّا للأمسية, وبقربي كرسي فارغ كان من المفترض أن يرتقيه صاحب العرس الأدبي, وُضعت عليه صورة كبيرة, بإطار ذهبي, يلفّ ركنها الأيسر شريط أسود.

تبادر إلى ذهني أني حين جلست إلى المنصة التفتت العينان في الصورة نحوي , وبادرتني بابتسامة هادئة, ابتدأت حديثي بالتعريف بمؤلف الكتاب وعلاقتي الوطيدة به, تناولت الذكريات المبعثرة لأقرأ شيئا منه, انكشفت لي لا إراديا عن صفحة الإهداء, ما أثار استغرابي أنني قرأت الكتاب من قبل ولم تكن به هذه الصفحة, حتى أنها بلا رقم, سطران فقط : " إلى صديق عمري , ورفيق دربي .. مع التحية", بالتفاتة خاطفة نحو الصورة رأيت ابتسامة على محيّاه كأنه يقول : " ها ! مفاجئة!؟ ".

وضعت إبهامي على جنب الكتاب يبعثر الأوراق, حتى إذا استقرّت على إحدى الصفحات لأقرأ منها مقتطفا كتب فيه : " .. وقد كان وطني يزفّ أبناءه نحو الخلود, إلى حياة أبديّة, في برزخ سرمدي, حيث لا مكان للأجساد, أو زحمة الطرقات, ومع كل وداع فقيد, في جهة ما, نستقبل وليدا من جديد".

في مقطع آخر كتب " .. داليا, لم تكن طفلة صغيرة تحلم بلعبة العيد, تنظر إلى مرجوحة معلقة كبندول ساعتنا العتيقة, كان بعينيها أمل بحجم قطرات مطر هطل ذات صباح, تبعته شقائق النعمان تفترش الأرض, داليا, كانت هي الحلم الذي يراود الفراشات في حديقة منزلنا الصغير, كلما حطّت فراشة, تحرّكت نحوها بكرسيها المدولب".

أغلقت الكتاب لأختتم الحفل, شعرت بنكزةِ في خاصرتي, وسمعت صوتا يأمرني: " أكمِل ", كدتُ أن ألتفت خلفي لعلّ أحدا ما نكزني , ولكنني ليقيني أن لا أحد بالخلف تمالكتُ نفسي, وانصعت للأمر, وعاودت بعثرة الصفحات بإبهامي, فإذا بي أقف عند من ينعى نفسه قائلا :" .. تبقى الحروف كذكريات لمن رحلوا في غفلة من زمن, كأوراق شجر سقطت ذات خريف, إنهم لا يموتون, ما زالوا بالقرب, لو كُشف الغطاء عن البصائر لرأيتهم أمام عينيك, تعرفهم بسيماهم, ترحل أجسادهم البالية, وأرواحهم ترفرف بالقرب, كلما أُذِنَ لها عادت من جديد".

اُختتم الحفل, ووُزِّعَ الكتاب, وطُوِيت صفحة من ذكريات مبعثرة, وعدت إلى سريري, يضجّ الأنين في أذناي كعزف صاخب, تناولت حبة مهدئة, وطرحت رأسي على الوسادة, ما كدت أغفو حتى وقف عمّار عند رأسي يمسح العَرَقَ الذي صار يتصبّبُ على جبيني, سألني : " ماذا ستفعل؟".

- سأذهب إلى الطبيب عند الصباح, لابد أن أضع حدّا لهذا الطّنين , وإلا سأفقد سمعي. - لا حاجة لذلك, عند الفجر سآخذك معي, ولن تشعر بذلك الألم بعد اليوم.

.............................................................

• *مقتطف من النشيد الوطني العراقي


++++++++++++++++++++++++++++++++++++++++++++++++++

+++++++++++

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى